خطوات في بيت فرجينيا وولف


*ممدوح عزام


منذ أن تصل إلى نهر “أوس”، قادماً في القطار من مدينة لويس، في مقاطعة ساسكس الإنكليزية، سوف تعرف أنك بدأت تسير في الطريق المعاكسة لتلك التي مشت فيها فرجينيا وولف، في الثامن والعشرين من آذار/ مارس عام 1941 من منزلها، في رودمل المجاورة، إلى هنا، كي تنتحر.
هنا في هذا النهر انتحرت فرجينيا وولف: وضعت حجراً ثقيلاً في جيب معطفها، ورمت نفسها فيه. لا نرى نهراً، بل ساقية تافهة وذليلة وسط الخضرة العظيمة التي تغطي السهول والتلال. لا يمكن لمثل هذا النُهير أن يلتهم روائية مثل فرجينيا وولف. لكن هذه هي الحقيقة. والمرجح أن يكون هذا النهر حين ابتلع الكاتبة نهراً آخر، عميقاً وهادراً وجاهزاً ومتأهباً ليأخذ واحدة من أهم روائيي الحداثة في العالم، بطريقة بدائية وعنيفة وعديمة الرحمة. (كان الوقت صيفاً حين مررنا به).
تبدو الطريق صامتة ومترقبة وخالية من المارة. لم أر إلا القليل جداً من البشر. لا في القرية الصغيرة التي تفصل رودمل عن النهر، ولا في رودمل نفسها. غير أنني لا أظن أن لهذا الخلاء، علاقة باضطراب روح فرجينيا وولف. تثير السهول الخالية شعوراً بالرغبة في العزلة، لا في الموت.
يتسم منزلها “مونكس هاوس” ببساطة، قد تشجع على نسبته إلى النسّاك، أو الرهبان. والأقوى أن ينسب إلى فرجينيا وولف ذاتها، التي اتسمت حياتها هناك بطابع تنسّكي، حيث كانت تمضي سنوات حياتها الأخيرة. وأول ما يدهش الزائر إلى المنزل، هو هذا التقشف المخيّب للصورة النمطية عن الكاتب. فالروائية الإنكليزية التي اقتحمت القرن العشرين، بتجديدها الروائي، وتركت آثاراً قوية في فن الرواية على مساحة العالم كلّه، لا يوجد في مكتبتها أكثر من مئة كتاب. وهي تجاور سريراً يشي أن صاحبته كانت تميل إلى النوم وحيدة دون الشريك الذي لا تظهر آثاره في المنزل. يمكن رؤية تمثاله النصفي على طرف الممر المعشب المتجه نحو “الغرفة التي تخصّ المرء وحده”. ويقابلها رف يضم زجاجة “بيمز” استهلك نصفها فقط، وبعض الأواني الخزفية المزينة بأشكال نباتية. وليس في الغرفة الأخرى غير بضع آرائك، وراديو خشبي، ومخطوط قديم مطبوع، ورغبة من المرأة المشرفة على المنزل بعدم الإكثار من التصوير المرفق بالإضاءة. في الطرف الآخر من المنزل، حيث العزلة، والصمت، تقع الغرفة التي كانت فرجينيا تكتب فيها. تمتلئ تلك الغرفة بالمعنى الحرفي لهذه العبارة التي كتبتها في كتابها “غرفة تخص المرء وحده”، وهي: “إذا أرادت المرأة الكتابة، فعليها أن تمتلك غرفة تخصّها وحدها، وبعض المال”. وقد تحدثت عن التغيّر في المزاج الذي يكفله الدخل المضمون. غرفة وحيدة مستقلة، لها أكثر من نافذة: إحداها، خلف ظهر الكاتبة، كما يظهر في الصورة، والثانية، وهي تلك التي تواجه الكاتبة، وقد التقطت الصورة منها، تواجه المنزل، حيث يمكن أن يتاح لها أن ترى من يمكن أن يأتي نحو غرفتها. فيما تطلّ الثالثة على سهل معشب فسيح، مغلق عند الأفق بتلال تظهر الحفائر الكلسية شديدة البياض، في سفوحها. وقد كانت تستطيع أن تبدّل موقع المنضدة كل مرة كي ترى من إحدى النوافذ المشهد الذي تختاره. لا أستطيع الآن أن أحدّد المسافة التي تفصل غرفة الكتابة الخاصة بفرجينيا وولف، عن المنزل. المؤكد عندي أنها مسافة كافية لإبعاد أي صوت محتمل، قد يأتي من تلك الناحية. إذ تفصل بينهما حديقة أشجار، وممر مرصوف بالحجارة، ومسوّر بالورود. غير أن الصمت، والعزلة، يبدوان أسياداً بلا منازع في فضاء الريف البعيد الأخضر المحيط بالكاتبة. 
لا يمكن الدخول إلى هذه الغرفة، إنها مغلقة ومحمية بقوة تقاليد عريقة، تسعى للحفاظ على الموجودات التي رافقت الروائية في سنواتها التي أمضتها هنا، في مونكس هاوس. ثمة مصباح يعمل على الوقود الذي يغذي فتيلاً يشتعل داخل الناقوس الزجاجي ذي العنق المتطاول. وأقلام للكتابة ترتاح على كدسة أوراق. (لا أثر للكتب هنا، والظاهر أنها كانت غرفة تخصّ الكتابة وحدها أيضاً). ومجموعة من المصنّفات (ولا أثر في المكان لآلة الكتابة التي يقول كوينتن بل ابن شقيقتها، وكاتب سيرتها، أنها كانت تطبع عليها، غير أن سطح المنضدة الشاسع كان يسمح بإحضارها في أي وقت). وسجادة وسلّة مهملات ضخمة، قد تشير إلى ارتباك الكتابة التي تتطلب تمزيق الورق. لا يعرف الزائر لمن وضع المقعدان المجاوران لطاولتها: لها، حين ترغب في الراحة. أم لزوّار حميمين يمكن أن تسمح لهم، باقتحام العزلة المختارة؟ وجود تلك الغرفة، إلى جانب الدخل المضمون القادم من إرث عمتها، جعلها تعيش ما سمته “الانعتاق الأكبر”: “أي حرية أن يتفكّر المرء الأشياء كما هي”. غير أنها لم تستطع أن تتحرّر من تلك الأصوات الفظيعة التي كانت تلحق بها أينما ذهبت. وكان عليها أن تنجو منها، باللجوء إلى قعر النهر. هناك حيث ضمنت إلى الأبد تلك السماء المفتوحة التي كانت تتحدث عنها. 
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *