هذا ما تعلمته من الموت


*ليالي درويش


تعلمت أننا هنا لنسأل كل الأسئلة التي لا إجابات لها، وأن أي إجابة نجدها ما هي إلا مخدرٌ موضعي نضعه على عيوننا، ألسنتنا، قلوبنا وأيدينا حتى نتمكن من تناول وجبة طعام أو الوقوع بالحب أو الذهاب في نزهة.

تعلمت من الموت أن الرهان الحزين عليه بتغيير القلوب ومنحها المزيد من الحب، هو رهان فاشل، وأن الموت لا يغير الناس، وإن كان ولا بد فإنه يجعلهم أكثر قسوة، وخاب أملي عندما أدركت أن كثرة الموت لا تصيب الإنسان بالهوس أو الجنون، وإنما تَخَلَّق الألفة بينهما، بحيث يصبح الموت فرداً من العائلة أو زبوناً دائماً في مقهى لطيف في وسط البلد.
تعلمت من هذا اللعين أيضاً أنه ليس مخيفا، إلا أنه ماكرٌ ويقضم الروح خلسةً ويجعلك تائهاً لا تدري متى وأين ذهب الجزء الضائع من روحك. وهذا يصيبك بالعطش الشديد لتفاصيل دقيقة لا تعرف كيف تستعيدها ولا تستوعب أن تجد بديلاً عنها، وتكتشف وقتها أن روحك مثل لعبة «البزل» ناقصة القطع، وأنك ستظل مشغولاً بالبحث عن القطعة الناقصة التي تُكمل اللعبة.. تُكمل روحك، وهنا تحديداً سيضيع كل الوقت للأبد.
تعلمت كم أنا مزعجة لنفسي ولئيمة معها، وكيف أن الكلمات يمكنها أن تمر في رأسي مع موسيقى أحياناً، وأن ترمي بنفسها من أذنيّ أحياناً أخرى، بحيث أسمعها جيداً وكيف أنها تكرر نفسها مراراً على أمل أن أخرجها من رأسي الثقيل، ولكنني لا أفعل.
تعلمت كم أنا خرساء، وأنني أستخف بالكلام والكتابة، بل إنني أكرههما وأتهمهما بالكذب وتشويش المرور المؤلم الصادق لأسراب الكلمات في رأسي. تعلمت أنني عبقرية وأنني أسعى لاكتشاف جهاز يمكنه تصوير مقاطع من رأسي، بحيث تظهر الكلمات بشكلها النقي الأول وهي تنتحب براحتها، من دون أن اضغطها بقواعد اللغة من نحو وصرف. هذا الجهاز ربما يكون جهازاً كهربائياً يوصل بالدماغ مباشرة، عندها سأحصل على براءة اختراع وأدخل موسوعة «غينيس» كأصدق جهاز أنتجته البشرية، وربما إذا كنت كسولة فسأعتبر هذا الجهاز هو الحب الذي يجعلنا صادقين جداً من دون أن نتكلم وعندما نتكلم.
تعلمت من الموت كيف يكون الضحك كالبكاء، تعلمت منه أن أضحك عندما لا أستطيع البكاء، وأن أبكي بشدة لأنني أضحك الآن من دون الذين أحبهم.
تعلمت أيضاً الكذب من دون أن ترمش عينايّ. «كيف حالك؟ أنا بخير.. تمام.. كل شيء على ما يرام.. الحمد لله» أنا حقاً لا أشعر بهذا والله يعرف عمق الكذب الذي أتورط به يومياً، وأظن أنه لن يحاسبني على هذا لأنه يعلم أن الحقيقة لا تنطق. وأنه يحق لنا الكذب عندما يكون السؤال غبياً مثل «كيف حالك؟».
على ذكر الغباء فقد تعلمت أيضاً أن أكون غبية، وأن أرسم حياة مختلفة وغير حقيقية واستمتع بها وأعيشها كاستراحة من حياتي الحقيقية. في حياتي الافتراضية أقفز عن الموت أتجاوزه وأرسم احتمالات كثيرة عن الخلود الذي لا نشيخ فيه ولا نفترق، لا بأس أن نشيخ ولكن دعونا لا نفترق، كان من الغباء أن أكتب هذا لأن العلم يمكنه ان ينتج أدوية ضد الشيخوخة ولا يمكنه أن يوقف ذراعي الموت عن التصفيق عندما يحين وقت الوليمة الجديدة.
تعلمت منه أيضاً أن أجهز نفسي لأكون وليمته الجديدة، بل راودتني أفكارٌ مجنونة في المبادرة بذلك، وتقديم نفسي للموت كقربان لأفدي من أحب أو من تبقى منهم.
«خذ أيها الموت، هذا قلبي وهذه عيناي وهذا لساني الثرثار.. أنا مستعدة».
تعلمت من الموت ألا أخاف.. تعلمت أن أخاف. في الحقيقة أنا خائفة لأنني لم أعد أخاف وهذا يحرك في رأسي كل الأفكار المجنونة، كل الأفكار التي تمنحني القدرة على المرور إلى تلة خضراء من الكلمات الملونة والإجابات.. لا مزيد من الأسئلة لا مزيد من الوجع..
رأسي خفيفةٌ وقلبي لم يعد جائعاً.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات) كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!   * د. خالد …

ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات – فيديو

(ثقافات) ننشر تالياً المحاضرة الكاملة للباحث والروائي الأردني يحيى القيسي عن “ابن عربي الحائر بين …

حوار مع الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية

الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية: رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى  …

في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

مجدي دعيبس مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في …

في مئوية الدولة: الثقافة مرتكز أساسي للتأسيس والنهضة

( ثقافات ) مجدي التل  فكرة بداية مأسسة الحالة الثقافية والابداعية في الدولة الاردنية الحديثة؛ …

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *