عزلة الكاتب.. الأجر المرّ للمجد


*باتريك دروفيه


ليس من الضّروريّ أن نكتب كيما نتعرّف على العزلة، ولكن الحركة التي تحفز على الكتابة تأتي دائماً كامتداد لتجربة قوامها العزلة؛ والكتابة تقود، لا محالة وفي كلّ الأحوال، إلى تلك العزلة، ولأنّها بيّنة وتجسّد توقاً مشتركاً، فإنّ عزلة الكاتب تغدو رمزاً استعاريّاً في خيالنا، فكلّ منّا يمضي حالماً بغابة، بأرض تيهاء، بصحراء، أو ببرج عاجيّ ينحشر فيه ليكتشف جرحه السريّ الذي هو حياته.
الرغبة في العزلة يرافقها إحساس بالنّفي، بالألم و بعجز أمام العالم، يشير إليه «مارو» في الكلمات التّالية:
«كلّ شيء عدا أنفسنا يدفع إلى الحزن والاكتئاب، ويلقي بنا بعيداً عن تلك الأماكن التي نريد أن نتعاطى فيها الغناء والرّقص والضّحك: وحيداً في حجرته يُسلم الكاتب نفسه للبكـاء والكتابة، وليس بإمكانه أن يكون في حال غير تلك الحال».
عزلة مجسدة ومرعبة في آن، ترجّ سكينة وسعادة الأزواج والبيوت الهانئة، وعامّة ما تغدو من أكثر أشكال المعاناة إيلاماً ووجعاً، والكتّاب أنفسهم لا يُخفون ذلك، وكأنّهم يستعذبون الحفاظ على تلك الصّورة المريعة، التي تدمغ صنعتهم بما يشبه الختم المقدّس.
ويضفي ذلك على عزلة الكاتب بُعداً شبه أسطوريّ، مردّه أولاً إلى رهافة حسّه في الإنصات لذاته ( وسواء أكان ذلك الحسّ موهوباً أو مكتسباً، فإنّ الكاتب يغذيه بشكل مفرط). ويذهب الكاتب في إنصاته ذاك إلى الحدود القصوى، وهو يبحث عن كلّ كائن يواجه فرادته، فلا يختلجه شغف أكثر إلحاحـاً من أن يجد أو يُعطي معنى ما للأحداث والمشاعر التي تخترقه.
و كذا الشّأن بالنّسبة إلى طموحه الذي لا يختلف عن حلم للتــــرقّي إلى ذرى مجد أبدي: والانغمار في الجماعة لا يكفي لاستنفاد الطاقة الكامنة فيه، والتي تطلب الإشعاع متخطّية كلّ الحدود، وتستبعد من ثمّ أيّما استثناء. ويشاطر الكاتب المصير الانفرادي والغامض لتلك الكائنات العاجزة عن إثبات وجودها خارج دائرة النظرات المسلّطة عليها، وبعيداً عن مجال التّواصل الكونيّ. ويحتاج هؤلاء إلى اعتراف عامّة النّاس، لا في المكان فحسب، و لكن أيضاً في الزّمان، كيما يكونوا متأكّدين من مبرّر وجودهم. وإنّي لأذكر في هذا الصّدد الشريط الفيفالدي لرونوار «العربة الذّهبيّة»، الذي كانت فيه «كولمبين» عاجزة عن صدّ أيّ من الرّجال الذين كانوا يغازلونها، فغدا من المتعذّر عليها منح نفسها لأيّ منهم على وجه الخصوص، ولم يعد أمامها لإلهاب شغفها واندفاعها سوى التّفاني للجمهور، المتجدّد كلّ يوم، في قاعات الفرجة.
الضّريبة المحتومة
عزلة الفنّان، سواء أكان هذا الفنّان مهرّجاً أو رسّاماً، متنبئاً أو شّاعراً، والتي يمكن اعتبارها الضّريبة المحتومة للشّهرة، والأجر المرّ للمجد، تستجيب أيضاً إلى ضرورة باطنيّة، وتنطوي على الحرص بعدم التملّص والتّواري: ينشر الكاتب البهجة من حوله ولكنّه ممنوع من الاستمتاع بها. اللّقاءات، النّزهة، الحفلات.. لا تروق له. وكلّ شيء يحمله على الابتعاد عن عزلته؛ وبراهين بروست عن المزايا المزعومة للصّداقة معروفة لدى الجميع، وهو الذي رفض تصوّر «أنّ الحقيقة يمكن أن تتحقّق بذاك الأسلوب من التّعبير الذي هو بطبيعته مرجوج ومتنافر (…)، كأن نرى معنى ما لمغادرتنا العمل، ملاقاة صديق، والتّباكي معه حين سماع الخبر الزّائف لحريق اللّوفر».
