مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو


*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي



أخي كاباي يعود من الحرب العظمى
القسم الحادي عشر (الأخير)

نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة ، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والأنثـروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو (أحلام من زمن الحرب: مذكرات طفولة) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف عن الواقع الإجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية.
المترجمة
_________
كانت حكايتنا الخاصّة مع هؤلاء الإيطاليّين تختصُّ بِـ ( وابيا ) ، شقيقة كاباي ، التي لم تكن قادرة على أن تخطو خطوة واحدة صغيرة من غير عكّازيها : فبعد مُضيّ بضعة شهورٍ ، وربّما سنة ، على زيارة أوّل ( بونو ) لنا عاد الرّجل إلى منزلنا ، وبعد أن طلب بضع بيضاتٍ ودجاجةً ودفع ثمنها وقع نظره على وابيا فراح يسألُ بضعة أسئلةٍ عنها بلغته الّسواحليّة المتكسّرة ، ولستُ أذكر ماالذي تفوّه به الرّجل ولكنّ أحد أشقّائي ادّعى بأنّ ذلك الرجل صرّح بإمكانيّته في جلب بعض الدّواء الذي يمكنه شفاء وابيا التي أحببتها على الدوام حبّا يفوقُ الوصف ، وبالتأكيد رأيت الأمر مدهشاً للغاية فيما لو عادت لها نعمة الإبصار والقدرة على المشي من غير عُكّازات وهو الأمر الذي سيعني بالتأكيد أنّ دواء البيض أكثر سحراً وقدرة على اجتراح المعجزات والأعاجيب من أيّ شيءٍ سواه ممّا يمكننا تخيّله حتّى لو كان في نطاق الحكايات التي اعتادت وابيا حكايتها لنا. 
انتظرنا طويلاً ذلك الرّجل الإيطاليّ الّذي صار في مخيالنا بمثابة ( نديرو ) الأبيض : الرّجل مُطبّب الأسقام الذي كانت والدتي تحكي لنا عنه في رواياتها باستثناء أنّ رجلنا الأبيض كانت له لكنة إيطاليّة ، وراح الأسرى الإيطاليّون يعملون على الطريق قريباً من ليمورو ولم يعودوا يزورون قريتنا كما اعتادوا من قبلُ ولكنّنا لم نفقد الأمل في عودة رجل الطبّ المرتقب أبداً وكنّا واثقين أنّه سيجلبُ الدّواء الشافي معه متى ماعاد لزيارتنا . كم كان الأمرُ سيبدو رائعاً لو عاد كاباي من أتون الحرب ورأى أخته وابيا ترحِّب به وقد عادت لها قدراتُها على المشي والإبصار ؟!!
حلّ وقتٌ لم أعد أرى فيه أيّاً من ال ( بونوات ) البيض وهو يتجوّلُ في قريتنا – أو أيّة قرية أخرى قريبة – ويطلبُ شيئاً لشرائه ، ولم يعُد كذلك طبيبنا ال ( نديرو ) المرتقب الذي كنّا نتطلّعُ إليه بشغف ، وظلّت وابيا ، أختي العزيزة ، من غير علاج . مضى هؤلاء البونوات من غير أن يتركوا وراءهم أثراً يذكر باستثناء بصمتهم المعماريّة التي خلّفوها على مبنى كنيسة كانوا يعملون على بنائها خلال أوقات فراغهم على حافة الطريق قريباً من وادي الصّدع الصّخريّ ، وكذلك ترك هؤلاء علامة بيولوجيّة – اجتماعيّة مركّبة عندما خلّفوا وراءهم الكثير من العوائل البائسة والأطفال ذوي البشرة السّمراء الذين سينشأون لاحقاً من غير أبٍ يحميهم ويرعى شؤونهم في العديد من القرى القريبة منّا . 
عاد أخي كاباي أخيراً من الحرب إلى منزلنا : كان الوقت آنذاك عام 1945 بعد أن آلت الحرب إلى نهايتها المحتومة ، وراح الجّنود يعودون إلى أوطانهم ومنازلهم . كانت ثمّة آنذاك دموعٌ و ضحكٌ في الوقت ذاته لأنّ ابن عمّي موانغي ، الإبن الأكبر لِـ بابا موكورو ، كان قد قُتِل في العمليّات العسكريّة ولم يعرف أحدٌ أين قتِل ولكنّ الأماكن التي تردّدت هي فلسطين في الشّرق الأوسط ، وبورما ، ولكنّ كاباي نجا من أهوال تلك الحرب وصار يمثّلُ أسطورة عظمى وبدا لنا عند عودته أكثر تعليماً وتحضّراً حتّى من أولاد المحترم ستانلي كاهاهو بل كانت ثمّة همساتٌ تقولُ أنّ كاباي داعب إحدى بنات السيّد كاهاهو !! .
كاباي ، الجنديّ السابق ، صار الآن الرّجل الذي ترنو إليه السيّدات ، و كان مُفرط التدخين ويشربُ أحياناً البيرة التي كان يشتريها من المحلّات الهنديّة المرخّصة لبيع الخمور ، واعتاد كاباي شرب البيرة خارج المباني المغلقة غالباً وهو جالسٌ وسط الحشائش خارج السّاحة الخلفيّة لمنزلنا ، و الحقيقة أنّ كاباي كان أحد الافارقة القلائل الذين يستطيعون دفع ثمن زجاجة بعد زجاجة من البيرة التي كانت تصنعُها شركة البيرة الشرقيّة المملوكة للأوربيّين وسُمح لاحقاً لمالك محلٍّ إفريقيّ يدعى ( أثابو مونووي ) ببيع البيرة الأوروبيّة في السوق الكبير بمنطقة ليمورو وكانت العادة المتّبعة أن يبتاع الراغبون البيرة ثمّ يشربونها في السّاحة القريبة من المتجر .
كنتُ أشعرُ بخيبة الأمل دوماً لأنّ كاباي لم يكن يمكثُ في المنزل إلّا قليلاً ، وعندما كان يفعلُ لم يكن يبوحُ بشيء عميق ذي تفاصيل مؤثّرة عن الحرب العظمى التي خاض غمارها على الأقلّ في الأوقات التي كنتُ فيها حاضراً معه ، وذهب كاباي بعيداً في الأمر حتّى أنّه لم يأتِ على ذكر إبن العمّ موانغي وفيما إذا كانا قد التقيا خلال تلك الحرب ، وأذكرُ أنّه كان ذكر مرّة اسم ( مدغشقر ) كما لو كانت محض محطّة صغيرة مرّ بها وهو يقومُ بنزهة !! و حكى لنا في مناسبة أخرى عن راقصي الـ ( موثو Muthuu ) وإشارتهم خلال الرقص إلى بورما واليابان . ( غابات بورما المكتظّة بالأحراش كانت نوعاً من مصائد الموت لنا نحن أفراد الفرقة الأفريقيّة الشرقيّة ) هذا ماكان أخي كاباي يقوله دوماً ثمّ يواصلُ : ( كانت الأمطار الموسميّة تجعل من الطرق المتربة أنهاراً من الطّين ، ورغم أنّنا واجهنا مقاتلين أشدّاء مرعبين هناك لكنّنا – المقاتلين الأفارقة – أثبتنا قدرتنا على القتال الشّرس في الغابات ، وبالنسبة إلى قصف هيروشيما فأنا لم أكن قريباً من المنطقة ولا ينبغي للموضوع أن يكون مادّة لرفضنا أو بهجتنا . أظنُّ أنّ العالم لن يعرف مطلقاً كم بذلنا – نحن الأفارقة – في تلك الحرب ) ، وكانت هذه العبارات وأمثالها هي الوصف الأكثر تفصيلاً لما كان يبوحُ به أخي كاباي في المرّات النادرة التي تحدّث فيها بشأن الحرب وكنتُ أتوقُ كثيراً لسماع المزيد من حكاياته عن المعارك التي خاضها وفيما لو كان التقى موسوليني أو هتلر وجهاً لوجهٍ قبل استسلامهما ، أو إذا كان صافح تشرشل أو أيّاً من الجنرالات الرّوس .
حصل يوماً ، وفي إحدى المرّات غير المسبوقة ، أن عاد أخي كاباي إلى المنزل مع موعد رواية والدته لحكاياتها المسائيّة المعهودة . كانت الحرب وما تخلّفه من أهوال قد صارت آنذاك شيئاً من الماضي ولم تعد ممّا نتداوله في حكاياتنا ، وفي تلك الليلة كانت المادّة المطروحة للنقاش العامّ هي معرفة اللغات وعادة الحديث عن الناس في غيابهم ومن وراء ظهورهم ، وسرعان ما راق الكلام المتداول لأخي كاباي وراح يحكي بحماسة و اندفاعٍ عن مخاطر طعن الآخرين بالكلام في غيابهم ، ثمّ روى لنا حكايته : حصل مرّة وقبل العودة إلى الوطن أن عمل كاباي في مكتب مجاور لمكتب ٍ تعمل فيه امرأة أوروبيّة ، وكانت العادة أن يزوره أصدقاؤه من الجنود الافارقة وكان من الطبيعيّ أن يتحدّث الجميع بلغة الغيكويو الأفريقيّة المحليّة واعتادوا أن يتحدّثوا بشأنٍ يخصُّ تلك المرأة الأوروبيّة متسائلين : كيف سيبدو الأمرُ لو أنّ أحدهم طارحها الغرام وشاركها الفراش ؟!! و كانوا يبالغون أحياناً في المزاح بقصد إثارة كاباي بقولهم أنّه ربّما كان فعل الأمر حقّاً !! ، وأشار أخي إلى أنّه لم يكن يشاركهم حديثهم ذاك ولا يردّ عليهم و حذّرهم كثيراً من عاقبة تلك الأحاديث لأنّ الشائع في تلك الأيّام هو اعتبار أيّ فعل يُقصدُ منه مداعبة امرأة اوروبيّة من قبل أفريقيّ أمراً غير قانونيّ ويستوجب العقاب ، ولكنّ الأمر الأهمّ من العقوبة هو أنّ أخي لم يكن يرى مروءة في أن يتحدّث الناس بشأن يخصُّ فرداً حاضراً لمجرّد اليقين بأنّه لا يفهم ما يُقالُ بشأنه . حصل يوماً وفيما كان الجنود منهمكين في حديثهم المعهود أن كانت المرأة قريبة منهم ، فما كان منها إلّا أن تلقي عليهم التحيّة بلغة غيكويو محكمة تماماً وبلكنة تشبه لكنة أيّ إفريقيّ مثلهم ثم أردفت تحيّتها بالقول أنّها ترى أنّ كلّ امرأةٍ تمتلك المكوّنات التشريحيّة ذاتها بغضّ النظر عن كونها سوداء أم بيضاء !! و قبل أن تكمل المرأة عبارتها راح الجنود يتقافزون مُحاولين الهرب عبر أيّ منفذٍ متاحٍ أمامهم و لم يعودوا يمتلكون جرأةً على الاقتراب من ذلك المبنى أو حتّى للوصول إلى أماكن قريبة منه ، وأضاف كاباي أنّ المرأة استدارت نحوه وقالت ( شكراً لك ) .
عرض كاباي بعد عودته من الحرب خدماته السكرتاريّة والقانونيّة على مركز التسوّق الافريقيّ في ليمورو وكانت شهرته آنذاك قد طبقت الآفاق بكونه واحداً من أسرع الناسخين على آلة الطباعة علامة ( ريمنغتون Remington ) ، واعتاد الناس الوقوف في طابور طويل أمام مكتبه طلباً لاستشاراته القانونيّة أو لكتابة رسائل مطبوعة لهم باللغة الإنكليزيّة وهو ما ساهم في تعزيز سمعة كاباي ومكانته باعتباره أحد أفضل المتعلّمين في المنطقة وبأنّه يمتلك مكتباً هو الأفضل بشأن المعلومات الخاصّة بالشؤون البيروقراطيّة الكولونياليّة ، أمّا بالنسبة لنا ، عائلة ثيونغو ، فقد كان كاباي بكلّ تأكيد هو الأفضل تعليماً بيننا وهو الأمر الذي شجّع فيّ رغبة التعلّم التي كتمتُها طويلاً في داخلي إذ كنتُ أتساءلُ دوماً : ما الفائدة المرتجاة من وراء التّصريح برغبةٍ أعلمُ يقيناً أنّها عصيّةٌ على التحقّق؟
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *