مذكرات عائدة من الموت


وداد بنموسى *



في صباح الاثنين من سنة ما استيقظت على قرار الانتحار، وبلا أدنى أسف أو ندم أو حتى إحساس ما بالخوف أو الشجاعة الكاذبة، وبخواء تام في الروح، قررت أن أرتاح، أن أستسلم للسكينة المطلقة، لتلك الهدنة اللذيذة السخية التي تسحبك إلى أبعد نقطة للسلام…
قبل قراري ذاك، كنت أعتبرني مريدة ملازمة للشيخ الجليل سيدي «الحزن»، على يده حفظت الأوراد والتزمت بها صباح مساء، ورددتها في سري وعلانيتي، لكن الحزن الذي جمَّلني طويلا خانني، ولم يكن مني سوى الهروب إلى أوهام أخرى، هي ذاتها التي أرَّخت لعنفواني وزهوي، إلى أن التقى الساكنان فقررت حذفي نهائياً من لائحة المنتظرين لساعة حسم كنت أريدني صاحبة القرار فيها… فقررتها..
ثم جاء السيل والفيض وغمرني، وانتهيت إلى نهايتي: سأشبك أصابعي بأصابع الموت، وسأغلق باب الحياة وأغادر. لا شيء مطلقاً يستحق أن أبقى من أجله..
غير أن أختي لطيفة في صباح ذلك الاثنين، لم يهدأ قلبها، وباكراً جاءت إلي لتجدني ممددة على السرير وقد تهاوت قواي جميعها.
بعد ساعات الإسعاف لم يعد القرار قراري، رأيتهم وأمري شورى بينهم، أناس لم أتبين انتماءهم لي ولا علاقتي بهم وبرغم ذلك قرروا بشأني: سأكون نزيلة الغرفة 202 التي من فضائها المعتم أنقل ما علق في الذاكرة من لُحيظات هاربة لا مستُ فيها الجنون والعبث، الرهبة والقلق، اليأس وسخرية الأقدار، والرغبة المجنونة في فهم العهر الفاحش الذي تعاملت معي به هذه الوقحة الحياة.
لا يهمني أن أصنع تاريخاً لجنوني ولا لحالة اليأس التي عشتها، ولكني أطمح أن أسخر فقط، أن أبصق في وجه السفلة المزيفين والتافهين،أن أتمرد على المرأة التي كانت تقبع داخلي راضية بالهوان ولعب الأدوار التي لا تليق إلا بالمنهزمين الضعفاء، إلا أني لم أخلق ضعيفة، طفولتي الباذخة تشهد على ذلك، الحروب الصغيرة التي كثيرا ما انتصرتُ فيها في مستهل العمر بذكاء الأنثى تشهد على ذلك، الانتصارات التي حققتها في الوحدة ما بين القصيدة والأغنيات شاهدة على ذلك، حتى وأنا أجعل من هذا العمر غباراً حين أقرر الرحيل الأبدي أكون الأقوى، لأنه ليس بوسع أحد أن يلج العاصفة وهو العارف أي شتات سيصيب جسده وكيانه ووجوده، الذين يقررون الرحيل الباكر ـــ كي لا أسميهم المنتحرون لأني لا أستطعم الكلمة كثيرا ـــ ليسوا جبناء، إنهم كائنات تربوا على رهبة الموت وجبروته وقسوته، وبرغم ذلك تجدهم بقاماتهم التي بحجم حبة الخردل يقفون وجها لوجه أمام الجبار الموت…
الأحد من ليلة ماطرة
بالكاد أتعرف عليّ. هل حقا أتعرف عليّ؟؟
هل عدتُ إلى الحياة؟ وأصابعي التي كانت متشابكة بأصابع الموت، كيف هي الآن حرة في هواء الغرفة 202؟ ولساني الذي لم ينطق طوال هذا الموت، كيف بعد كل ذلك اليباس سألحس به وجنة الله؟
أضع يدي على صدري، أتحسس نبضي، وددتُ لو ألمس قلبي، لو أسأله لو يجيب، لو نحتسي معاً حليباً ساخناً نستعد به للنوم، وددتُ لو يكون قلبي، صديقي هذا المساء، لو أخرج صحبته إلى شارع محمد الخامس، وندلف إلى مطعم «لاماما»، ونطلب من سعيد النادل الطيب أن يجلب لنا «بيتزا» بفواكه البحر، ونتصالح، ونتراشق، ونتهامس في انتظار فرح يلغي المسافة بيننا، يلغي الفراغ الذي استوطن الجسد، الجسد الناطق بالحياة، بعد عناق شهي مع الموت…
فجر خميس لا يبدو أنه طيب:
صباح الخير يا أنا..
هل نمتِ جيداً؟ أهي قصة الكوابيس ثانية؟ أهي نفس الوجوه البشعة في الحلـم؟ أهو نفس النزف؟ لا عليك.. ما رأيك أن نخرج قليلا إلى الشمس، حرير خـصـلاتها تسلل عبر النافذة، فهل لديك يا أنا رغبة في أن نتدفأ قليلا بالبحر، أو نسكن شاطـئاً قصياً نحصي عليه الموج واللحظات؟ أم هل يحلو لك أن نبقى هنا في الغـرفة 202 نتأمل السقف الأخرس والكرسي الأعرج، والطاولة التي دنسها ذباب ليلة أمس الذي تجمهر حول بقايا طعام وفاكهة نضجت قبل أوانها؟
أرأيت يا أنا.. حتى شغف الاختيار ميت، وميتة كل الرغبات…
ثلاثاء بارد كحواسي
يأتي الصباح من جهة سوداء في روحي…
يأتي الليل من كوكب بعيـد في أفكاري، وخارج الوقـت، أحصي أيامي كـحبات الرمل.. وعلى المعبر المفضي إلى حقيقتي التي لا تبين، أترك بصمة واضحة لكفي اليمنى، وبالكف اليسرى، أتلمس طريقي نحو العدم.
يبدو أن الزيارة ممنوعة، لم يأت من الأعداء أحد، ولست في انتظار أحد، ولا يهمني أن يكون أحدهم قد فكر في زيارتي، ولست في حاجة إلى أي ابتسامة أو عناق، إنني في حاجة فقط أن أعرف لماذا أنا هنا؟ ولما هي ممنوعة كل الأشياء؟
أفكر في الشاعرة الأميركية «سيلفيا بلاث» وفي الشاعر المغربي «أحمد بركات» اللذين قررا مثلي مغادرة الشرفة التي كانا منها يطلان على الوجود فكان لهما ما أرادا، أما أنا فما زلت هنا، أمارس الفراغ كعبادة، ألمس أطراف اللاجدوى من كل شيء، وبرغم ذلك لا منفذ لي إلى الهناك، حيث «أمي مينة» مثلا، المرأة الوحيدة التي عشت تفاصيل انتحارها وعمري لم يتجاوز الحادية عشرة في ذلك الصباح الباكر في مدينة «العرائش» حين اختارت أن تسقط من سطح بيت عمتي العالي، حيث كانت تشتغل كخادمة، ظل حادث انتحارها طوال أعوام يولِّد في أعماقي الأسئلة تلو الأخرى.. خصوصا بعدما علمتُ أنها قبل وفاتها كانت قد شربت ما يقارب أربع لترات من الحليب البارد.. ثم جذبتها الهاوية وعلى العشب الأخضر للحديقة وجدوا جسدها الرخو وقد غطته بعض أوراق الشجر.
نواقيسُ العزْلة
الاربعاء، مبهم هذا الأربعاء
الغرفة 202 تضج بالصراخ..
كل شيء يصرخ فيَّ: الطفولة، الحب، السنوات الخائبة، الأصدقاء الذين في الذاكرة، الإخوة الأعداء، المخدة، دمعتي الناسفة، العشب النابت على حواش الجسد، الذكريات، رائحة عمي امحمد، شهواتي الفاترة، الهاتف النقال، الصور، الرحلات، السرير، زفرة أمي الأخيرة، العتبة التي توسدتها بعد موتها، البياض الذي غلف جسدها في الطريق إلى مقبرة الشهداء بالدار البيضاء.. كل شيء يصرخ: اللحظات التي حسبتها أبدية، العنفوان الذي تحديت به خجلي، الرفض الذي خُلقتُ به، عاداتي في المراوغة الفاشلة، اللكمة التي تركتها على وجه صديق والدي وهو يحاول اغتصاب دميتي…
صراخ..
عقلي بدوره يصرخ..
في قلق جبار أتكوم، في انتظار أن تحدى المعجزة وأنام…
كان يوم قطاف التفاح من الحقول المجاورة، يوم سبت برائحة البنزين:
خيَّبَتْ آمالي تلك الفتاة في الغرفة المجاورة..
أمس رأيتها تبتسم، قلتُ: نَجَتْ.
غداً سوف أرى وجهها المضيء إذن، وقد أدعوها للحديث، وقد أقص عليها الحد الأدنى من أوجاعي، وقد أتطلع إلى مزيد من ابتسامها، وأستلهم منها أملا لقصائدي التي لم أكتب بعد، وقد أخفف عنها قليلا حين سأجعلها تصدق أنني كنت فيما قبل بائعة ورد في محطة القطار، ثم قد أسليها حين أستمر في الحكي وأقول لها إن الشرطة طاردتني فقررت أن أكون نائبة في البرلمان وكان لي ذلك، ثم قد أجعلها تضحك حين أقول لها إن من انتخبني من أهل الحي لعن اليوم الذي رآني فيه لأني لم أكن سوى انتهازية لم أفوت فرصة للكسب وبناء العمارات والفيلات الفاخرة.. ثم سأبرر لها جميع مواقفي التي دفعتني بعدها لأمتهن أقدم مهن العالم:…ليس لي مبرراتي في الواقع ـــ سأقول لها ـــ إنما أنا ضحية كاتب وكتاب، ضحية «كابريال كارسيا ماركيز» وضحية روايته «مذكرات عاهراتي الحزينات»، أقصد تحديداً ما كان يحدث لنا في الصغر عندما كنا نرى أفلام الكرتون فنقلد حركات القوي ونتوهم أننا لنا نفس القدرة على هزم الآخر، هي نفس الزلة، فالعاهرات الحزينات كلهن نحن، وكل واحدة منا تتوهم أن لها في الدخيلة السرية «ماركيزها» الخاص.. «ماركيزها» اللعين…
هي لا تعرف أني أعرف لما هي هنا في الغرفة 201، وهي لا تعرف أني أعرف أن الموت شطح بها مثلي ذات ليلة لم تتعرف على قمرها، فأتوا بها إلى هنا إلى الغرفة 201 كي تتجاسر على الموت، وتكبر قليلا في الحياة، كي تستعيد يفاعة ابتسامتها، وتخرج من الدائرة، تلك التي تنغلق أحيانا حتى لا مفر…
«فتيحة» الممرضة السمراء هي التي حكت لي قصتها حين أتت إلى غرفتي قبل ليلة أمس، لتدس في راحتي اليمنى حبة «الفاليوم» كي أخمد بها نار أعصابي وأنام، قالت لي إن الفتاة من أصل ريفي، أتى بها والدها قبل أسابيع بعد محاولة انتحار فاشلة، قالت إنها كانت متفوقة جداً في دراستها وهادئة ومسالمة، إلا أنها فجأة تحولت إلى كائن آخر، تتغيب عن القسم لتقضي طيلة الوقت في المشي، تجوب شوارع مدينة «الناضور» في صمت وذهول، إلى أين كانت تمضي؟ وعما كانت تبحث؟ وما الذي كان يدور في رأسها؟ لا أحد كان يعلم…. من فقيه لفقيه ومن طبيب لطبيب، ولا فائدة.. أحياناً قالت لي فتيحة إنها كانت تصرخ طيلة الليل وتستنجد: واعتقوني…عافاكم عتقوني.. فلا يجدون سبيلا إلى تهدئتها إلا بحقنها «بالفاليوم».
تعددت التآويل، هناك من قال إنه سحر معمول لغيرها ولسوء حظها تخطته هي. وهناك من قال إنها فعلة جن، وهناك من قال إنها عين حسود..
لكن الفتاة الصامتة الطيبة الجميلة الوديعة خيبت آمالي: وجدوها هذا الصباح ممددة على سريرها، بعد أن أخذت الجرعة الكافية من حبوب النوم، كي لا تصحو أبداً.


(شاعرة من المغرب)
السفيرالثقافي

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *