هذا ما أُسَمِّيهِ شِعراً


*منذر مصري


طائرةٌ ورقيةٌ مُحطَّمةٌ على السرير
للشعراءِ سَطوةٌ تُثيرُ الحَنَقُ
يجلِسُ الواحدُ منهم صامتاً دهراً
نظَراتُهُ تعبُرُ الموجودات
وكأنَّهُ لا يراها
ثُمَّ فجأةً يتلوّى ويفُحُّ أمامَكَ
وتبرُقُ كالأفعى عيناه
وبقفزةٍ واحدةٍ
وكأنَّ هذا ما صارَ شاعراً لأجلِهِ
يعتلي صَهوةَ كتِفَيكَ
فخذاهُ تعَصّانِ على رقبتِكَ
وساقاهُ ذاتا الأظلاف
تشُدّانِ مُتصالبتينِ على صَدرِكَ
إلاّ أنَّكَ تعرِفُ حدودَكَ
شاعرٌ منَ النوعِ الخفيف
أشبهُ بطائرةٍ ورقيةٍ
حلَمتَ مِراراً أنَّكَ مِثلُها
تطيرُ محلِّقاً
وحينَ تعصِفُ الريح
وينقطِعُ الخيط
تهُبُّ من نومِكِ هلِعاً
وكأنَّكَ تصدِّقُ حقّاً
أنَّكَ
طائرةٌ ورقيةٌ محطَّمة…
مَلاكُ حيِّ الموتى
هذا إن كانَ من حقِّكَ استخدامُ الرُموز
كيسُ القُمامةِ الَّذي حَسِبتَهُ
جُثَّةً مشلوحةً على قارعةِ الطريق
الحمامةُ السوداءُ
الَّتي غمَّست ذَيلَها بالكحول
وأولَعتَ فيهِ النار
ثُمَّ أطلقتَها في غيهبِ الليل
والحِصانُ والثور
أحدُهُما بقَرَ بطنَ الآخَرِ بقَرنَيه
احزر مَن هو يا ذَكي؟
قوسُ قُزَحٍ
بالأسودِ والأبيضِ والرمادي
يصعَدُ منكَ صباحَ ميلادِك
ويهبُطُ عليكَ مساءَ موتِك
شاهدَ ابنُكَ شجرةَ بُرتقالٍ مُثمِرة
فصاحَ: «ماما… انظُري… البُرتقالات مُعلَّقة على الشجرة»
وشاهدتَ أنتَ شجرةَ سَروٍ
تنتصِبُ شاخِصةً على حَدبةِ التَلِّ
الذي اتَّخذَهُ الموتى من أهلِ مدينتِكَ
منذُ قتلِهم أوَّلَ آبائهم
حيّاً لهم
فكتبتَ قصيدةً عن مَلاكٍ مُخيفٍ
عشَّشَ في هذهِ السَروةِ
الّتي ترتَجِفُ كُلَّما هَبَّ مِنها أو حَطَّ عليها
وجعلَ منها منزِلَهُ
وكيفَ في غَدوِهِ ورَواحِهِ
تلبيةً لنداءاتٍ بعيدةٍ وقضاءً لمَهمّاتٍ مُبهمة
يعبُرُ في النهارِ ظِلُّهُ الأزرقُ
وفي الليلِ بريقُ جَناحَيهِ
على وجوهِ الموتى
فيرمشونَ بعيونِهم رَمشةً
يلمحونَهُ بها
بينما تفتَرُّ شِفاهُهم اليابسةُ
ببُطءٍ
على شكلِ ابتسامة…

أنتَ عُدتَ هوَ لم يعد
أو رُبَّما جاءَ معَكَ أو بعدَكَ بقليلٍ
وهناكَ أمضى كُلَّ الوقتِ برفقتِكَ
أنتَ عُدتَ
هوَ وجدَها فُرصةً
أن يقضي بعضَ الوقتِ بمفردِه
ولم يعُد.
/
أنتَ عُدتَ
هوَ وجدَ عملاً في أحدِ المخازنِ الكبيرة
بدوامٍ واحدٍ وراتبٍ مُغرٍ
ولم يعُد.
/
أنتَ عُدتَ
هوَ تعرَّفَ على امرأةٍ في ملهى ليلي
أخذَتهُ في آخرِ السهرةِ إلى بيتِها
وهناكَ بعدَ أن تفحَّصتهُ جيِّداً
وأجرت عليه بعضَ التجارب
نجحَ بها جميعِها
عرضت عليهِ الانتقالَ للسكنِ معها
فهيَ دائماً تحتاجُ رجُلاً ملائماً
لتمضيَ معهُ ساعاتِ النهار
فما كانَ منهُ إلّا أن
آثرَ البقاء.
/
أنتَ عُدتَ لسببٍ خارجَ إرادتِك
أجبرَكَ على المغادرة
هوَ لم يعُد لسببٍ يقعُ خارجَ إرادتِه
أجبرهُ على البقاء..
لا تفعلُها إلاّ فوقَ أزهارِك
فقد قررتُ
ومنذُ اللحظةِ الأولى
أن أتَّخِذَكَ صديقاً حميماً
وذلكَ بتطبيقِ نظامٍ جديدٍ لحياتي
بوضعِ بقايا الطعامِ في وعاءٍ معدني
عندَ عتبةِ البابِ كلَّ مساء
أو رميِ رؤوسِ السمكِ وأذنابِها على الدرج
بعدَ كلِّ وليمة
إضافةً للقيامِ بزياراتٍ أسبوعيةٍ إلى بيتِك
بعدَ الاتصالِ وأخذِ الموعدِ مسبقاً
في اليومِ والساعةِ والدقيقةِ
لأجِدَكَ دائماً
عالقاً بالمشاكلِ معَ قِططِكَ:
القِطَّةُ الحاملُ في أسبوعِها الثامنِ
لم تأكُل منذُ يومين
القطُّ السمينُ لا يطيبُ لهُ النومُ
إلاّ على رأسِ أرجوحةِ الشُرفةِ
ما يُسبِّبُ وقوعَهُ عنها
كُلَّ خمسِ دقائق
مُطلقاً صرخاتِهِ الحادّةَ
قطيعُ القِططِ الغريبةِ
تُغيرُ للمرَّةِ الثانيةِ على حديقتِك
فلا تفعلُها
إلاّ فوقَ أزهارِك
وذلكَ بعدَ أن تقتلعَها من جُذورِها.
أبناءُ الفناء
عمَّ أتكلَّم؟
عن السنينَ والأعمار
عن الحربِ الَّتي نخوضُ غِمارَها
ليلَ نهارَ معَ الحياةِ والموت
عمَّ هذا الهَذر؟
عن الشِعرِ
سِلاحُ البشرِ الفانينَ أبناءِ الفناء
في قتالِ أبيهِم
عن «علي الجندي» أميرِ السهرات
قمرِ الموائد
مسيحِ آلافِ العشاءاتِ الأخيرة
آخرِ حُواةِ الكلمة
كلاّ… ليسَ… هوَ لا يرضى بذلك
الصُعلوكِ بالقُمصانِ الحريرية
المضيءِ
المجنَّحِ
المقدَّسِ
الملاكِ المعتِمِ
ذي الذَيلِ والحراشف
المدنَّسِ
الشيطانِ
المارقِ ولا شيءَ آخر
المعبودِ والمنبوذِ في آن
كحاكمٍ مخلوع
كإلهٍ ساقط
كنبيٍ كاذب
كمُحاربٍ بلا رايةٍ
ولا ظِلٍّ
ولا صيحةٍ
يُغطّي وجهَهُ غُبارُ السماءِ
وطحينُ الزمن
بجُرحِهِ الخفي النازفِ أبداً
دماً أسودَ
على الورق
قصائدَ طويلة كهذه
تُقرأُ على عجَلٍ
تُقرأُ بشعورٍ منَ السأم
تُقرأُ مرَّةً واحدة
ثُمَّ لا يعودُ إليها أحد..
سمِّهِ ما شئت
هذا ما أُسَمِّيهِ أنا شِعراً
دمٌ لا تقبَلُهُ الأرض
وعَرقٌ ليس يقطُرُ منَ الجبينِ فحسب
بل من فَروةِ الرأسِ وتحت الإبط
وبينَ الفخذين
وجِلدٌ ولحمٌ وعَظم
فسَمِّهِ أنتَ ما شِئت…
* من ديوان للشاعر السوري يصدر قريباً بعنوان «لِمَنْ العالم؟»، ويضم خمس قصائد فقط، والمقاطع المنشورة هنا هي مختارات منها.
كلمات
العدد ٢٨٠١

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *