أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (3)




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والانثروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال- وسأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة).
________
بلغت رحلة عودتي من المدرسة إلى البيت ختامها عندما دلفتُ إلى الداخل ووجدتُ والدتي وانجيكو ، وأخي الأصغر نجينجو ، وأختي نجوكي ، وزوجة أخي الأكبر تشاريتي قد تحلّقوا جميعاً حول موقد النار ، وبخلاف كينيث كنتُ لا أزالُ أعاني من دوار لازمني منذ سماعي بحكاية الرجل المُطارد مجهول الهويّة الذي رأيتُ فيه واحداً من الشخصيّات التي لطالما قرأتُ عنها في الكتب ، ولكنّ قرقرة بطني الخاوية أعادتني إلى عالمي الأرضي . كان الوقتُ آنذاك قد تعدّى الغسق بقليل ولم يتبقّ الكثير من الوقت لتناول الطّعام ، وتناولت تلك الليلة طعامي في إناءٍ مصنوع من خشب الكالاباش ( calabash : خشب يؤخذ من ثمار خشبيّة كبيرة تشبه القرع الجبليّ تنمو على أشجار استوائيّة دائمة الخضرة وموطنها الأصليّ هو القارّة الأمريكيّة ، المترجمة ) وسط أجواء من الصمت المطبق الّذي عمّ المكان حتّى أنّ أخي الأصغر الّذي اعتاد الحديث عن إخفاقاتي الكثيرة – مثل عودتي إلى البيت متأخّراً بعد حلول الغسق – لزم الصمت وبقي هادئاً طول الوقت . ألحّت عليّ فكرة توضيح السّبب وراء عودتي المتاخّرة ولكن كان عليّ أوّلاً و قبل كلّ شيء تسكين قرقرة أمعائي المتضوّرة جوعاً ، ولكنّي وجدتُ أنّ الأمر لم يكن على قدر معقول من الضّرورة فلازمتُ السّكون مثل الآخرين . كسرت والدتي حاجز الصمت التام عندما أخبرتنا أنّ أخي الأكبر ( والاس موانغي ) الذي يُكنّى بين العامّة بِـ ( والاس الطيّب ) قد نجا ذلك العصر من موتٍ وشيك ، وصلّينا جميعنا لأجل سلامته بينما كانت والدتي تتمتم “هذه هي الحرب ،،،،،،، ” . 
وُلِدتُ عام 1938 قبل وقت قصير من اندلاع حربٍ أخرى – الحرب العالميّة الثّانية . والدي هو ثيونغو وا نغوكو ، ووالدتي هي وانجيكا وا نغوغي ، ولست أعرفُ لليوم أين يقعُ ترتيبي – من حيثُ سنوات العمر – بين الأطفال الأربعة والعشرين الّذين أنجبهم والدي من زوجاته الأربع ولكنّي كنتُ بالتأكيد الطفل الخامس في ترتيب أخوتي بمنزل والدتي : فقد سبقَني في الولادة كلٌّ من أختي غاثوني ، وأخي الأكبر والاس موانغي ، وأختاي نجوكي وَغاسيرو ، أمّا أخي نجينجو فكان الطّفل السّادس والوحيد الأصغر منّي الّذي أنجبتهُ والدتي .
ذكرياتي المبكّرة عن منزلنا تحوي صوراً عن فناءٍ فسيح وخمسة أكواخٍ مشيّدة على قوس نصف دائريّ . كان أحدُ هذه الاكواخ يعودُ لوالدي و اعتادت الماعزُ أن تشاركنا النوم فيه ليلاً ، وكان كوخ والدي يمثّلُ الكوخ الرئيسيّ في المجموعة لا بسبب عظم حجمه بل لانّه أقيم على مسافاتٍ متساوية من الاكواخ الأربعة الأخرى ، وكان مثلُ هذا الكوخ يدعى ( ثينغيرا ) ، و كانت العادة المتّبعة آنذاك هي أن تتناوب زوجاتُ والدي – أو امّهاتنا كما كنّا ندعوهنّ – على إعداد الطّعام وَإحضاره إلى كوخ والدي حسب الترتيب .
كان كلّ كوخٍ من أكواخ زوجات والدي مقسّماً إلى فضاءات لها وظائف مختلفة : فثمّة موقد نارٍ يرتكزُ على ثلاثة أحجار تتوسّطُ الكوخ ، وهناك مساحةٌ مخصّصة للنوم وتخدمُ كمخزن مؤن في الوقت ذاته ، ويوجد فيه ايضاً جزء مقتطعٌ يأوي إليه الماعز ليلاً ويحوي في العادة قفصاً لتسمين الأغنام أو الماعز التي كانت تنتظرُ الذبح في مناسبات خاصّة ، كما احتوى كلّ كوخٍ على صومعة حبوب وكشك صغير دائري الشكل مثبّت على ركائز وتحيطه جدرانٌ مصنوعة من عيدان صُفّت معاً بقوة محكمة . كنّا في العادة نستخدمُ صومعة الحبوب كمقياسٍ للوفرة أو الشحّة : فبعد موسم حصاد وفير الغلال كانت الصومعة تمتلئُ بحبوب الذُرة والبطاطا والبازلّاء والفاصولياء ، وكان في مقدورنا أن نحدس فيما لو كانت ثمّة أيّام مجاعة تقتربُ منّا بمراقبة كمّ الغلال الموجودة في الصّومعة . احتوى الفناء الفسيح على زريبة أبقار كبيرة تدعى ( كراال Kraal ) مع أماكن أصغر للعجول ، واعتادت النسوة على جمع روث الأبقار ومخلّفات الماعز وتخزينها في موقعٍ قريب من المدخل الرئيسيّ للفناء . ومع السنوات تحوّل ركام الروث والفضلات إلى تلّة يغطّيها نبات القرّاص الشوكي Nettles ذو الرائحة اللاذعة ، وقد وجدت في تلك التلّة الكبيرة أعجوبة محيّرة لي كلّما كنتُ أرى اليافعين يتسلّقونها ثمّ يعودون هابطين بسهولة مفرطة . كانت أمام فناء الاكواخ مساحة مليئة بالاحراش تمتدُّ قبالة تلّة الروث واعتدتُ وأنا لمّا أزل طفلاً غير قادر على المشي بعدُ أن أتابع بناظريّ أمّهاتي وأشقّائي الكبار وهم يجتازون البوّابة الرئيسيّة باتجاه الأرض المزروعة بالأحراش وبدا الأمرُ لي كما لو أنّ تلك الأرض كانت تبتلعُ أمّهاتي وأشقّائي في وضح النّهار وبطريقة غامضة للغاية ، وكانت بذات تلك الطريقة الغامضة تلفظهم خارجها من غير أن تؤذي أحداً منهم ، ولم يكن بوسعي معرفة أنّ ثمّة طرقا بين الأشجار إلّا بعد أن كبرتُ قليلاً وغدوتُ قادراً على المشي وبلوغ مناطق أبعد قليلاُ من محض بوّابة الفناء وحينها علمتُ أنّ وراء الغابة تقبع بلدة ليمورو ، وكانت تمتدُّ من الجهة المقابلة للسكة الحديديّة مزارع خضراء مملوكةٌ للبيض حيث اعتاد أشقّائي الكبار العمل هناك في قطف أوراق الشّاي لقاء أجرٍ يوميّ .
تغيّرت الأحوال بعد ذلك ولستُ أدري اليوم هل حصل هذا التغيير على نحوٍ متباطئ أم فجائيٍّ و لكنّ المؤكّد أنّ الأمور تبدّلت في نهاية الأمر: اختفت الابقار والماعز من المشهد أوّلاً تاركة وراءها زرائبها الفارغة ، ولم يعد موقع تجميع الروث وفضلات الماعز يستخدم إلّا لتجميع القمامة لذا صار ارتفاع تلّة الروث القديم أقلّ تهديداً لي وبات في قدرتي ارتقاؤها والهبوط منها بسهولة ، وتوقّفت أمّهاتنا عن تهذيب الأرض التي بجوار الفناء و تحويلها إلى أراضٍ مزروعة واكتفين بالعمل في مزارع بعيدة عن موقع سكننا ، ولم يعد كوخ أبي في عداد أكواخ ( ثينغيرا ) كما كان من قبلُ وصار لزاماً على أمّهاتنا قطعُ مسافة طويلة لإيصال الطّعام إليه . كنتُ أعلمُ آنذاك أنّ الأشجار باتت تقطعُ وتُتركُ جذوعها في الأرض ثمّ كانت الأرض تحفرُ قليلاً تمهيداً لزراعتها بنبتة البايريثروم Pyrethrum ( فصيلة من بين عدّة فصائل نباتيّة تنتمي لعائلة البابونّج ، تستخدم للزينة بسبب جمال أزهارها ، كما يستخدم مسحوق الازهار المطحون كمبيد حشرات طبيعيّ ، المترجمة ) ، و كان من الغريب رؤية الغابة القريبة من سكننا وهي تتراجع منهزمة أمام زحف نبات البايريثروم ، والاكثرُ جدارة بالملاحظة أنّ أخوتي واخواتي شاركوا في ذلك الزحف عندما دأبوا على العمل فصليّاً في مزارع ذلك النبات – الذي التهم أجزاء كبيرة من غاباتنا – بعد أن كانوا معتادين على العمل في مزارع الشّاي المملوكة للأوروبيين والواقعة عبر الجهة الثانية من السكّة الحديديّة . 
حصلت التغيّرات في كلّ من البيئة الطبيعيّة والنسيج الاجتماعيّ على نحوٍ لا يمكن إدراكه بسهولة بل تمازج الاثنان وخلقا وضعاً مربكاً بعض الشّيء ، ولكن مع الوقت بدأت خيوط اللعبة تتكشّفُ وبدت الأمور أكثر وضوحاً لي كما لو كنتُ خارجاً من غشاوة ضبابٍ كثيف وصرتُ مدركاً منذ ذلك الحين أنّ الأرض التي لطالما افترضناها ملكاً طبيعيّاً لنا لم تكن كذلك ، و أنّ المجمّع الّذي كنّا نسكن فيه كان بعض ملكيّة أحد لوردات الأرض الأفارقة : اللورد المحترم ستانلي كاهاهو ، الذي كنّا نسمّيه نحن ( بوانا كاهاهو) ، و علمتُ أيضاً أنّنا لم نكن بأكثر من مستأجرين منه ، ومضيتُ أتساءلُ : كيف ترتّبت الأمور بحيثُ صرنا محض مستأجرين لأرضٍ نعلم جميعنا أنّها أرضنا ؟ هل خسرنا أرضنا المملوكة تقليديّاً لنا وفاز بها الأوروبيّون ؟
لم تكن غشاوة الضّباب حينذاك قد انجلت تماماً عن أفكاري بعدُ.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *