في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

  • مجدي دعيبس

مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في هذه المناسبة العزيزة على ذاكرتنا المرهقة بالأحداث والتواريخ والمنعطفات الخطرة والأسماء والإنجازات التي مرّتْ بالدولة في محيط متنافر ومضطرب وجماهير تغلي في وجه الاستعمار الأوروبي الذي سيطر على المنطقة بعد أربعمئة عام من الحكم العثماني، والتّنكيل بالعربية لغة وقوميّة وتجهيلًا. الأمة التي نهضت من جديد وتسعى للدخول في المرحلة المقبلة من الحرية، والانعتاق من الوصاية الأوروبيّة بقوة وعزيمة. أمّة تسعى لتأكيد حضورها الحضاري الممتدّ من الدولة العربيّة الإسلاميّة؛ دولة الفتوحات ودولة العلم والأدب والطب والهندسة والفلسفة.

لم أجد أفضل من ملحمة تل الذخيرة لتكون موضوعًا لهذه الإشطلالة على مئوية الدولة الأردنيّة. معركة تل الذخيرة من المعارك التي خاضها الجيش العربيّ الأردنيّ على هامش حرب 1967، فما الذي يجعل هذه المعركة مختلفة عن غيرها من المعارك الأخرى؟

يقع تل الذخيرة في منطقة الشيخ جراح في القدس الشرقية التي حافظ عليها الجيش العربي الأردني في حرب 1948. يقع التل ضمن سلسلة المرتفعات الحيوية التي تسيطر على الطريق بين رام الله والقدس. احتلّت السرية الثانية من كتيبة الحسين الثانية موقع تل الذخيرة الذي كان يُستخدم لتخزين الذخيرة أيام الانتداب البريطاني، وهو موقع محصّن يحتوي على خنادق وملاجئ وأماكن معدة لتوضيع المدفعية، استولى عليه الجيش الأردني خلال حرب 1948. إنّ تجاوز مواقع الكتيبة باتجاه الجنوب يعني الوصول إلى أسوار القدس والبلدة القديمة، لذلك كان هناك تصميم على الصمود والاستبسال حتى آخر جندي، وآخر رصاصة وآخر قطرة دم، الأمر الذيرسم بعناية أحداث هذه الملحمة التاريخيّة.

مع خروج سلاح الجو المصري مبكرًا من المعركة وانهيار الجبهة المصرية بشكل مباغت وتأخر العمليات على الجبهة الشمالية، أصبح الضغط كبيرًا على الجبهة الأردنيّة. عند الساعة الثانية والنصف صباح يوم 6 حزيران، ابتدأت معركة تل الذخيرة. قام الجيش الإسرائيلي بإنارة منطقة القتال من خلال كشّافات قوية. عادة ما يكون الهجوم البري مسبوقًا بقصف مدفعي يسمى القصف التمهيدي، والهدف منه خلخلة النظام الدفاعي للمواقع المستهدفة وإيقاع الخسائر بالأرواح، وقد يستمر لساعات أو أيام اعتمادًا على قوة التّحصينات والمواقع الدفاعيّة وحجم القوات المدافعة وطبيعة الأرض المنتشرة عليها. تقدمت كتيبة المظليين 66 الإسرائيلية (من أفضل الكتائب تدريبًا وتسليحًا) نحو مواقع السرية الثانية في تل الذخيرة وتجاوزت الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. كانت مصادر النيران كاملة للكتيبة المهاجِمة ويتم تعويض الذخيرة باستمرار، أمّا افراد السريّة الثانية فكانوا يقاتلون بالسلاح الفردي وهو البندقية والحربة بسبب القصف التمهيدي الذي أثّر بشكل كبير على المواقع الدفاعيّة والذخائر لأنها كانت تقع ضمن مساحة جغرافية معروفة ومحدودة نسبيًا. ما أريد أن أؤكد عليه هنا أنّ الجندي الأردني كان يقاتل من الخندق ببندقية وقنابل يدويّة دون إسناد مدفعي بينما كانت ناقلات الجنود المدرّعة والدبّابات والهاونات والرشّاشات والقذائف والصواريخ تساند الجنود الإسرائيليين بالنيران وتقديم الحماية. تصوّروا مقدار الضغط والتوتر الذي يتعرض لهما الجندي في هكذا موقف، لكن لم يكن هذا ليؤثر على معنويات أفراد السريّة الثانيّة وكما قال المتنبي:

وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ

وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ

تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً

كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ

المرحلة الأخيرة من المعركة تكون عادة القتال في الخنادق وتصل في غالب الأحيان إلى الطعن بالحراب بسبب قرب المسافة بين الجنود. وهذا ما حدث لأفراد السرية الثانية الذين قاوموا بكل ما لديهم حتى نفدت الذخيرة. استشهدوا واحدًا تلو الآخر حتى الساعة السابعة صباحًا حيث انتهت المعركة ووقع الجرحى بالأسر وعددهم أربعة فقط ومنهم قائد السرية.

حاولتُ أن أفكر بالسبب الذي أعاق تحوّل تل الذّخيرة الى أيقونة في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للناس. أول ما خطر لي أنّها جاءت في سياق هزيمة مدويّة بعد أحلام عريضة بالنصر المؤكد، فجاءت الصدمة والنكسة وخسر العرب سيناء والجولان والضفة الغربية. لم أجد هذا التعليل مقنعًا لأنّه في تاريخ الكثير من الشعوب ملاحم تشبه تل الذخيرة بشكل أو بآخر وتم تحويلها إلى درس في الوطنية والفداء، وهناك عشرات الأمثلة في التاريخ القديم والتاريخ الحديث تشهد على هذا. حملة غاليبولي في الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالفشل شكّلتْ ضمير الأمّة الأستراليّة التي فقدت عشرات الآلاف من أبنائها. أصبحت أستراليا تشعر بكينونتها بعيدًا عن أي وصاية. أصبحت تنادي بحقّها في الدولة بعد كل هذه التضحيات التي قدمتها.

وخطر لي أيضا أنّ الإعلام له دور في التّقصير، وليس المقصود هنا مقالة شاردة كل عام أو عامين أو ثلاثة، بل حملة مكثفة وممنهجة من مقالات ومحاضرات وندوات على هامش ذكرى المعركة كل عام، يشارك فيها المهتمّون والمتابعون. وربما السبب أنّنا لم نعد نقرأ التاريخ بالشكل الكافي، وأن الحياة أصبحت أكثر انحيازًا للماديّة وأن المثل العليا والبطولة والبسالة لم تعد سوى مادة لحكايات الجدّات. هذه مسؤولية مشتركة؛ رسميّة وشعبية لتسليط الضوء على المفاصل الهامة في المئوية الأولى للدولة، وتل الذخيرة ترقى إلى هذا الأمر برأيي.

هذه دعوة لكتّاب الدراما وشركات الإنتاج لتحويل هذه الملحمة الى مادة سينمائية رصينة قادرة على الوصول إلى جميع أطياف المجتمع، وتنمية الاعتزاز بالوطن عند الأجيال الصاعدة التي انحازت بشكل سافر الى ثقافة الصورة على حساب الكلمة التي أصبحت خارج دائرة الضوء. ولا أنسى هنا كتّاب الرواية والقصة القصيرة وربما الشعر والمسرح والأغنية والتأليف الموسيقي لتخليد هذه الواقعة المجيدة، وربما في يوم من الأيام يكون هناك أوبرا تل الذخيرة.

يا حبّذا لو كان هناك جداريّة تمثّل ملحمة تل الذخيرة، يا حبّذا لو كان هناك درس في مادة اللغة العربية عن تل الذخيرة ضمن منهاج المرحلة الابتدائية ليعرف الطلاب اسم قائد كتيبة الحسين الثانية (كتيبة أم الشهداء) منصور كريشان، واسم قائد السرية الثانية سليمان السلايطة الذي أصيب واستلم من بعده ملازم ثاني صالح السرحان فأصيب بدوره إصابة بالغة ووقع في الأسر، يا حبّذا لو كان هناك من يقول في هؤلاء الأبطال كما قال شوقي ببطل الصحراء:

ركزُوا رفاتَك في الرِّمالِ لواءَ

يستنهضُ الوادي صباحَ مساءَ

يا حبّذا لو يتم اطلاق مسابقة لأفضل سيناريو فيلم روائي طويل حول تل الذخيرة بجائزة ماليّة مجزية على مستوى الوطن العربي حتّى يشارك فيها محترفو الكتابة الدراميّة، يا حبّذا لو تتصدّى شركة إنتاج محليّة أو إقليميّة لهذا العمل الضخم، يا حبّذا لو كان هناك وسام يحمل اسم (وسام تل الذّخيرة للشّجاعة والإقدام)، يا حبّذا لو يتم إضافة يوم على أجندة الأيام الوطنيّة وهو 6 حزيران إحياءً لذكرى أبطالنا في معركة تل الذخيرة الذين لقوا وجه ربّهم مقبلين غير مدبرين، يا حبّذا لو كل هذا يتحقّق بطرفة عين.

إلى أرواح جنودنا البواسل الذين أستشهدوا في مشارق الأرض ومغاربها ألف تحيّة وسلام.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *