محمّد محمّد خَطّابي*
خاص ( ثقافات )
مصر التي في خاطرنا، وأفئدتنا، ووجداننا، بعد طول عناء وطول انتظار، بعد أن قلَوْكِ زمناً.. وجرحوك أزماناً.. ها نحن نتطلّع إليك اليوم من بعيد، وأنت حائرة، ملتاعة، قلقة، متوجّسة في مفترق الطرق، نصغي إلى أنينك، ونتلظّى لنداءاتك، ونتشظّى لآهاتك، ملأت جسمك الجروح، وتسربل إهابك بالقروح، تذكرين العهدَ والجدّ والدّار، تنعين أمجادَك، وتتألّمين لماضيك، نهشوك نهشاً، وخدشوك خدشاً، ومزّقوك إرباً… خذلوك يا أيتها الأرض الآمنة المخصاب.
مصر التي في كياننا.. ها أنت تطلّين علينا مشرئبّة الهامَة، عالية الهمّة، من قعر الهوّة السحيقة، واليمّ العميق الذي لا قرار لهما، اللذين زجّ بك فيهما، فهل لك مَخرج منهما، أو ملاذ قريب..؟ وهل من مَنفذ لهذه المحنة التي ألمّت بك..؟ وما انفكّ فلكك يهيم، ويتخبّط خبط عشواء تائهاً، متأرجحاً، مترنّحاً، حائراً، بدون وجهة، ولا بوْصلة في بحر متلاطم، هَائج مَائج، لججه عالية عاتية، وأمواجه هادرة مُزبدة! وها قد أضحى صيفك قائظاً مُستعِراً، وأمسى خريفك شاحباً مكفهرّاً، وغدا شتاؤك صقيعاً منهمراً، وأصبح ربيعك مُزهراً مُزدهراً.. ولكن واحسرتاه.. لقد مرّ بك في لمحٍ من العين كخِلسة المختلس…!
تحملين همومك، وقلقك، وهواجسك، فوق ظهرك وتمضين، ولا أحد يبالي بآلامك، ومعاناتك إلا شعبك وأهلك الطيّبون، ولا أحد يكترث بأحزانك، وعذاباتك إلاّ أناسك، وأبناؤك البَررة ومُحبّوك..!
مصر.. كلمة سحرية تحمل في طيّاتها أجمل المعاني وأنبلها، كلمة تنثال على شفاه ناطقيها كقدَر مُشعل، أو كبريق غسَق منبلج بين ثنايا دياجي ليل سديميّ بهيم مدلهمّ، يندّ عنه فجر نورانيّ مشرق مضيء.. اشتدّي أزمةٌ تنفرجي/ قد آذن صُبحك بالبلج..
على الرّغم من بعد المسافات، ونأي الصّحارى والقفار، وهوْل التوابع والزوابع، وانهمار البحار والأنهار، وشموخّ الجبال والتلال، وشهق الآكام والمرتفعات، التي تفصل بينك وبين الهائمين بك، وبين خلاّنك وعاشقيك، فإنّهم جميعاً مدركون لا محالة، أنّه ليس هناك قوّة يمكنها أن تثنيهم مهما كان عتوّها وجبروتها عن معاودة اللقاء بك، وتجديد عناقك، هيام متيّميك لا يتغيّر، ولا يفتر، بل إنه يزكو، ويتكاثر، وينمو يوماً بعد يوم، لا يطوله البلى، متجدّد كالصّبح الوهّاج، متفتّح أبداً كشرانق فراشات ورودك الزكيّة، وشذى أكمام زهورك النديّة. وأفئدة المولّهين بك، وبسِحرك، وعِطرك، وجَمالك، وبَهائك تنبض أبداً باسمك السّاكن في كلّ جنان، والقاطن في كلّ كيان، والسّائر على كلّ لسان.
على الرّغم من شحط المزار، والبعد عن الديار، وقيظ الفيافي، والمهامه، والمفاوز، والقفار، أنت يا مصر ملازمة لنا في معايشاتنا، ساكنة في لحظات عمرنا المنساب، وحاضرنا هذا الكئيب، كهيدب من إهاب، أنتِ ديباجة كلّ بيان، وسحر كل تبيين، وحاضرة أبداً في أعمق أعاميق الوجدان.
أبو الهول.. ارتاع نابليون لرؤيته، وهلع ورُوّع لنظرته الأبدية المحيّرة المخيفة، وملأ الحقدُ قلبَه، ارتاع، وإلتاع لصموده وشموخه، ذات يوم تطلّع إليه متزمّتاً مفتوناً، أنكر ابتسامته، رآها ساخرة متشكّكة، فأطلق مدفعه في وجهه الأبدي، وشوّه أنفه، ولكنه لم ينل قيد أنملة من أنفته وكبريائه.. أبا الهول طال عليك العصر/ وبلغت في الأرض أقصى العمر…!
كم من رحّالة تغنّى بمآثرك، وافتتن بجمالك، وقناطرك، ومراعيك، وجنانك، ورياضك، وجداولك، وجدائلك، وحدائقك، وبساتنك، وريفك، ونهارك وأمسياتك، وغسقك وشفقك، وصبحك ولياليك، وببحريْك الناصع والقاني، اللذين يشقّهما نيلك الخالد في انسياب أبديّ سحريّ، أسطوريّ محيّر. وكم من زائر واله بك سحرته مناظرك، وأسرته آثارك، وأذهلته مآثرك، وبهرته أهراماتك، وقاطنوها خوفو، وخفرع، ومنقرع، وراعه أبو الهول ثابتاً لا يتزحزح يتحدى الزّمن.
كم من رحّالة انطلق من هذا الصّقع النائي البعيد، منذ شيخ الرحّالين ابن بطوطة الطنجي المغربي، إلى آخر مسافرٍ أو زائرٍ وصل لتوّه إلى أرضك الفيحاء من كلّ صوب وحدب، سائراً، ساهراً، طائراً، ومهرولاً، مشتاقاً، ملتاعاً، ليرتمي في حضنك الدافئ.
من أيّ عهد في القرى يتدفّق نيلك العظيم، كم أقام أجدادك على جنبات ضفافه المبثوثة بالبساط الأخضر، وعلى كثبانه، وسهوبه، وسهوله، ونخيله، وهضابه الفيحاء، أمينوفيس، توت عنخ آمون، نفرتيتي، أخناتون، مينفيس، كليوباترة، حتبشوت، رمسيس، سميراميس…
كم من قصّة حكيت، وأسطورة نسجت، وحكاية حيكت على وقع خرير مياهه الأبدية، كم من نبيّ وتقيّ ورع نقيّ، وقطب ربّانيّ مَشَى على ثبجه، وتوضّأ بمائه الطاهر، وكم من مركب من مراكب البّردي وزوارقه، ومن فُلك الآسل مَخرت على صفحته البلّورية، وشقت حيازمها غمرَ عُباب مياهه المتلألئة، وهي محمّلة بأحقاق الأحلام، والآمال، والأشعار، والأزهار، وقوارير المِسك، والعنبر، والكافور وما طاب واستطاب من خيراته، وثماره، وبهاراته…
من أيّ عهد في القرى تتدفّق/ وبأيّ كفّ في المدائن تغدق
ومن السّماء نزلت أم فجِّرت من/ عليا الجنان جداول تترقـــــــرق..
مصر التي في خاطرنا.. مصر التاريخ، مصر الحضارة، مصر المباركة، التي شرّفها الله تعالى في القرآن الكريم “ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ” أوّل ما يقرؤه الزّائر أو الداخل إلى سرّة الكون، وكنانة الله في أرضه، عند وصوله إلى قاهرة المعزّ.. أمّ المدائن، وسيّدة الحواضر ذات الألف مئذنة.
مصر التاريخ الفريد في بابه بين تواريخ الأمم، تبهر الناظر إليها، وتأخذ بمجامع كلّ من رأى آثارها، ومآثرها، وعمرانها، وعمائرها، وبنيانها، وقلاعها، وحصونها، وقصورها، وأقْصُرُها، مهد الحضارة، والعلوم، والفنون، والآداب، والألوان، والتصوير، والتنوير، والتطرية منذ غابر الأزمان..
حسن الحضارة مجلوب بتطرية/ وفى البداوة حسن غير مجلوب
مصر الجمال السّاحر، والحُسن الآسر، في العيون النّجل العسلية المسبلة التي تسافر بك إلى آخر الدنيا، وتغوص بك في بحورها، وتنقلك في لمحة من العين إلى عوالمَ سحرية لازوردية نائية ملوّنة حالمة..
ما لعيونك لا تنامُ/ كأنَّ في جفونها كِلامُ (جراح).
مصر.. الأزهر الشّريف، والجوامع، والصوامع، والمآذن، والقباب، والتكايا، والزوايا، وأولياء الله الصالحين والأقطاب الربّانييّن، مصر السيّد أحمد البدوي، نزيل طنطا، والقادم من فاس، والسيّد المرسي أبو العبّاس، نزيل الإسكندرية، والقادم من مرسية الأندلس..
مصر… الجَبرتي، ومحمّد عبده، والأفغاني، وقطب، وعبد الرازق، والرّافعي، والبنّا، ومتولّي، وشعراوي…
مصر الفكر النيّر الخلاّق، والثقافة الرّاقية، والأدب الرّفيع، والشّعر، والسّحر، والسينما، والمسرح والموسقى، والزجل والمواويل، وأعذب الألحان، والعطر العبق الفوّاح.. وعيون بهيّة.. وخلاخل عدويّة.
مصر.. حافظ، وشوقي، والبارودي، والمنفلوطي، والمازني، والحكيم، ومحفوظ، وطه حسين، والبِّشري، وحقّي، وعبد الصبور، وباكثير، والعقاد، وروز، وميّ، وشعراوي…
مصر.. ليلى مراد، وأسمهان، وأمّ كلثوم، وبديعة مصابني، ومحمّد فوزي، وعبد الوهّاب، ودرويش، وعبد الحليم، وفريد، ومكّاوي، والموجي، والطويل، وبليغ حمدي، ومكّاوي، والرّيحاني، وأبيض، ووهبي، وشاهين…
مصر التي في خاطرنا مصر العمّال الكادحين، والصنّاع العسيفين، والفلاحين البسطاء، الذين يقنعون بالقليل، بناة أعظم حضارة عرفها التاريخ القديم،
“أنا الفلاّح في مِصرَا/ أردّ تُرابها تِبرَا”..
“يالله بنا على باب الله يا صنايعية… يجعل صباحنا صباح الخير يا أسطة عطيّة”
“صبح الصّباح فتّاح يا عليم… والجيب مافيهشي ولاّ ملّيم”…
مصر.. الأهرام، والمقطّم، وآخر ساعة، وأخبار اليوم، والجمهورية، والهلال، والمعارف، والمصوّر، وروز اليوسف..
لكلّ زمان مضى آية/ وآية ذاك الزّمان الصّحف..
مصر.. الجنود البواسل، المدافعون عن أرضها، وثراها، وحوضها، وحوزتها، بالنفس والنفيس، الذائدون عن كلّ شبر من ترابها الذي روته دماء شهدائها على امتداد تاريخها الطويل، حتى أصبحت – كما قال قائلهم- “مقبرة الغزاة”، فمن أراد بها أو لها سوءاً قُبر فيها، ومن أراد لها خيراً كرّم، وعزّز، ووضعه سكّانها الطيّبون على رموشهم! وللحرّيّة الحمراء باب/ بكلّ يد مضرّجة تدقّ..
مصر التي كادت أن تحقق اكتفاءً ذاتياً، وأن تعمل على إيصال منتوجاتها إلى كلّ مكان، وأن تحقق قفزات اقتصادية، وتجارية، وتصنيعية، وسياحية نوعية مهمّة في مختلف القطاعات، المرافق، والمجالات….لا تسلني اليوم عن حالها وأحوالها.. فلكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ/ فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ..!.
مصر التي كانت تضطلع بدور رياديّ طلائعيّ بارز في منطقتها، وما جاورها، كانت حافظة دوماً للسّلام، راعية له، ومشيعة للخير والبرّ والبركة، والطمأنينة، والأمن والاطمئنان.
مصر التي كان “صوتها القاهريّ” حتى الأمس القريب يصدح في مختلف إذاعاتها، ووسائل إعلامها المتطوّرة والمتعدّدة جَهوريّاً، قويّاً، مدويّاً ليُسمع في أقصى الدّنا، وعمق المدائن، والحواضر، والقرى، والضّيع، والمداشر، في الغدوّ، وفى الرّواح، وفى الصّبح وفى المساء، وكانت فضائياتها الرائدة تملأ الدّنيا، والأجواء الأثيرية البعيدة في المدى اللاّمتناهي، وكانت تطلّ وتهلّ علينا من خلالها وجوه حسان، وابتسامات نديّة تؤسرنا، وتسحرنا، وتترفّق بنا، وتتدفّق في أعماقنا في رقّة، وعذوبة، وطلاوة، وحلاوة، ودلال، وانسياب.
مصر المؤمنة الآمنة التي كانت حاضرة في كلّ بيت، توصل إليك أذان الفجر في مسجد السيّدة زينب، والظهر من سيّدنا الحسين، والعصر من السيّدة سَكينة، والمغرب من السلطان الحنفي، والعشاء من الإمام الشافعي.. رحمهم الله تعالى جميعاً، وكانت تجعل النّائين عنها، والمغتربين يعيشون عوائد، وعادات، وتقاليد، وطقوس أمّ الدّنيا، وكأنهم يعيشون فيها…
مصر.. كلمة ذات النبّرة الحلوة الآسرة السّاحرة تدخل القلوب دون استئذان… تعيش هذه الأيام مرحلة انتقالية عسيرة، وأوقاتاً صعبة عصيبة، وتجتاز ظروفاً قاسية صعبة، نار الفتنة ما برحت مختبئة تحت ثفال أتونها، لقد علقت الحيرة أهلها، وذويها، وسكّانها، وقاطنيها، وواجهوا فتنة تلو فتنة.. و”الفتنة أشدّ من القتل”، وأحدّ وأفتك وأفدح من التنكيل، والتهويل، والتقتيل، إنّها تجتاز اليوم مخاضاً عسيراً لا بدّ أن تخرج منه منتصرة بسلام.. ترى أين المفرّ… وأين المستقرّ؟ بعد أن شبّ في قلوبنا حريق… وضاع أو كاد من بين أقدامنا الطريق، أنزل الله تعالى عليها وعلى أهلها الطيّبين السّكينة، والطمأنينة، والألفة، والتآلف، والوئام، والسّلام، والأمن، والأمان، والتصالح، والتسامح، والتصافح، والاستقرار، والتعايش، والعودة إلى سالف عهدها الزّاهر، وإلى مجدها الباهر… فآخر الليل الطويل نهار..!
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا – (كولومبيا).