أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (9)


*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القتال تحت رايات المستعمرين

نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والأنثـروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة ) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف عن الواقع الإجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية.
المترجمة

_____________

ساهم اثنان من أطفال وانغاري ، وبطريقة لم أكن أفهمها آنذاك في ربطي بتأريخٍ كان يلقي بظلاله على المستعمرة الكولونياليّة ( يقصد كينيا ، المترجمة ) وكذلك على العالم بأسره : كان أحد هذين الشقيقين الأكبر سنّاً في عائلة والدي يسمّى ( تامبو Tumbo ) وكان اسمه غريباً بعض الشيء لانّه لم يكن يمتلك في واقع الحال بطناً كبيرة كما كان يبدو مُتبطّلاً لا يعمل في أيّ عمل موصوف مثل الآخرين ، وكنتُ أسمعُ همساً يتردّدُ بين الناس مفادهُ أنّ أخي هذا كان ( غيسيرو Giceru ) وهو مصطلحٌ يشيرُ إلى من كانت بشرتهم أقلّ اسوداداً من الآخرين رغم أنّ السائد هو أنّ مصطلح غيسيرو كان ببساطة اسماً بين الأسماء ولم يكن ليشير إلى أيّة مهنة على الإطلاق . كنتُ أتساءلُ دوماً : كيف يمكن لأحدٍ أن يمتهن مهنة يحدّدُها محض لون بشرته ؟ !! ولم أعلم إلّا في أوقاتٍ متأخّرة أنّ تلك المفردة كانت مشتقّة من الكلمة السواحليّة ( Kacheru ) التي تعني ( المُخبِر ) وحينها علمتُ أنّ أخي ذاك كان وكيل استخبارات يعملُ في سلك الشرطة السريّة . أمّا أخي الثاني ( جوزيف كاباي Joseph Kabai ) فكان هو الآخر أحجية مثل الآخرين ولطالما بدا لعقلي كمحض صورة انبعثت وسط هالةٍ ضبابيّة ، ولمّا لم أكن قد التقيته وجهاً لوجهٍ فإنّ صورته المتكوّنة في ذهني لاتعدو أن تكون إطاراً ضمّ كتلة الملاحظات والنُّتف الصغيرة الّتي قيلت لي عنه : عندما كان لا يزالُ صغيراً اعتاد اخي جوزيف على رعي قطيع والدي في مراعي الأحراش ، وحصل ذات يومٍ أن انخرط في شجارٍ مع طفلٍ أكبر منه سنّاً تبدو عليه سمات ثورٍ جامح واعتاد التحرّش بأخي متى ما رآه يحلبُ أبقار والدي كما اعتاد ان يشرب من ذلك الحليب متسلّحاً بقوّته وبلطجته و كان ذلك الأمر مبعث قلقٍ لأخي الذي توقّع حدوث مشاكل في وقت ليس ببعيد ، وحصل بالفعل ذات يومٍ أن اندفع أخي وهو في سورة غضبٍ جامح ودفاعٍ عن النفس فطعن ذلك الصبيّ المتغوّل طعنة مميتة بسكّينه . ألقي القبض على أخي وأودِع في المدرسة التجاريّة الإصلاحيّة في وامونيو – بسبب صغر سنّه – حيث تسنّى له الحصولُ على بعض التعليم الرسميّ ، و تناهى إلى مسامعي بعد ذلك أنّه انخرط في القوّات التي تقاتلُ تحت راية الملك جورج الخامس في الحرب العالميّة الثّانية ، وقاتل كفردٍ في قوّات حملة البنادق الإفريقيّة الملكيّة KAR ( King”s African Rifles ) و لستُ أعلمُ لغاية اليوم هل تطوّع للقتال في تلك القوّات أم دُفِع دفعاً للقتال تحت رايتها .
تأسّست قوّات حملة البنادق الأفريقيّة الملكيّة عام 1902 كناتجٍ لاندماج وحدتين : قوّة حملة البنادق الأفريقيّة ، ووحدة الكتيبة الأفريقيّة المركزيّة ، وكانت تلك القوّات بعضاً ممّا تفتّق عنه عقل الكابتن لوغارد Lugard الذي عُرِف عنه اتّباعه لقاعدة الحكم البريطانيّ غير المباشر التي هي في الأصل ستراتيجيّة تقوم على أساس إستخدام مواطني منطقةٍ ما في مقاتلة مواطني منطقة أخرى إلى جانب إستخدام الرؤساء المتنفّذين للمجتمعات المحلّية – و يستوي في ذلك الوارثون لذلك اللقب أو الذين نصّبتهم السلطات الكولونياليّة – في قمع مواطني مجتمعاتهم المحليّة على مرأى ومسمع سلطات التاج البريطانيّ . لعبت الكتيبة الأفريقيّة دوراً مشهوداً من قبلُ في مطاردة القائد الألمانيّ الماكر فون ليتو – فوربيك Von Littow – Vorbick خلال الحرب العالميّة الأولى وكذلك في الحرب ضدّ ملك الأشانتي ( الأشانتي Ashanti : منطقة وسط غانا ضمّتها بريطانيا عام 1902 وصارت جزءا من المستعمرة البريطانيّة السابقة المسمّاة ساحل الذّهب ، المترجمة ) .
لم يكن كاباي هو الوحيد بين عائلتنا الذي قاتل في الحرب العالميّة الثانية بل ساهم ابن عمّي ، موانغي ، الابن الأكبر لِـ ( بابا موكورو ) في تلك الحرب أيضاً ، وكانت أسماءٌ غريبة مثل : موسوليني ، هتلر ، فرانكو ، ستالين ، تشرشل ، روزفلت ،،،،، إلى جانب أسماء أماكن مثل : أمريكا ، ألمانيا ، إيطاليا ، روسيا ، اليابان ، مدغشقر ، بورما ،،، تتردّدُ على مسامعنا أثناء رواية حكايات المساء ونحن متحلّقون حول موقد النّار في كوخ أمّنا وانغاري ، وكانت أسماء تلك الشخصيّات والأمكنة التي نسمعها آنذاك غامضة ومحيّرة لنا بقدر ماكان اسم ( هاري ثوكو ) قبلهم ، وكنّا نراهم جميعاً مثل خيالاتٍ باهتة تتراقص وسط الضّباب . هل كان هتلر الذي كنّا نسمع اسمه على الدّوام هو ذاته الذي رفض مدّ يده و مصافحة جيسي أوينز ؟ !! لم يكن في قدرتي آنذاك فهم تلك الأسئلة وأشباهها إلّا بمعونة الغيلان الرعديدة التي تواجهُ الأبطال الأشدّاء في الفضاء اللانهائيّ لِعالم الحكايات الشفاهيّة : هتلر وموسوليني مثلاً اللذان مثّلا تهديداً خطيراً لنا و لوّحا باسترقاق الأفارقة كانا يمثّلان الغيلان القبيحة المكروهة في مخيلتي و لم يكن البرهان القاطع على ما يضمرانه لنا من شرّ بعيداً عنّا إذ كان بينيتو موسوليني قد احتلّ إثيوبيا عام 1936 ( قبل أن أولد أنا ببضعة أعوام ) و أجبر الإمبراطور الأفريقيّ هيلا سيلاسي على الخروج إلى المنفى ، كما وجّه إهانة أخرى في سلسلة إهاناته إلى السكّان المحليّين عندما أنشأ مستعمرة ( شرق أفريقيا الإيطاليّة ) التي ضمّت أثيوبيا والمقاطعات القريبة منها . ( اليوم نحنُ ، وغداً أنتم ) : هكذا خاطب هيلا سيلاسي عصبة الأمم التي راقبت غزو إثيوبيا بصمت بالغ ولم تحرّك ساكناً رغم أنّ إثيوبيا كانت عضواً فيها !! . اعتاد القوم من السكّان المحليّين رواية هذه الحكايات و أمثالها كما لو كانت جزءا أصيلاً من وقائع حياتهم اليوميّة وكنتُ أتساءلُ على الدوام : كيف يمكنُ لهؤلاء الرّجال و النساء ( و بعضهم كان يعملُ في معمل باتا لصناعة الأحذية ) أن يعلموا بأمر هذه الحكايات القديمة التي ما سمعوها من قبل ، وكذلك بأمر تلك الأماكن البعيدة التي ما رأوها يوماً ؟ !!
كنّا نشاهدُ الراقصين الشّباب يلهجون بأغانٍ عن ( هتلر الشرّير ) وهم ذاهبون في كراديس استعراضيّة إلى مناطق كينيا البعيدة ليضعوا نير الأغلال في رقاب الأفارقة ، وعزّز ذلك المشهد قناعتنا بضرورة ألّا يُتركَ الوحش المفزِعُ طليق اليدين ليفعل مايحلو له في العالم ، ورسمنا في أذهاننا صورة أولئك الأبطال الشّجعان الذين وقفوا بوجه النوايا الشرّيرة لذلك الوحش الفتّاك وكانوا جزءا من جيش المُخلِّصين البريطانيّ ، وكان بين هؤلاء الشّباب إبن عمّي موانغي ، وأخي كاباي ، وكثيراً ما كنّا نسمعُ عن صولاتهم في الحبشة ضدّ قوّات موسوليني وبتنا نسمعُ الكثير من الأسماء الجديدة التي انضمّت إلى مادّة حكاياتنا ، مثل : أديس أبابا ، أريتريا ، أرض الصومال الأيطاليّة والبريطانيّة ،،، ومن الطبيعيّ القول أنّ تعقيدات تلك الحروب استعصت على قدرتي وعزّ عليّ فتحُ مغاليقها . تناهت إلى أسماعنا نُتفٌ من المعلومات – التي صارت همساتٍ فيما بعدُ – والتي تحكي عن الاستسلام المهين لجنود موسوليني وكان تعليل ذلك الأمر بالنسبة لي غاية في البساطة : لابدّ أنّ الأبطال الصّناديد هزموا الغيلان المتوحّشة و بخاصّة تلك الغيلان المتوجّهة نحونا ، وأنّ أخي وابن عمّي لعبا دوراً ما في ذلك النصر العتيد ، وكانت مخيّلتي آنذاك ترى في جوزيف كاباي ( أخي الذي ما رأيته أبداً من قبلُ ) أكثر الرّجال بطولةً ، وأنّ جنود موسوليني قد استسلموا له هو وليس لأيّ أحدٍ غيره !! وعلى الرغم من كوننا – أنا وهو – مرتبطين برابطة الدم ، دم والدي ، غير أنّه كان يمثّلُ لي شخصيّة قابعة بعيداً في عالم الجنيات السّاحر الذي لم يكن بوسعي بلوغه .
لم تكن شواهد الحرب تطرقُ أسماعنا من خلال ما كنّا نسمعه من حكاياتٍ فحسبُ بل كنّا نرى معالمها في كلّ مكانٍ حولنا : كنّا مثلاً نرى المُزارعين القرويين المساكين وهم مُجبرون على بيع محاصيلهم إلى مجلس التسويق الحكوميّ حصراً ولم يكن انتقال المحاصيل الغذائيّة مسموحاً به بين المناطق من غير ترخيص حكوميّ وهو الأمر الذي كان ينشأ عنه شحُّ الغذاء ومجاعاتٌ في بعض المناطق ، ومع أنّني لم أفهم الأسباب الكامنة وراء تطبيق ذلك النّظام آنذاك لكنّي أدركتُ أنّ نمط إنتاج الغذاء وتوزيعه بتلك الطريقة كان الوسيلة التي تساهمُ بها المستعمرة الكولونياليّة في دعم الإقتصاد الحربيّ لبريطانيا ، وأذكرُ أنّ تلك المنظومة التقييديّة على الغذاء أنتجت في منطقة ليمورو واحداً من كبار المُهرّبين المشهورين ، كاروغو ، الذي اعتاد قيادة شاحنته سريعاً والتملّص من قوّات الشرطة التي كانت تطارده ، ولكن ألقي القبض عليه في نهاية المطاف وأودِع السّجن ثمّ صار أسطورةً في المخيال الشعبيّ إلى حدّ أن نحتت الجماهير عبارة ( مقياس كاروغو للسرعة Karugo”s Speedometer ) تخليداً له ، ومتى كان أحدهم يخاطبُ شخصاً بالقول ( Tura na cia Karugo ) فإنّ ماكان يعنيه هو ( لا تقلق بشأن أيّ حدٍّ للسرعة القصوى)!!.
____
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *