*بسمة النسور
فرحت المرأة الضجرة كثيرة التذمر التي يعتبرها بعضهم غريبة الأطوار، في تلك الليلة فائضة الحرارة دبقة الهواء بليدة النسمات، حين تعطل التلفزيون على نحو مباغت، إثر خطوة حمقاء، أقدمت عليها بدون تفكير، مرددة في الفراغ شتائمها غير اللائقة، مغتاظة من تراكم الغبار، بسبب أعمال البناء الدائر في الجوار، بعد أن مرّرت، بيأس كبير، فوطة مبتلة فوق شاشته الكبيرة السوداء، فسكت عن الكلام المباح، مؤكداً، بشكل قاطع، عدم جدية الصناعة الصينية غير الثقيلة بأي حال. لم تشأ أن تستمع إلى موسيقاها المفضلة، كما تفعل، أحياناً، حين تدمي قلبها مشاهد الدمار في القنوات الإخبارية، لأن هدير الصمت المطبق الخاطف راق لها، وحفز حواسها المتوثبة أصلاً. سكينة ما هبطت دفعة واحدة على روحها المثقلة بالأسئلة والتوجس والريبة والفضول، تملكها إحساس مبهج بخفة الروح وخلاصها، اعتراها فرح طاغ في تلك اللحظة العابرة النادرة من الكشف، حيث وهم الخلود يغدو قابلاً للتصديق، تراءى لها أنها تغرف بملء ظمئها، من كف الحياة السخية المتدفقة بلا انقطاع، حفنة الحرية مقطرة مركزة مكثفة عذبة، لا مثيل لمذاقها شديد العذوبة، يغمر الحواس كلها.
أجنحة خفية حلقت بها في فضاء من الدهشة، تخفف انعتاقاً واستغناء كلياً تاماً، حلت العتمة في شقتها الصغيرة، باستثناء شمعةٍ، ظلت أنوارها الخافتة تتراقص مكونة أطيافا غريبة سرعان ما خفتت. فتحت عينيها مأخوذة، تنبهت والرحيق ما زال ماثلا في الفضاء! نهضت وقد عاودها الإحساس بوقع قدميها التي لامست الأرض، بيسر وأناة، بعد يقظة الجاذبية المؤسف من سباتها اللذيذ. أعدت قهوتها الخالية من السكّر، ببنها الثقيل، مضافا إليها نكهة الهيل وكبش القرنفل التي تضفي عليها بعداً أسطورياً باذخاً، على حد تعبيرها. جزعت حين تذكرت فوات موعد الحلقة الرابعة والعشرين من مسلسل قلم حمرة الذي تتابعه بشغف، وتغبط كاتبته السورية، يم مشهدي، على براعتها في سبر أغوار النفس البشرية، المسكونة بالحيرة في فضاء كابوسي ثقيل موحش من الحرب والقتل والتهجير والفراق. أرادت لذلك الليل الثقيل الصامت أن ينجلي. اشتاقت إلى طلة الصبح، حيث الأشياء تبدو أجمل وأكثر وضوحاً لها. تذكرت العصفور (الأهبل) الذي ظهر حائراً متلعثماً على بابها في الطابق الثاني، حين هتفت جارة حسودة بغيظ أن ثمة عصفورا يطرق بابك (لعلها بشارة ما).
حاولت مساعدته للطيران، بعيداً عن ذلك الأفق المحدود تجاهلها تماماً، وهبط متقافزاً على الدرجات، بقدمه الصغيرة الدقيقة، بعد أن تلا عليها ما تيسر من الزقزقة. تتهمها صديقة مقربة بالسحر والشعوذة، بسبب التعاويذ والآيات والأدعية، وكف فاطمة وكومة الأغصان الجافة، والخرزات الزرقاء التي تزين المدخل، وتمنح الإحساس بأنك على وشك دخول صومعة، عابقة بالبخور والمسك والعنبر، لعرافة عتيقة على صلةٍ بقوى خفية، تحرسها وتدرأ عنها الشر، وتمدها بطاقة المضي في دروب الحياة. كادت الصديقة، لفرط اتساع ذمتها، أن تقسم، مرة، أن السيدة مخاوية، وأن ثمة من يحرس روحها هناك في الأعالي. تقرر المرأة، غريبة الأطوار التي منحتها الحياة الكثير، ولقنتها، في الوقت نفسه، دروسا كبرى في خيبة الأمل، أن الوقت قد حان كي تتعلم. تطفئ الشمعة، تفتح شباك النافذة، صوت ليلى مراد يخترق الصمت، منبعثا من سيارة عابرة (يا حبيب الروح فين أيامك)، تتأمل الوجود بغبطةٍ مطمئنة إلى حلاوة بطيخة الجيران الساهرين في الحديقة، يلتهمونها باستحسانٍ كبير، تفرح بشكل غامض لهذا المشهد السخيف، وتحب الحياة أكثر.
______
*العربي الجديد
______
*العربي الجديد