


**إعداد وحوار: نيرمينة الرفاعي
خاص ( ثقافات )
لتشكيل العوالم الروائية يقوم الروائي بمهمة صعبة وهي بناء شخصيات متماسكة يتلقفها كلٌّ من الكاتب والقارئ وشخصيات النص في ذات الوقت، لتدور في حلقات الزمان والمكان والحدث وتخلق حبكتها الخاصّة.
ومع أنَّ رولان بارت قال “القراءة تجعل المكتوب بدايات لا تنتهي”، مسلّمًا النص بذلك للقارئ ليتذوقه كيفما يريد، إلّا أنَّه قالَ أيضًا :”لا توجد رواية دون راوٍ”.
ويرى باختين أنَّ الروائي يجب أن يعلو على نصه الروائي، ففي كتابه “مشاكل في شعرية دوستويسفسكي” الذي صدر عام 1929 تحدّث عن “تعددية الأصوات” داخل الرواية والتي تجعل الروائي قادرًا على إدارة دفّة شخصياته كيفما يرغب، معتبرًا أن الروائي هو الذي يخلق شخصياته، نازعًا عن الشخصيات قدرتها على التحكم في مجرى حدث الرواية.
أمّا الكاتب الألماني كايزر والذي كتب ما يزيد عن الستين مسرحية تعبيرية، فيرى أنَّ الذي يحكي الرواية ليس الروائي نفسه بل شخصية يتخيلها ويتقمصها، فتكون الشخصية المتقمصة هي الأطغى والأقوى على المشهد.
سألنا الكاتب الروائي قاسم توفيق، صاحب “ماري روز تعبر مدينة الشمس”، “مدينة الشمس”، “ورقة التوت”، “الشندغة”، “قصة اسمها الحب”، عن تعامله مع شخصيات نصّه، ولأيّ حدّ يسمح لشخصيته الحقيقية بالانغماس في شخصياته المختلقة المكتوبة على الورق، فقال:
“دعينا نقلب الحالة. أسأل أنا بدوري أيضاً، قاسم توفيق عرّف لي ما هي شخصيتك الحقيقية؟ أجيب على سؤالك بأني إلى الآن لا أعرف سوى أن لي شخصيتين؛ واحدة هي التي أراها وأحس بها وأفهمها، وواحدة ثانية لا أراها لكن وجودها هو الطاغي وهي صاحبة الفعل واللافعل، هي المنجز المتمم لكل ممارسات العمر، بتقديري أن هذه الشخصية غير المرئية هي التي تسألين عنها لأنها هي التي يشتد حضورها وتحتلنا عندما نكتب. هي الحضور، وهي تفتح الوعي من غياهب الغياب، ومن اللاوعي، هي حالة تكثيف حاد لمجمل العمر، وهي منهجية وأسلوب ما أكون وما لا أكون، منها وفيها تتشكل شخوصي الورقية وأصبح أنا الغياب. لا أعرف إن كنت قد تماديت بفلسفة هذه المسألة البسيطة؟ لكن لا يمكن أن أجيب عليك دون أن أوضح ذاتي لك. نعود للجواب على سؤالك. الأمر المهم هو أن فعل الكتابة هو العلامة الوحيدة التي تعلن بأني لا زلت حياً، لأني في الكتابة أغادر هذا الكون، المكان، الزمان، البؤس، القهر والأستبداد وأسكن في عالم آخر جديد، فلا يعد هناك من أثر لوجود أناي المرئية، لذلك لا يمكن أن تحضر هذه الأنا في حياة ووجود شخوصي الورقية. ما يحدث هو العكس أن الشخوص الورقية تصبح منذ الكلمة الأولى هي صاحبة الرأي والقرار والفعل وتنشأ علاقة حب وأُلفة بين أناي وبينها، علاقة خيالية تجعلهم كائنات حقيقية تسحبني للعيش معها، أصير أحاورهم وأسألهم وأخالفهم وفي أحيان كثيرة أحبهم، وعندما أنتهى من كتابتهم أبكي بحرقة ووجع على فراقهم لكن دون أن أدفنهم. لا ادري إن كان توصيف هذه العلاقة من الممكن أن يحدد من منّا هو الذي يغزو الآخر؟.
إن هذه الحالة جدلية بحته، الوعي البارز والوعي المتواري هما الخالقان للأشخاص وللأفعال وللأمكنة. لا أملك من الإدراك ما يؤهلني للسيطرة على أبطالي، ولست ضعيفاً لتهزمني شخصيات أنا صنعتها …. هي جدل … لقد قلت أنها حالة جدل.”
أما الروائي والقاصّ هاشم غرايبة، صاحب “المقامة الرملية”، “الشهبندر”، “القط الذي علّمني الطيران”، فقد قال:
“أبطالي هم “أنا” متفاعلا أو متناسخا أو متحولا في جسوم أشكلها من بشر عاديين مهمشين أو أعلاما عرفتهم، أو عايشتهم، أو قرأت عنهم، فأعادت مخيلتي توظيفهم في سياق حكايتي كما بدت لي صورهم في مرآتي المغبرة بالأسئلة.
أخاف من شخوص قصصي ورواياتي..
شيء عادي أن أرسم شخوص حكاياتي من ناس أعرفهم أو سمعت عنهم أو رغبت بأن يكونوا موجودين.. ولكن غير العادي أني التقي بهم.. أبطالي الذين أنفخ فيهم الروح يهربون أحيانا من بين دفتي الكتاب ويسعون لمقابلتي وجها لوجه!!
“كان القمر بدرًا والسيارة البيجو 405 تأن تحت ضغط السائق ابي يوسف على فكيه وعلى دواسة البنزين أيضًا لمّا لاحت لنا بنت 14 تقف وحيدة على جانب الطريق..”
هذه المشهد حصل فعلًا أثناء عودتي من عمّان إلى إربد منتصف ليلة باردة من ليالي تشرين 2009م، وكنت كتبت المشهد ذاته في قصة عروس الطريق المنشورة في أخبار الأدب المصرية عام 2002م.
“سعيد القط” بطل روايتي “القط الذي علمني الطيران. كان لامع العينين، شعره طويل ناعم، يحفّ لحيته وشاربيه ويصبغ شعره بانتظام.. يبدو وهو ابن الستين أصغر من كريزم الذي لم يجاوز الثلاثين من العمر!
كنا نفترش رمل شاطئ العقبة بعد منتصف الليل: المناضل عماد المالح. ورفيق السجن رسمي الجابري الذي لم أره منذ غادرنا سجن المحطة منتصف الثمانينيات؛ وجمعنا اليوم رحلة شريان الحياة للتضامن مع غزة.
وجاء رجل سبعيني بطربوشه الأحمر النظيف المائل إلى اليسار يسعى بابريقه النحاسي الكبير يبيع التمر هندي، وقف يستمع لحوارنا بانتباه فلم نعره اهتماماً..
– روح عمي الله يرزقك.
– وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ..
– يا سلام ! انت بائع عرق سوس ولا شيخ دين؟
– أنا ماركسي.
ضحكنا لكن الرجل أثار بائع التمر هندي السبعيني حوله عاصفة من الحوار ففاجأنا بآرائه الحرة، وثقافته الواسعة!..
سالته: انت من هون ابو ناصر؟.. من العقبة؟ أَيُّها السَائلي فَإِنّي غَريبٌ نازِحٌ عَن مَحَلَّتي وَصَمِيمي
صححت له: يا سائلي فاني غريب..
– لا هي هكذا: أيها السائلي، هذا البيت للمتلمس. شاعر جاهلي. غير هيك ينكسر الوزن.
تحدث أبو ناصر ببراعة عن قوانين نفي النفي، ووحدة وصراع الأضداد، والصدفة والضرورة!!!
– الحق يا هاشم.. لقينا لك رفيق. ههههه
قلت بجدية: بل لقيت “القط الذي علمني الطيران” يسعى بين الناس”!
ثم يردف غرايبة مكملًا جوابه:
“في خليط الروائح والأصوات والصور التي خزنتها طفولتي تنبت قصصي، ومن الحاضر المعاش تختار أبطالها، وتستمد خيالاتها من المستقبل. وتأتي حيويتها الدرامية من توق الإنسان الأزلي لامتلاك الإرادة، ووهم الانتصار على الزمن.
شخوص رواياتي ليسو أرواحا هائمة تبحث عن خلاصها، ليسوا ملائكة أو شياطين، بل بشرًا من خطايا وجمال، وعثرات ونجاحات، شخوص تنجح بتسجيل مرورها الحائر في هذه الحياة على أوراقي.
أشعر في أعماقي أني “الشهبندر” بجدارة، ليس تجار سوق السكّر هم من يلتفون حولي فحسب، أشعر أن حجارة عمّان وإسفلت الشوارع ولمبات الليل ترحب بي مبتسمة:أهلا جناب الشهبندر .
السوق مضطرب والموج عال حسب تعبير المراكبية، ولكني أمسك ( الدقل ) بثقة وأمل.. فلا مناص من حبّ عمّان الراهنة إلى جانب عمّان الخالدة: فلو غرقت أراها منتصبة، ولو شوهت أراها بهية، ولو افتري عليها أراها أبيّة.
عمّان هي أنا “الشهبندر” وقد تضخمت وترامت أطرافي حتى صرت بحجم تلالها السبعة، أنا عمّان، بعد أن تتجرد من ( القُحمْة ) الكبيرة،والزيف، والتزويق، والادعاءات البلهاء.”
وبعدَ أن نرى أنَّ هاشم غرايبة تقمصَّ دور مدنه وليس شخوصه فقط فقد أكمل الحديث:
“لكي أكتب بطل حكايتي، لا بد من أن أكون “تلك الشخصية” في الحالة بعينها، ولأني لست “ذلك الشخص” فلا مناص من إثبات هذه الإشارة:
(داخل كل كاتب هناك راوٍ ومستمع.. ممثل ومتفرج.. مؤلف وناسخ..مبدع وناقد.. واحد يتكلم والآخر يستجيب، ويحدث أن يتبادلا الأدوار!)
وختامًا..
يزداد فيّ الشعور، بنوع من الرعب المقدس، بأنني ذلك الإنسان الآخر، أنني الميت، وأن الخطوات التي أخطوها هي خطواته أيضاً، من منا نحن الاثنين، يكتبُ الآن هذه الأبيات!
عن أنا متعددة وكآبة واحدة؟ وماذا تهم الكلمة التي تمثل اسمي، إذا كانت اللعنة التي حلت بنا واحدة؟!”
ثم اختتم جوابه المشوّق قائلًا جملة مثيرة جدًّا للاهتمام:
“ما يحصل على ارض الواقع لا يحتاج إلى مبررات، أمّا ما يحدث في الرواية فينبغي أن يكون مبررًا”!