العزلة لا تهجر الكاتب وهو يجوب العالم، فوسط معاصريه، وبين النّاس الأقرب والأحبّ إليه، ليس بإمكانه أن يشعر بالتّناغم. مزاجه الخاصّ يضعه خارج دائرة التّواطؤ الذي يكتشفه الآخرون بخبرتهم المشتركة وبما يتبادلونه، ما يشعر الكاتب أنّه مدعوّ إلى تقديمه لكلّ واحد منهم، والحنوّ الذي يحاول أن يغمرهم به، والإحساس الذي يريد نقله إليهم.. كل ذلك يتطلّب اجتهاداً يصعب بلوغه برفقة الآخرين، وليس من المؤكّد أن ذلك يمكن أن ينقل عن طريق الكلام: وحتّى وإن وجد في ظروف مريحة للغاية، لن يجرؤ على الإفصاح، إذ لن يسعفه الوقت بذلك كيما يمحو ويشطب ظافراً بالمفردات السّليمة، جريئاً في استخدام الصّور الأكثر بلاغة وإيحاء، فإنّ ذلك قد يتطلّب بسطاً من الوقت لا تتيحه اللّغة المتداولة، وأجزاء كاملة من حساسيّته لن يكون بوسع صوته ترجمتها، بل إنّها قد تبدو متنافرة، متخبّطة وجارحة للمشاعر. فالعزلة هي الحالة الوحيدة التي تزعج الكاتب لقول كلّ شيء، بما في ذلك ما كان يعتقد أنّه ليس مطالباً بقوله.
إحساس فوق الوصف
كانت العزلة دوماً عنصر الكاتب ومعدنه الصّميم؛ فهو يتعاطى الكتابة وكأنّه، وهو أقرب ما يكون من الحقيقة، ينبض على إيقاع العالم المحيط به، على نحو يجعله يشعر أنّه يعيش هذا الوجود بدرجة من النّقاء دانية من زمن الطّفولة: شعور يغشاه الانبهار، براءة ساكنة، إحساس برخاوة كيانه أمام فتور الأشياء من حوله، ودهشة لا متناهية أمام تجلّيات الخلق؛ ولا يقترن إحساس الكاتب بالعزلة بحدث محدّد، أو بصدمة ولا بأيّما اختيار، والظّروف التي تكتنفه وهو يكبر، لا تقدّم أيّ تفسير لذلك. إنّها تمتزج في الكاتب وكأنّ الواقع المباشر يتماسك فوق جلدته بوساطة حواسّه. فالعزلة تغشى نظرته التّائهة فوق المادّة المتغيرة، وتوقظ في ذاكرته لحظات حميمة دافئة، لحظات ترصّد ساكنة، وتغذّي فيه، وهو المتجاهل بين النّاس، الإحساس بمحيط مترع بالرّوائح وبالأشكال، وبألوان، من فرط نصاعتها، مرهقة؛ إنّها تمتزج بافتتانه بكميّة النّور، بتورم أوراق الشّجر وبتجعّدات الماء.
العزلة هي ما لا يمكن الإفصاح عنه؛ إنّها كامنة في جوهر الصّمت؛ كاسحة هي، ولكنّها أساسيّة كيما يدوّي العالم الرّحيب في نبض دمي السّاري، وحتّى أستشعر اللذّة المفردة، الحزينة والنّاعمة، بأنّني أظلّ على قيد الحياة، وأنّني أتنفّس، وأنّه بوسعي البقاء وحيداً، رغماً عن ذلك الإحساس وعن ذلك الاغتراب.. أن أشعر أنّني أعيش. إنّه إحساس فوق الوصف، ولكن الكاتب الذي بداخلي، وبجنوح ملحاح، يشعر بضرورة عرضها وترجمتها.
أن نكتب فإنّ ذلك يعني أن ننقل رؤيتنا للعزلة المطلقة التي تتشكّل لدينا، عن العزلة المطلقة للآخرين. إنّها محاولة التّعبير عن تلك العلاقة الخاصّة التي تربطنا بالعالم، من حيث إنّه انخطافيّ، بلا مثال، وعصيّ على الوصف. وغاية مثل تلك المهمّة لا يمكن أن تقود إلاّ إلى العزلة؛ ولكنّ هذه المهمّة ذاتها تعمّق الإحساس بالعزلة باستخدام غير مباشر، والذي قد يكون مضللاً، للمقول. إنّها تلوذ بالكلمات لتجعلها تنطق عنوة، وتقول ما لم تكن منذورة لقوله؛ إنّها تستعمل مادّة تلك الكلمات وأجراسها، لتحدث حالة من التّماسك والاتساق خارج نطاق الاصطلاحات، التي وجدت من أجل إثباتها، فتقوم بتدبّرها وتنظيمها على نحو يجعلها تنقل حالة تفرّد، لا يتحقّق حولها إجماع، حين يكون كلّ غرضها هو شدّ الأفئدة والقلوب إلى نفس الإحساس بالقلق. إنّه لقدر الكاتب أن يكون دوماً غير مفهوم، وهو المنذور لعزلة تحبط الأعراف التي لا تنفكّ تترسّخ، وتستدرجه لقول ما لم يقله؛ إنّها تجعله ينشد مثلاً أعلى لا ينفك يتغيّر، فيمضي تائهاً في صحراء.. هي ليست دوماً بالصّحراء. فما أشبه قدره بقدر «الانطوائيّ» في لوحة بيتر بروغل..

«انطوائي بروغل» (1568)
هذه اللّوحة التي تمثّل شيخاً وطفلاً، والتي نجدها في متحف «كابوديمونتي» في مدينة نابولي الإيطاليّة، تحملنا على التّفكير عميقاً في رؤيتنا للحياة؛ ولو تأمّلنا هذا الشّيخ من قريب، للاحظنا أنّه متّشح بالسّواد و قلنسوته تحجب عينيه، ومن فمه ينبعث إحساس واضح بالمرارة، فيما يبدو ملمح وجهه قاسياً وصارماً. وعلى العكس من ذلك، يبدو الطّفل مبتهجاً، وهو يحاول سلب هذا الرّجل العجوز.
وأسفل اللّوحة نجد هذه الكتابة: «لأنّ العالم بلغ الحدّ في الغدر والمخاتلة، أجدني أمضي على طريق الحزن والحداد». فالعجوز إذن في حالة حداد، واختار الانسحاب من عالم الأحياء (الذي يمثّله الطّفل هنا). ولكن، وكما هي الحال في لوحات بروغل، ينبغي التوقّف عند تفاصيل اللّوحة لملامسة أدقّ معانيها.
فماذا تراه يفعل هذا الطّفل الماثل في اللّوحة؟ إنّه بصدد سرقة الرّجل العجوز، وتحديداً حافظة نقوده. وكم تبدو غريبة تلك الحافظة.. أليس من الجليّ أنها تشبه القلب؟ فكأنّما بروغل يريد أن يقول لنا إنّ هذا «الانطوائيّ» يفقد بمغادرته هذا العالم قلبه ونفسه، ويحمل في رحيله حداد انتمائه إلى العنصر البشري، ولسان حاله يقول: «لا يكون القلب إلاّ حيث يكون المال». ولو عدنا قليلاً إلى ذلك الطّفل الغريب، للاحظنا أنّه يحمل طوقاً به صليب.. إنّه العالم الحيّ، الفاعل والمؤثّر ( والذي يجعل الطّفل يضحك)، ففي تخلّصه من هذا «الانطوائيّ» يزداد هذا العالم نفعاً وتشفّياً. ولنا أن نتصوّر الإحساس الفاجع الذي ينتاب هذا العجوز وهو يهمّ بالرّحيل. ولو دقّقنا النّظر أكثر في اللّوحة، لاسترعى انتباهنا على يمين العجوز وجود شجرة ميّتة ومجوّفة، حفر ومسامير متناثرة؛ إنّه الفراغ والسقوط والوجع. يبدو الانسحاب من العالم هنا بداية لرحلة عذاب نحو المجهول. كما يبدو التّعارض شديداً بين هذا المشهد الأمامي والمشهد الخلفي للّوحة، حيث المشهد الرّيفيّ الهادئ: راع يراقب قطيعاً من الخرفان، طاحونة هوائيّة ونار في البعيد.. أي الحياة ( التي لا يلتفت إليها الرّجل العجوز ).
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *