أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (8)




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


عن رواة الحكايات وسحر الحكاية
نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والأنثـروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة ) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف عن الواقع الإجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية.
المترجمة
كنتُ أتطلّعُ بكثيرٍ من الشّوق إلى تلك المساءات الجميلة ، وبدا لي الأمر باعثاً على دهشةٍ عجائبيّة عندما كنتُ أستمعُ إلى تلك الحكايات السّاحرة – و الباعثة على الرعب أحياناً – وهي تخرجُ من أفواه الحكّائين الذين كنّا في حضرتهم مثل جوقة غنائيّة . وكانت لهؤلاء الحكّائين قدرةٌ آسرة لدى سامعيهم ، إذ لطالما شعرتُ عند سماعهم أنّني كنتُ أحمَلُ إلى عالمٍ ثانٍ يزخرُ بتناغم لانهائيّ حتّى لو تخلّلته أجواء كئيبة بعض الأحيان وهو الأمر الذي استطاع شحذ حدسي عمّا سيحصل لاحقاً ، وكنتُ في العادة أنزعجُ غاية الانزعاج لدى سماع أحدهم وهو يقاطعُ راوي الحكاية معترضاً على صحّة تسلسلٍ ما فيها وكنت أتساءلُ : لِمَ لا ينتظرُ هذا دوره في السّرد ليفرغ جعبته ممّا يبتغي البوح به ؟ 
كانت جلسات سماع الحكايات المسائيّة تلك تنتقلُ إلى أفواه نساءٍ أخرياتٍ غير وانغاري فتفقدُ جزءاً من جوّها الاحتفاليّ السّاحر : لم تكن غاكوكي أو نجيري راوياتِ حكاياتٍ بارعات وقد ساهمتا في قصّ بعض الحكايات وشاركتهنّ والدتي في انعدام براعة الحكي التي تملكها وانغاري و لكنّها لم تعدم إسماعنا حكاية جميلة متى ماكنّا نلحُّ في طلبنا منها رواية حكايةٍ لنا ، وعندها لم تكن ترى مفرّاً من إسماعنا واحدةً من حكايتين لم تكن تجيدُ غيرهما أبداً . كانت إحدى حكايتيها تحكي عن حدّادٍ يذهبُ إلى محلّ حدادته البعيد ويترك زوجته الحامل وحيدة ، ويحصلُ أنّ غولاً ساعدها لدى ولادتها ولكنّه لم يستطع كبح جماح نفسه الأمّارة بالسّوء من التهام كلّ الطعام والشراب الخاصّ بالأمّ ، وهنا وجدت الأمّ نفسها مُجبرة على عقد اتّفاقٍ مع حمامةٍ تمنحها بموجب الاتّفاق بضع حبّاتٍ من الخروع في مقابل توصيل رسالة إلى زوجها الحدّاد لإخباره بحقيقة ماجرى ، وعندها يأتي الحدّاد ويقتلُ الغول ويعيشُ في النهاية الحدّاد مع زوجته وعائلته عيشة سعيدة !!! . أمّا الحكاية الثانية من حكايات والدتي فكانت غاية في البساطة حتّى أنّها بدت عديمة الحبكة تقريباً : رجلٌ أصيب بجرحٍ استعصى على الشّفاء لكنّ الرّجل مضى في طلب السّعي لإيجاد علاج يبرئه من ذلك الجّرح ، ولم يكن الرّجل يعرفُ أين يمكثُ رجل التطبيب الذائع الشّهرة وكان كلّ مايعرفه بشأنه أنّ اسمه ( نديرو ) ، وعندما كان يصفه إلى الأغراب كان يكتفي بوصف خطواته في الرّقص والإيقاعات المتناغمة المنبعثة من ( الجلاجل ) المربوطة في كاحليه والتي تتناغم إيقاعاتها هي الأخرى مع اسمه ( نديرو ) !!! . كانت نهاية الحكاية الأخيرة أكثر شيوعاً وقبولاً لدينا – نحن الأطفال – لأنّها كانت تمنحُنا القدرة على تخيّل رجل الطبّ هذا وهو يضربُ الأرض راقصاً بقدميه فنمضي نحن ونضرب الأرض بأرجلنا في انسجامٍ كامل ونحن نصيحُ ( نديرو ) ، وحصل أن أحبّت إحدى شقيقاتي هذه الحكاية إلى حدود غير معقولة حتّى أنّها اعتبرتها حكايتها الخاصّة وكانت لا تتردّدُ في حكايتها المرّة تلو المرّة عندما كان يحينُ دورها في رواية حكاية .
كنّا خلال النهار نعيدُ رواية الحكايات الّتي سمعناها في المساء السّابق ولكنّ حكايات النّهار لم تكن تمتلك تلك القوّة وهي تُروى حول موضع النّار داخل أكواخ أمّهاتنا حيث المكان مكتظٌّ بالمستمعين المتعطّشين للاستماع إلى حكايةٍ جديدة أو رواية حكاية أخرى . كان ضوء النّهار يأخذ الحكايات بعيداً كما كانت تقولُ أمّهاتنا وبدا لي ذلك القول صائباً على الدّوام . 
كان ثمّة استثناء وحيد يتقاطعُ مع قواعد حياتنا الليليّة والنهاريّة ، و اختصّ ذلك الاستثناء بِـ ( وابيا Wabia ) الطفل الخامس والابنة الثانية في الوقت ذاته بين أطفال وانغاري السّبعة الذين كان بينهم أربعةٌ ممّن يعانون إعاقاتٍ جسديّة من نوعٍ ما ولكنّ أخطر تلك الإعاقات هي ماكان يعانيه الشقيقان ( غيتوغو ) وَ ( وابيا ) . كان غيتوغو قد فقد قدرته على النّطق في اليوم ذاته الذي فقدت فيه شقيقته وابيا القدرة على الإبصار والحركة معاً ، ومع أنّ غيتوغو ووابيا كانا قد وُلِدا بأبدانٍ صحيحة لكن حصل ذات يومٍ أن كانت وابيا تحمل أخاها الرّضيع غيتوغو على ظهرها وفجأة ضربتهما صاعقة من البرق وبعدها اشتكت وابيا من أنّ أحداً ما قد أطفأ الشمس !!! واتّبع غيتوغو خطى شقيقته عندما زعم أنّ الشّخص ذاته أبطل أيّ صوتٍ في الكون ولكنّ غيتوغو تعلّم لاحقاّ كيف يتكلّمُ مستخدماً لغة إشاريّة مدعومة بأصوات حلقيّة غير مفهومةٍ ويصعب فكّ شفرتها !!! ، وبعيداً عن هذه الإعاقة الطارئة الّتي أصابته ، لم يكن غيتوغو الفاتن ذو البنية الجسديّة المتينة يشكو أيّ خطبٍ أو إعاقة جسديّة أخرى على العكس من شقيقته وابيا التي تفاقمت حالتها وفقدت مفاصل أرجلها أيّة قدرةٍ على الحركة حتى لم يعد بمستطاعها أن تقف أو تخطو بضع خطواتٍ إلّا بمساعدة عُكّازي مشي ، واعتادت الجّلوس أو الاضطجاع في الفناء تحت سقف كوخ والدتها ، وكانت أحياناً تخطو بضع خطواتٍ ثمّ تُعاود الاضطجاع تحت أشعّة الشّمس الدافئة ولكنّ المثير في أمرها أنّ صوتها وذاكرتها باتا أكثر قوّة من ذي قبلُ : فعندما كانت تغنّي – وهو الأمر الذي كانت تفعله أحياناً قليلة فحسب – كان صوتُها يُسمعُ لمسافاتٍ بعيدة ، ومع أنّها لم تكن من مرتادي الكنيسة المواظبين لكنّها كانت تتذكّرُ بالضبط ماكان يقولهُ مرتادو الكنيسة أمامها بعد أن تكون قد أصغت لأحاديثهم من قبلُ ، ومع الوقت صارت وابيا خزانة للترانيم المغنّاة والألحان الكنسيّة التي كانت تُؤدّى في كنائس مختلفة ، ولم تكن جعبة خزانتها مقتصرة على الألحان الكنسيّة بل كانت تحفظُ الكثير من الألحان وبخاصّة تلك التي تتردّدُ كثيراً في الحكايات التي تُروى حول موقد النّار في كوخ والدتها وانغاري . بالنسبة إلى وابيا لم تكن الحكايات تتلاشى في ضوء النّهار لذا كنّا – نحن الأطفال – ممتنّين كثيراً لقدرتها الفائقة في حفظ الحكايات وإعادة روايتها لنا أثناء النّهار ، وكانت في العادة لا تشاركُ في رواية أيّة حكاية خلال الجلسات المسائيّة بل تكتفي بالإصغاء الكامل ثمّ كانت في اليوم التالي تعيدُ على مسامعنا رواية الحكايات التي سمعتها بعد أن تضيف لها طاقة خياليّة هائلة لذا حازت شهرتها بإعتبارها الوحيدة القادرة على جعل حكايات النّهار أكثر جاذبيّة وإمتاعاً من الحكايات ذاتها التي كانت تُروى في المساء : كانت وابيا قادرة من خلال تموّجات صوتها – علوّاً وانخفاضاً – على خلق جوّ حكائيّ مشحون بالشّعر و الدّراما . توجّب علينا بطبيعة الحال أن نكون رقيقين للغاية مع وابيا وأن نعاملها بحبّ لكي تستمرّ في إمتاعنا برواية الحكايات النّهاريّة السّاحرة ، وعندما كنّا نتشاجرُ فيما بيننا أو لا نطيعُ أمّهاتنا كانت وابيا تتعمّدُ الادّعاء – وهي تُبدي إمارات الحزن العميق – بأنّ الحكاية قد هربت بعيداً عنها !! و حينئذ لم يكن أمامنا مفرّ من أن نجتمع ثانية ونتعاهد أمامها بأنّنا سنسلك بتهذيب ولياقة في الأيّام اللاحقة ، وعندما كان بعضُ الأطفال يطلبون إليها بإلحاحٍ أن تروي لهم بعض الحكايات وتجابههم بالرفض كانوا يعمدون إلى إبعاد عُكّازيها كنوعٍ من الانتقام منها ولكنّها كانت لا تأبه أو تنصاعُ لِما كانوا يبتغون . كنتُ أنا واحداً من أكثر المُطيعين لِـ ( وابيا ) وكنتُ أجلبُ لها الماء دوماً وأستعيدُ عكّازيها البعيدين عنها وقد راق لها كثيراً كوني أحد المتولّهين المتحمّسين لسماع حكاياتها ، والحقُّ أنّ وابيا امتلكت قدرة تخييليّة أكبر بكثير ممّا امتلكته والدتها وانغاري أو أيٌّ من الحكّائين الآخرين وكان خيالها الحكائيُّ يأخذني على الدّوام إلى عوالم لا يدركها الآخرون : عوالم من تلك التي سأمتلكُ القدرة لاحقاً على تلمّس لمحة عنها في القصص والرّوايات ، ومتى توجّب عليّ تذكّر ذلك الطّور من حياتي فلا أذكرُ في العادة عنه سوى الحكايات التي كنتُ أسمعها في كوخ وانغاري مساءً إلى جانب إعادة خلق تلك الحكايات على لسان ابنتها نهاراً .
________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *