أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (6)




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


خاص ( ثقافات )
نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والأنثـروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو ( أحلام من زمن الحرب : مذكرات طفولة ) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف الواقع الاجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية.
المترجمة
امتدّت جلسات المرافعة وسماع الأقوال لتقرير عائديّة الأرض في قاعة المحكمة المحليّة في كورا سنوات عدّة وكانت كلّ جلسة استماع تنقلبُ في ختام الأمر إلى مناقشة القيمة القانونيّة للوثائق التحريريّة الموثّقة و المصدّقة في مقابل الشهادة الشفاهيّة بحيازة الملكيّة ، وعند النطق بالحكم خسرت النزعة الشفاهيّة وتقاليد الشرف المتوارثة المعركة القانونيّة أمام التوثيق والحداثة وصار واضحاً منذ ذلك الحين أنّ أيّ تعاقدٍ مكتوب – مهما كان نوعه – سيتغلّبُ حتماً على أيّة أفعالٍ محتكمة إلى وعد شرفٍ شفاهيّ فحسب . خرج كاهاهو في خاتمة جلسات المحكمة وبعد النطق بالحكم مالكاً شرعيّاً للأرض بشرط أن يحوز والدي حقّاً غير قابل للتوارث في العمل مدى حياته في تلك الأرض التي أقام عليها أكواخه الخمسة . والغريبُ أنّ أولى الأفعال التي قام بها ذلك المحترم المنتصر هي تأكيد حقوقه بحرمان والدي من بلوغ منطقة الرعي أو المناطق الزراعيّة في أرضه .
هل أبدى والدي يوماً مايعكسُ سخريّته من واقع خسارته لأرضه إلى واحدٍ من لوردات الأرض السّود الذي كان نتاجاً للمركز التبشيريّ الذي أنشأه البيض في كيغويو تحت الشروط القانونيّة ذاتها التي انبثقت عنها إلى الوجود ( الأراضي العالية البيضاء ) المقتطعة من الأرض الأفريقيّة ؟ كانت لوالدي ثمّة مشاغل حرجةٌ تقلقه أكثر من محض التفكير في سخريات التأريخ ، وتأتي في مقدّمة تلك المشاغل كيفيّة إطعام أطفاله و قطيعه الكبير من الماعز والأبقار .
نغوغي واغيكونو ، جدّي من جهة والدتي ، هو الوحيد مَنْ مدّ يد العون لوالدي : فقد منحه حقّ الرعي وزراعة الأرض التي يملكها والواقعة في الفضاء بين الحوانيت الهنديّة والأفريقيّة ومابعدها على الجهة الأفريقيّة من السكّة الحديديّة ، وأقام والدي كوخه الـ ( ثينغيرا ) الجديد على حافة غابة تنتج اللبان الأزرق و تظلّلها أشجار اليوكالبتوس الشامخة ، وراحت قطعان الماشية الـ ( كراال ) ترعى في المنطقة ذاتها التي تمتدُّ حتّى ضواحي السوق الأفريقيّ* ، و بقيت زوجات والدي مع أطفالهنّ في الفناء القديم ، لذا على الرغم من النظام القانونيّ السائد ونتائجه القاسية فقد تعزّزت شهرة والدي بكونه الأغنى في المنطقة من حيث ملكيّته لرؤوس الأبقار والماعز إلى جانب شهرته بامتلاك منزل حسن التنظيم ، وشاعت عنه أيضاً فكرة تؤكّد أنّه لم يكن يتردّدُ في تصويب نظراته الشهوانيّة نحو أيّة امرأة جميلة حتّى بعد أن خطب امرأة صارت أولى زوجاته فيما بعد .
استطاعت إطلالة وانغاري وشخصيّتها اختراق حواجز التّلال والوديان وصارت موضوع حديث النّاس بين ( ليمورو ) و ( يوكي ) ، ورغم أنّ تلك المنطقتين قريبتان من بعضهما كثيراً ، لكنّ حقيقة الأمر أنّهما بدتا بعيدتين للغاية في تلك الأيّام حيث لم تكن ثمّة وسيلة تنقّلٍ بينهما . كان عمّي نجينجو ، شقيق والدي ، هو أوّل من خلبت لبّه وسحرته إطلالة وانغاري فعزم على اتّخاذها زوجة ثانية له ولا أحد يعرف كيف سمع العمّ نجينجو – أو بابا موكورو كما كنّا ندعوه في العادة – لأوّل مرّة بتلك المرأة أو كيف تمّ له الاتّصال بعائلتها ولا يُعرَف أيضاً فيما لو كان التقاها حقّاً والأرجح أنّه التمس تدعيم أواصر المودّة بين عائلته وعائلتها بوساطة طرفٍ ثالث . مثّلت ملكيّة الأبقار والأغنام عنصراً أكثر إقناعاً بكثير من مجرّد جمال الشّكل ، والحقّ أن اليتيمين ( يقصد والده وعمّه ، المترجمة ) الّلذين غادرا بعيداً عن الوباء وهما صفر اليدين لا يملكان شيئاً أخذا نفسيهما بالشدّة و العصاميّة وحقّقا الكثير ممّا تصعب مقارنته مع ما حقّقه نظراؤهما وباتت ملكيتهما من الماعز دليلاً مؤكّداً على أنّهما لم يكونا يعتمدان على حُسن إطلالتهما بقدر ما اعتمدا على يديهما وعقليهما .
بعدما غادر والدي وعمّي منطقة مورانغا سلك كلٌّ منهما سبيلاً مختلفاً و تطوّرت لديهما توجّهات متباينة بشأن الحياة بعامّة : فضّل والدي السّمات الحضريّة في اللباس والمظهر ولطالما نظر باستخفافٍ لايخلو من عجرفة تجاه الممارسات والطقوسيّات التقليديّة في حين أنّ عمّي طابت له الحياة وسط الأجواء الريفيّة وتربية القطعان وحافظ دوماً على القيم والشعائر التقليديّة ولم يكن ليفوته تطبيق تلك القيم والشّعائر عند زواجه من زوجته الأولى ، وتشيرُ حقيقة رغبة عمّي في الزّواج من امرأة ثانية – في حين أنّ والدي لم يكن قد تزوّج بعدُ – إلى مدى نجاح عمّي وتفضيله الحياة الريفيّة على نظيرتها المدينيّة. شكّل عمّي بابا موكورو – بمعيّة والدي – وفداً يضمُّ متحدّثاً نيابة عن الوفد وكان يُشترط ألّا يكون ذلك المتحدّثُ من أعضاء العائلة إذ ليس من المعقول أن يتحدّث المرء بالنيابة عن نفسه في أمورٍ مثل هذه . ذهب الوفد للقاء والد وانغاري ، إيكوغو ، وسارت الأمور على أفضل ما يُرتجى من حيث المشروبات والترتيبات الشكليّة المسبّقة حتّى حانت اللحظة الّتي ينبغي فيها للخطيبة لقاء خاطبها ؛ إذ كان يتطلّب الأمر الترتيب لتلك البرهة بعناية أكبر ممّا حصل بعد أن وقعت عينا الخطيبة فور دخولها على الرّجل الأصغر بين الشقيقين ، والدي ، ولم ينفع كلّ رتقٍ للأمر بعد ذلك ولقيت كلّ الالتماسات لها بتغيير قناعتها أذناً صمّاء وبات واضحاً أنّ المرأة عقدت العزم على اختيار الشابّ الذي تلوح عليه سيماء الشّباب والحداثة بدل أن تكون زوجة ثانية لشقيقه الأكبر سنّاً ، ومع عودة الوفد إلى المنزل كانت حظوظ الشقيقين قد تبدّلت بعد أن هامت وانغاري حبّاً بذلك الشابّ الحضريّ الذي تبدو عليه شواهد التمدّن والحداثة ، والدي ، وصارت زوجته لاحقاً ، وعلى الرغم من أنّ علاقة الشقيقين لم تنقطع عقب زواج والدي لكن شابها الكثير من الوهن وظلّت واهنة طوال حياتهما ، ويبدو واضحاً للغاية أنّ سلطة الحبّ الجامحة تمكّنت من إضعاف العلاقة الوثيقة بين ذينك الأخوين الذين تعاونا في شدّ أزر بعضهما في شبابهما من قبلُ بحثاً عن حياة جديدة بعيداً عن منزلهما الأوّل .
لا أعلمُ تماماً كيف حصل والدي لاحقاً على زوجته الثانية ، غاكوكي ، و ثمّة شائعاتٌ تقولُ أنّ وانغاري ذاتها هي من دبّرت أمر ذلك الزّواج بعد أن وجدت العائلة في حاجةٍ إلى أيدٍ عاملة إضافيّة لرعاية ثروتها من الأبقار و الماعز ، ولكنّ الأمر الأكثر احتمالاً هو أنّ كلمات الشِّعر المنبعث من قلب والدي وإيقاع العمل بين وانغاري ووالدي هما ما أصابا غاكوكي – الابنة الجميلة لِـ ( غيثيا ) – بالعدوى لوقت طويل قبل أن يمضي والدي طلباً لخطبتها ، وأظنُّ أنّ خبرة والدتي ، الزوجة الثالثة لوالدي ، توفّرُ دليلاً مؤكّداً على طرق والدي ووسائله التي لاتُقاومُ في إغواء النساء .
والدتي ( وانجيكو ) يمكن اختزالها في بضع كلمات تحملُ في ثناياها سطوة الصّمت الذي يتقدّمُ على كلّ كلام منطوق : كانت الكلمات تتدفّق بحماسةٍ من فمها وعند ذاك تنفتح كوّةٌ صغيرةٌ تطلُّ على روحها . سألتُ والدتي مرّةً – وأنا أعيشُ لحظةً من لحظات صفائي الرّوحي التي كانت في العادة تعقبُ تناولنا وجبة جيّدة مُشبعة – : لِمَ ارتضيتِ بزيجات والدي المتعدّدة ؟ و لِمَ قبلتِ أن تكوني زوجة ثالثة له ؟ أجابت والدتي أنّ السّبب يعودُ إلى زوجتَي والدي ، وانغاري وَ غاكوكي ، وأطفالهما كذلك ، وراحت تواصل الحديث فيما كان الضوء والظّلال التي يبعثها نار الحطب المشتعل تتراقصُ على وجهها ، فقالت أنّها علمت طويلاً بأمر التناغم الكامل الذي تعيشُ في ظلّه زوجتا والدي وذهب بها الخيال الجامح إلى تصوّر حالها فيما لو صارت شريكة في هذه الشركة العائليّة المتناغمة ، ثمّ واصلت : والدك ؟ لا يمكنُ نكران دوره في الأمر ، ولا أعرف كيف علم بمكان عملي في حقل والدي ، جدّك بالطبع ، ولكن كان والدك يظهرُ أحياناً وهو يبتسمُ ويتفوّهُ ببضع كلمات ، وأعرف كم كان الأمر سيبعثُ المرارة لو تأكّدت حقيقة أنّ الرجل الجميل الطلعة كان ينتمي إلى فئة المُتبطّلين الكسالى الذين لم يعتادوا العمل الشاق في الحقول وبخاصّة أنّ كلماته المعسولة التي كان يُسمعني إيّاها كانت تشي برجلٍ يمتلك ثروة من الماعز والأبقار ، ولكن على العموم كنتُ أعلم بيقين كامل أنّ الرّجل صنع ثروته تلك بكدحه الخالص وعرق جبينه ولكن لم أشأ أن يظنّ والدكَ بي الظنون من أنّني كنت هائمة حبّا به فمضيتُ إلى تحدّيه بنفسي وسألته سؤلاً مباشراً : كيف لي أن أعرف أنّك لست واحداً من هؤلاء الذين يتلذذون بجعل زوجاتهم تكدحُ حتّى الموت ثمّ يدّعون بعد كلّ ذلك أنّ ثروتهم ماهي إلّا نتاجٌ خالصٌ لكدحهم هم وحدهم ؟ . جاءني الرّجل في اليوم التالي حاملاً مجرفة على كتفه كمن يريد تقديم برهان مؤكّد بأنّه لم يكن يوماً من هؤلاء العاطلين الكسالى ثمّ راح يعملُ من غير حتّى أن أدعوه إلى البدء بالعمل ، وبات واضحاً أنّ الأمر انقلب مباراة تنافسيّة ممتعة ( ولكن خطرة أيضاً ) لرؤية من سيتعبُ ويكفُّ عن العمل أوّلاً . أكملت والدتي القول بنبرة تفاخرٍ وإحساسٍ بالمروءة : كانت الاستراحة الوحيدة المتاحة لنا يومذاك هي عندما أعددتُ النار وشويتُ بعض حبّات البطاطا ، وحينها راح والدي يسألها : ألا تظنّين أنّ من الأفضل لكلينا أن نجمع قوانا ونتشارك العيش في منزل واحد ؟ وهنا أجابته والدتي : أتسألُ هذا السؤال بعد امتحان يوم عملٍ واحد فحسب وهو لم يكتمل بعد و ها نحن جالسان في استراحة ؟
الهوامش:
* لم تعد هذه الغابة قائمة وصارت اليوم جزءاً من النسيج الحضريّ لمدينة ليمورو المتوسّعة بعد أن أزيلت الحوانيت الهنديّة من موقعها القديم .
_________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *