الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية:
رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى
حاوره: بسام ناصر
تمتاز الأعمال الروائية للباحث والروائي والإعلامي الأردني، يحيى القيسي بالبحث المعرفي، والاستشراف العرفاني، فهي ليست حالة فنيّةً سرديّةً فحسب، بل تغوص في عالم الفكر والتصوف والمتيافيزيقا، أو “الماورائيات” كما أطلق عليها أحد النقاد، وهي تعكس تطور تجربته الوجودية بمراحلها المختلفة.
وكشف القيسي عن مراحل تجربته الوجودية التي مر بها، فبعد أن كان متدينا بشكل تقليدي نقلي، وهي التجربة التي بقي فيها منذ طفولته حتى سن الثلاثين تقريبا، ثم دخل بعدها في مرحلة الشك التي قادته إلى “اللاإيمان” لمدة عشر سنوات، متأثرا بقراءاته في الفلسفة، واختلاطه بالأدباء والمثقفين في الأردن، الذين يغلب على جلهم الانشغال بالفكر الماركسي، وعدم الإيمان، وهو ما رصده في روايته “باب الحيرة” التي صدرت عام 2006.
ولفت في مقابلة خاصة بـ”عربي21″ إلى أنه تطرق في روايته “أبناء السماء” التي أصدرها عام 2010 إلى العديد من الأسئلة حول إمكانية وجود حضارات عاقلة أخرى خارج الأرض، وفي هذه الرواية بدأ مرحلة الإيمان القائم على الاقتناع والعلم والتصوف الفكري، وليس الطقوسي، وقد أنجز بعدها رواية “الفردوس المحرم”، التي شكلت ثنائية مع ما سبقها، فتعمق في الماورائيات، والأبعاد الكونية..”.
وتابع: “أما الرواية التي تلتها فقد جاءت في العام 2018 وهي “بعد الحياة بخطوة” وتندرج في مقاربة تجربة الاقتراب من الموت، وإمكانية استمرارية الحياة بعد رحيل الإنسان، إذ تقوم الفلسفة التي طرحتها على أن الموت هو انتقال من مرحلة إلى أخرى، وخلع للجسد المادي، وليس فناء لا للجسد ولا للنفس، أما الروح فهي خالدة وهي نفخة إلهية لا يعتورها التبدل والفساد”.
أنجز الباحث والروائي الأردني، يحيى القيسي الذي عمل كاتبا ومحررا ومراسلا صحفيا، لعدة سنوات، في صحف ومجلات أردنية وتونسية وخليجية وعربية، خمس روايات، وقصتين قصيرتين، وفي المجال الفكري البحثي كتابين “حمى الكتابة ـ حوارات في الفكر والإبداع” 2004 و”ابن عربي في الفتح المكي: الانتقاص من القدر المحمدي” 2019.
في هذا الحوار يتحدث الروائي القيسي عن تجربته الوجودية، ومحطات ومراحل تحولاته الفكرية، وولوجه لعالم التصوف والماورائيات، وتفريقه بين التصوف الفكري والتصوف الطقوسي، ومعالجة الأسئلة الوجودية الكبرى، كمن نحن؟ ومن أين أتينا؟ وما هو دورنا في الحياة؟ وإلى أين نذهب بعد الموت.. وتقديم مقاربة عميقة لتجربة محيي الدين بن عربي، صاحب فصوص الحكم، والفتوحات المكية.. وما إلى ذلك من موضوعات وقضايا دينية جدلية وشائكة.. فإلى نص الحوار..
س ـ أطلق بعض النقاد عليك وصف “روائي الماورائيات” وهي تسمية تعكس مدى انشغالك بالقضايا الغيبية والماورائية في رواياتك ومجمل كتاباتك.. هل مررت بتجربة ومعاناة وجودية خاصة انعكست على أعمالك الأدبية؟
ـ رواياتي تقوم على البحث المعرفي، وعلى الاستشراف العرفاني، لهذا فهي ليست حالة فنيّةً سرديّةً فحسب، بل تحمل في داخلها خبرات مُقطَّرة في الفكر والعلوم والتصوّف والميتافيزيقا، أو “الماورائيات” كما أحب أحد النقاد أن يطلق عليها، وهذه الماورائيات تشمل ما وراء علم النفس، وما وراء العلوم التقليدية والفيزياء الكلاسيكية، وتدخل عميقاً في الروحانيّات، والعوالم غير المنظورة، بطريقة غير تقليدية مستندة إلى ما وصلنا بشأنها في الدين، وما خبرته بنفسي من تجارب روحية، أو تأمّلات خاصّة، أو قراءات مكثفة، أو مشاهدت لأفلام توثيقية، أو ما حضرته من دورات مُتخصّصة.
وسبب ولوجي إلى هذا العالم الشائك يكمن في بحثي الدائم عن الحقيقة، وعما وراء العالم المادي من أبعاد وحيوات. يمكن القول إذن إنَّ رواياتي تحمل الكثير من تجاربي الخاصّة، وقراءاتي المعمّقة، وبحوثي، وتستند بعض أحداثها إلى قصص حقيقية حدثت معي أو مع أشخاص أعرفهم أو قرأت عنهم.
س ـ ما هي أبرز القضايا الغيبية والماورائية التي شغلت تفكيرك، واحتلت حيزاً كبيراً من رواياتك وأعمالك الكتابية؟
ـ قلت في شهادة لي بإحدى الندوات المخصصة إنّ رواياتي تعكس تطور تجربتي الوجودية، فقد كنت متديّناً بشكل تقليدي نَقْليّ، بناء على ما وجدت عليه أهلي، وقد بقيت في هذه التجربة من طفولتي حتى سن الثلاثين تقريباً، ثم دخلت في مرحلة الشَّك التي قادتني إلى “اللاإيمان” لمدة عشر سنوات، وقد جاءت هذه المرحلة العاصفة بناءً على قراءاتي في الفلسفة واختلاطي بالأدباء والمثقفين في الأردن تحديداً في بداية التسعينيات من القرن الماضي حيث يغلب على جلّهم الانشغال بالفكر الماركسي، وعدم الإيمان، إضافة إلى دراستي وإقامتي في تونس لمدة ثلاث سنوات ونصف منتصف التسعينيات، وقد رصدت هذه التجربة في روايتي “باب الحيرة” التي صدرت في العام 2006 إذ قلت في بعض صفحاتها عن تلك اللحظة الفاصلة في تلك الليلة العاصفة من النقاش حتى مطلع الفجر مع الأديب الأردني فايز محمود: “وفي الصباح أشرق قلبي بالخواء”.
وفي العام 2010 أصدرت روايتي “أبناء السماء” التي تطرق العديد من الأسئلة حول إمكانية وجود حضارات عاقلة أخرى خارج الأرض، كان لها وجود أو تواصل معنا عبر آلاف السنين، وهذه الرواية بدأت فيها مرحلة الإيمان القائم على الاقتناع والعلم والتصوّف الفكري، وليس الطقوسي، وقد أنجزت رواية “الفردوس المحرَّم” التي تُشكّل ثنائية مع ما سبقها، إذ تعمَّقت في الماورائيات، والأبعاد الكونيَّة، وإمكانية وجود “الكيانات غير البشرية”، وقدمت فيها خلاصة معارفي حتى ذلك الوقت، أما الرواية التي تلتها فقد جاءت في العام 2018 وهي “بعد الحياة بخطوة” وتندرج في مقاربة تجربة الاقتراب من الموت، وإمكانية استمرارية الحياة بعد رحيل الإنسان، إذ تقوم الفلسفة التي طرحتها على أنّ الموت هو انتقال من مرحلة إلى أخرى، وخلع للجسد المادي، وليس فناء لا للجسد ولا للنفس، أما الروح فهي خالدة وهي نفخة إلهية لا يعتورها التبدّل أو الفساد.
مع روايتي الخامسة والأخيرة “حيوات سحيقة” قاربت موضوع الوجود السابق للنفس في تجسُّدات سابقة، ولا يندرج هذا الأمر فيما يسمى “تناسخ الأرواح” عند الهنود، بل بفكرة أنّ وجود الروح أو النفس سابق على الوجود الجسدي للإنسان، وبالتالي ثمَّة إمكانية ولو ضئيلة لوجود حيوات سابقةٍ للنفس ذاتها في أجساد مختلفة بأماكن أخرى.
هذه الروايات إذن كلها تُشكّل معاً خماسية عرفانية ومعرفية كما أشرت، وتطرح الأسئلة الأربع الكبرى لتجيب عنها بطريقة غير تقليدية أو نقلية بل تأمليَّة خاصَّة بي، وهذه الأسئلة هي: من نحن؟ من أين أتينا؟ ما هو دورنا في الحياة؟ وإلى أي نذهب بعد الموت؟
وعسى أن أكون قد وفقت فنيَّاً ومعرفياً في طروحاتي وما خلصت إليه من إجابات.
س ـ بماذا تمتاز الكتابة الأدبية على اختلاف أشكالها في معالجتها وتناولها للقضايا الغيبية الماورائية عن الدرس الديني العقدي والوعظي بصورته التقليدية المعهودة؟
ـ بُنيتي الدينيّة التقليديّة راسخة وعميقة فأنا من عائلة ريفية محافظة، وكان لأخوالي من “آل العمري” التأثير الأكبر في هذا الاتجاه، فهم سدنة الدّين وحُماته، وأئمة المساجد في القرية، وأصحاب الفكر الراسخ والروحانيات الجليّة منذ أربعة قرون على الأقل، ومع ذلك لم أقدم طروحاتي الفكرية في هذا الإطار، بل ذهبت إلى إيجاد طُرقي الخاصَّة في تناول هذه الموضوعات الإشكالية والمثيرة للجدل.
ثمة إجابات جاهزة عند كلّ دين أو طريقة حول الغيبيات، ولكنّي لم أشأ أن أغدو “ببغاء” يقلد السائد والوعظي الظاهري، إذ ذهبت إلى مناطق أخرى جديدة، ربما لم يتحدث عنها روائي عربي من قبل، واستفدت في ذلك من التراث الروحي الغربي، ومن التأمّل الهندي، والقليل الذي لدينا من الكتابات البحثية غير التقليدية التي أنجزها العرب خصوصاً في مصر وتجربة “رؤوف عبيد” التي قدَّمها في كتبه الكثيرة وخصوصا البحث الضخم “الإنسان روح لا جسد”.
الكتابة الأدبية الروائية في النهاية هي عمل فنّي يحتاج إلى عناصر أساسية مثل: الزمان، المكان، الشخصيات، الحبكة، وأيضا الأسلوب واللغة وغيرها لتشكل معاً نسيجاً ناجحاً وقادراً على إقناع القارئ.
بالطبع يجب أن يكون الروائي جريئاً لاجتراح طريقه السردي الخاص وبنيته المعرفية العميقة للوصول بالعمل إلى قمة النجاح، إذ لا يكفي أن يكون الموضوع غرائبياً ومدهشاً في موضوعه كي يقنع المتلقي به.
س ـ ذكرتَ في بعض كتاباتك أنك بعد انتقالك من الإيمان التقليدي، إلى اللاإيمان، ثم إلى الإيمان العلمي أنك استقررت على التصوف الفكري، وليس التصوّف الطُقوسي.. ما هي معالم هذا التَّصوُّف الذي أسميته بالفكري؟
ـ التصوف الفكري يقوم على التأمّل بالنصوص الصوفية والأدبيات الخاصة بالمتصوّفة من البحث عن التقوى، والاهتمام بالباطن، وترسيخ صالح الأخلاق، والزهد.. وغيرها، ويتبنَّى بالضرورة بعض طروحات كبار المتصوفة فيما يتعلق بمعرفة “الحقيقة المُحمَّدية” التي هي سرّ الأسرار، وفكرة “وحدة الوجود”، ويُعنى بالحقيقة أي الباطن، كما يُعنى بالشريعة أي الظاهر، دون ادّعاء ولا تطرّف، كما ينفتح قلب الإنسان في هذه التجربة على الخلائق كلها من كلّ لونٍ وجنسٍ واعتقاد، فالله تعالى يحكم بين الناس فيما هم فيه يختلفون يوم الدين، ولا يحقُّ لمخلوق أن يحاكم مخلوقاً آخر مثله على أساس العرق أو الدّين.
كما أنَّ المتصوّف فكرياً غير معني كثيراً بممارسة جلسات الذكر الجماعية أو ضرب الدفوف أو غيرها، رغم أنّي جرَّبت التّصوف الطُقوسي إلى حدّ ما، فقد جلست في الحضرات الصوفية واستمعت إلى الذكر، والمدائح النبوية لخير البريّة، وغرقت في تلك الأجواء السامية، لكنّي لم أطل المقام هناك فالحياة باشتراطاتها المعقدة تفرض على المرء نمطاً معيناً من العلاقات والتفاصيل الاجتماعية.
س ـ هل حفلت رواياتك بتفكيك الخطاب الديني المُتشدد والمفضي إلى العنف وإقصاء الآخر، بالتركيز على التدين الصوفي الذي يعني في تجلياته الراشدة مجاهدة النفس وتزكيتها، والتخلق بأخلاقيات العابدين الزاهدين، واختيار لين الجانب والرحمة بالخلق، ما يعني إشاعة نموذج الرفق والسماحة، والابتعاد عن الشدَّة والعنف والغلظة؟
في أغلب رواياتي ثمة نقد للتشدّد الديني والبحث عن سماحة الإسلام ووسطيته وانحيازه إلى الحياة، وهي دعوة إلى إعمار الأرض بالخير والسلام والمحبة، وهذا هو برأيي دور الإنسان على الأرض فهو مستخلف فيها ليعمرها ويضيف إليها بعض النور والطاقة الإيجابية لا أن يكون سلبياً ويظن أنه الممثل الوحيد لله على الأرض، أو أنه من أتباع الفرقة الناجية وغيره سيذهبون إلى الجحيم بل ويذهب بعض الفاشلين في فهم الدين إلى إلغاء الوجود الإنساني لمن ليس على دينه أو يتبع ملته أو حتى مذهبه الضيق، وبالتالي يبدأ في التعبير عملياً عن هذا الفكر بمحاولة سفك دماء الآخرين واستحلال أعراضهم على أساس أنهم كفرة لا يستحقون الحياة، وعلى أساس أنه يطبق “الشرع” وفي هذا الأمر ضلال كبير.. لهذا ذهبت إلى فهم هذه الأدبيات ومنابعها المتشددة وبدأ بالفعل في مراجعة الفكر الديني الذي وصلنا ووجدت الكثير مما يقال، وسوف أقوم بنشر ما توصلت إليه في كتب قادمة إن شاء الله.
س ـ أعرف مدى اهتمامك بالتراث الصوفي، ولك كتاب عن محيي الدين بن عربي بعنوان (ابن عربي في “الفتح المكي” الانتقاص من القدر المحمدي).. ما الذي يحمل مراكز البحوث الغربية التي تقدم رؤاها ومشورتها للساسة في الغرب على تشجيع الحركات الصوفية، ومما يُذكر في هذا الإطار أن من أكثر الكتب انتشارا في الغرب: مؤلفات محيي الدين بن عربي، وأشعار جلال الدين الرومي؟
ـ بالنسبة لكتابي عن ابن عربي فقد جاء بعد قراءة عميقة وطويلة لكل ما وصلت إليه يداي من كتب مطبوعة للرجل، ولاحظت مدى تقديس هذا المفكر والصوفي من بعض المسلمين أو تدنيسه أحياناً بل وتكفيره لطروحاته، وبالتالي حاولت أن أكون محايداً لفهم نتاجه ومراجعته قدر الإمكان ووضعت ميزاناً لتقييم كشوفه أو فتوحاته وأيضاً منقولاته، وقد يجدني بعض أحبابه في هذا الكتاب متحاملاً عليه، ويصدم بما يكتشفه.
التجربة الصوفية القائمة على نشر الأخلاق وتهذيب النفوس والتركيز على الجوانب الروحية تشكل الرافعة الأبرز لفهم الإسلام بعيداً عن الإسلام الظاهري المتخم بالفقه الجاف والمعقد، وبالتالي يجد له مسارب في الغرب، وخصوصاً تجارب العشق الإلهي الشعرية وانتصاره للإنسان التي حفلت بها قصائد ابن الرومي أو بعض كتابات ابن عربي في دين الحب، رغم أني أظهرت في كتابي وقوع “الشيخ الأكبر” في الحيرة والتناقض بسبب محاولته التوفيق بين كشوفاته أو فتوحاته التي يقول عنها إنها “إملاء إلهي” وبين منقولاته من كتب الحديث التي بين يديه أو كتب السابقين عليه مثل ابن حزم الأندلسي وابن قسي حيث حفلت بعض هذه الكتب بالتشدد تجاه أصحاب الرسالات السماوية الأخرى، وناقضت فكرة ابن عربي عن دين الحب.
لهذا في ظل وجود التشدد في بعض الفئات الإسلامية الجديدة التي اتخذت من نشر دين الله بالقتل وتقطيع الرؤوس والانشغال بالسياسة من أجل إقامة الخلافة تظهر التجربة الصوفية بتركيزها على الباطن وإسرافها في التأويل للنص الديني حلاً مقبولاً ومناسباً لأبناء الغرب يحتاج إلى التشجيع والنشر.
س ـ بعد اقتحامك ميدان الفكر الديني بكتابك عن ابن عربي، ما الذي ينقص التديّن الصوفي الطُرقي التقليدي حتى يكون مؤثراً وله حضوره في أوساط المسلمين.. وهل يمكن أن يشكل بديلاً فاعلاً لحركات الإسلام السياسي بعد كلّ ما أصابها؟
ـ في الحقيقة كتابي عن ابن عربي مقاربة لرمز كبير في التصوف لم يجرؤ الكثيرون على الاقتراب من تخومه لأسباب كثيرة من بينها صعوبة أسلوبه، وكثرة كتاباته وموسوعيتها، إضافة إلى شهرته الكبيرة، ومع ذلك فقد تحملت الكثير من النقد وما أزال بسبب هذا الكتاب، رغم أن معظم متونه من كتابات ابن عربي نفسه فالأمثلة تكاد تكون نصف الكتاب، ولم آتي بشيء من عند نفسي، على أني وجدت أن التسميات التي أطلقت عليه مثل “الشيخ الأكبر” وغيرها جاءت في وقت لاحق من تلاميذه ومحققي أعماله، والرجل كان ظاهري المذهب وله في الفقه التقليدي الكثير من الفتاوى، وفي الوقت نفسه له فلسفته الخاصة ونظرته للوجود، وبالتالي لم يكن مقبولاً من الفقهاء التقليديين والمتشددين خصوصاً مثل ابن تيمية وبعض تلامذته الذين قاموا بتكفير الرجل.
التجربة الصوفية القائمة على نشر الأخلاق وتهذيب النفوس والتركيز على الجوانب الروحية تشكل الرافعة الأبرز لفهم الإسلام بعيداً عن الإسلام الظاهري المتخم بالفقه الجاف والمعقد، وبالتالي يجد له مسارب في الغرب، وخصوصاً تجارب العشق الإلهي الشعرية وانتصاره للإنسان التي حفلت بها قصائد ابن الرومي أو بعض كتابات ابن عربي في دين الحب
والتصوف الموجود حالياً عبر الطرق الشهيرة لا يشكل برأيي حلاً لمعضلة الإسلام السياسي وجماعاته بل يخفف من غلوائها فحسب، فهو نسخة ملطفة عنها إذ لديه المراجع ذاتها أي كتب الحديث الشهيرة مثل البخاري ومسلم، وبالتالي يؤمن بأحاديث تناقض النص القرآني مثل “أمرت أن أقاتل الناس..” و”كان للنبي شيطان فأعانه الله عليه فأسلم..” وأن النبي العظيم “عبس وتولى” وغيرها من التفاسير التقليدية والإساءات المقصودة وغير المقصودة مما وصلنا من التراث الإسلامي الذي وضع بعد رحيل النبي العظيم بقرنين تقريبا مما يناقض الكثير منه الآيات الصريحة للقرآن الكريم، والأمثلة أكثر من أن تحد، كما يؤمن المتصوفة بالخلافة، وأنها ترتيبات إلهية، وبالتالي فهم نسخة من نسخ الإسلام السياسي لكن دون عنف.
الحل الذي أراه ليس في التصوف بل في إعادة قراءة الفكر الإسلامي وتنقيته مما علق به من الإضافات التي وضعها “السلطان” وفقهاؤه، خدمة لمصالحه، وبالتالي البحث عن روح الإسلام النقية كما جاءت في القرآن الكريم من جهة، والنبي العظيم وما صح من الأحاديث عنه التي لا تناقض القرآن أو تطعن العصمة، وبالتالي سنعثر على “الإسلام الحقيقي” أو “المغيّب” الذي لا يمكن احتواؤه في دولة سياسية ذات جغرافيا محدودة فهو للناس كافة، وهو أيضا بلا مذاهب ضيقة، وينتصر للحياة ويعلي من شأن الإنسان من كل لون وجنس ودين، ولعل أفضل من كتب في هذا الأمر وتفاصيله هو المفكر السوداني الشيخ النيّل أبو قرون فإلى الآن تبدو طروحاته هي الأكثر وضوحاً وتنتظر من يتبناها وينشرها بديلاً عن الحركات السياسية والجماعات الصوفية وغيرها، فهو ينتصر للإسلام بنسخته المحمدية الخاتمة ويظهر جوانبها الجميلة وينبه على ما علق بها من أوحال السياسة والتطرف.
- عن موقع عربي 21