أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


القسم الثاني
كنّا أنا وكينيث – صديقي في الصفّ الدراسيّ – بارعين في قتل الوقت وبخاصة عندما كنّا نتبارى في صعود التلّة الواقعة أمام بيتنا ونحن نتلاعبُ بكراتٍ هي في الغالب ثمرات من التفّاح . ولم تكن طريقة لعبنا بتلك الثمرات بالطريقة الأكثـر يسراً وسرعة في الوصول إلى قمّة التلّة ، ولكن كانت لها فضيلةُ جعلِنا ننسى العالم من حولنا . كنّا في ذلك اليوم النيسانيّ أكبر من الإقدام على ذلك النّوع من الألعاب الطفوليّة إلى جانب أنّ تلك الألعاب لم تكن تتخلّلها أيّة حكاياتٍ يمكن لها أن تحوز على انتباهنا.
كان من عادتنا تلك الأيّام أن نتجمهر حول كلّ من يستطيعُ قصّ حكايةٍ على مسامعنا ، وكان البارعون وحدهم من رواة الحكايات يغدون أبطال اللحظة في أنظارنا ، وغالباً ماكان يحصلُ أثناء تدافعنا للحصول على مكان قريب من راوي الحكايات أن كان هذا الراوي يترنّحُ يميناً وشمالاً بفعل الدفع والدفع المقابل من المجموعات المتزاحمة فكان يبدو مثل خروف تائه !! .
لم يكن مساء ذلك اليوم النيسانيّ ليختلف كثيراً عن باقي المساءات فيما عدا الطّريق الّذي سلكناه رجوعاً من المدرسة نحو بيوتنا : كان طريق عودتنا يبدأ من ( كينيوغوري ) حيث تقع مدرستنا باتّجاه قرية ( كوا نغوغي ) أو ( كغامبا ) وماجاورها من القرى ، وكنّا في العادة نجتازُ طريقاً يخترقُ التلال و النتوءات الصخريّة التي لم نكن نعيرها – هي وحقول الذرة والبطاطا و البازلاء والفاصولياء – أدنى انتباهةٍ منّا وبخاصّة في الأوقات التي كنّا نستمعُ فيها إلى حكايةٍ ما . كان كلّ حقلٍ من الحقول التي نمرّ بها في طريق عودتنا محاطاً بأشجارٍ عالية تمتدّ فروعها المعرّشة بعيداً . وكانت ثمّة أطواقٌ من الأغصان الشوكيّة المائلة إلى اللون الرماديّ تتشاركُ مع الأشجار المعرّشة في حماية تلك الحقول ، وكان طريقنا في العودة يقودُنا نحو منطقة كيهينغو قريباً من مدرستي الإبتدائيّة القديمة ، ثمّ نمرّ ببلدة مانغو ، وبعدها كنّا ننحدرُ أسفل وادٍ عميق ثمّ نتسلّقُ تلّة معشوشبة تنمو فيها الأشجار المعرّشة الداكنة ، ولكن حصل ومضينا في ذلك اليوم في تتبّع خطى قائدنا راوي الحكايات المدهشة – مثلما تفعل الأغنام مع راعيها – فسلكنا طريقاً آخر غير ذلك الطريق الّذي ألفناه من قبل . كان طريقنا الجّديد هذا أطول قليلاً من سابقه ويمرّ حول سياج مصنع باتا للأحذية في ليمورو حيث كان ثمّة موقعٌ لطمر مخلّفات المطّاط والجلود غير الصالحة ، ومضينا في طريقنا نحو تقاطع السكك الحديديّة مع الطرقات البرّية الرئيسيّة في المنطقة وكانت إحدى تلك الطرق تقودُ إلى السوق الرئيسيّة ، وفي تلك التقاطعات وجدنا تجمّعاً لجمهرة من الرّجال والنساء – ربّما كانوا عائدين من السوق – وهم منخرطون في مناقشة حامية ، ثمّ سرعان ماصار الجّمع أكبر عدداً بعد أن انضمّ إليه عددٌ من عمّال مصنع الأحذية القريب . تمكّن واحدٌ أو اثنان من الأولاد معرفة بعضٍ من أقاربهم في ذلك الحشد ، ورافقتُ الأولاد في الاقتراب من الحشد و الإصغاء إلى ما سيُقال .
” ألقي القبض عليه ويداه مخضّبتان بحمرة الدم” كان يردّد بعض الحشد .
” تخيّلوا ، رصاصاتٌ بين يديه ، وفي وضح النّهار ” ،،،،
كان الجميعُ يدرك – بمن فيهم نحن الصّغار – أنّ الإفريقيّ سيوصمُ بجرم الخيانة لامحالة متى ما وجدت رصاصاتٌ ( أو حتّى أغلفة رصاصات فارغة فحسب ) بين يديه ، وسينتهي به الأمر حتماً جثّة مدلّاة من حبل مشنقة . 
” سمعنا صوت إطلاق عيارات ناريّة ” قال البعض 
” رأيتهم يطلقون النار عليه بأمّ عيني” 
” و لكنّه لم يمُت !! “
“يموت ؟ هممممممممممم ! الرّصاصات تطايرت على من كانوا هم يطلقون عليه النار” 
“لا ، لقد طار نحو السّماء و اختفى بين الغيوم” ……………..
ساهمت اختلافات الرأي الجليّة بين ناقلي الحكايات بشأن ما حصل في تفريق الجّمع إلى جماعات صغيرة تضمُّ كلٌّ منها ثلاثة ، أو أربعة ، أو حتّى خمسة افرادٍ ، وتحلّقت تلك المجاميع الصغيرة حول السّارد الرئيسيّ للحكاية الذي روى وجهة نظره الخاصّة بشأن ماحصل عصر ذلك اليوم . وجدتُ نفسي أتجوّلُ بين مجموعة وأخرى وأنا أجمعُ شذراتٍ من المعلومات هنا و هناك ، وصار ممكناً شيئاً فشيئاً ربط حلقات السلسلة التي شكّلت حقيقة الحكاية : شخصٌ مجهول الهويّة ألقي القبض عليه في موضعٍ قريب من الحوانيت الهنديّة .
كانت الحوانيت الهنديّة قد شيّدت على حافّة نتوء صخريّ بهيئة صفوف من الأبنية التي يقابلُ أحدها الآخر على نحوٍ أوجدَ في نهاية الأمر مساحة مستطيلة واسعة الأرجاء تسعُ العربات والمُتبضّعين معاً ، وكان ثمّة منفذ لها نحو الخارج عند كلّ ركنٍ من أركانها . كان النتوء الصخريّ ينحدر نحو الأسفل حيث تنبسط أرضٌ سهليّة أقيمت عليها أبنيةٌ مملوكة للأفارقة على الهيئة ذاتها التي شيّدت بها الأبنية الهنديّة ، وكانت ثمّة فسحة واسعةٌ فيها تستخدمُ كسوقٍ شعبيّة أيّام الأربعاء والسبت من كلّ أسبوعٍ : كانت الخراف و الماعز المعروضة للبيع في ذينك السّوقين تُقادُ بحبالٍ مربوطة بأعناقها في مجموعات كبيرةٍ عبر المنحدر الرابط بين مُجمّعي الأبنية . كانت تلك المنطقة هي ذاتها التي انقلبت مسرحاً لما حصل وتجمّع فيها الرّواة والمستمعون الذين أجمعوا على أنّ الرّجل المجهول ذاك قد اقتادته الشّرطة بعد أن قيّدت يديه بالأصفاد وطوّحت به في مؤخّرة عربتها الضخمة ، ثمّ حصل أن قفز الرّجل على نحوٍ مفاجئ من تلك العربة وهرب بعيداً فما كان من أمر الشّرطة إلّا أن تطارده في كلّ مكان وأسلحتها مصوّبةٌ نحوه . اختفى الرّجل المُطارَدُ بين جموع المتبضّعين ثمّ وجد له منفذاً بين حانوتين للهرب بعيداً نحو الفسحة الواسعة الممتدّة بين الحوانيت الهنديّة والإفريقيّة ، وفي تلك الحالة لم يكن أمام رجال الشّرطة مفرّ من إطلاق النار وكانت النتيجة أن أصيب الرّجل وسقط أرضاً لكنّه عاود النّهوض والهرب بين جهة وأخرى ثمّ اختفى بين قطعان الاغنام والماعز حتّى انتهى به المطاف قريباً من شركة باتا للأحذية في ليمورو ثمّ اختفى عن الأنظار تماماً وهو غير مُصابٍ – على ما يبدو – بين مزارع الشّاي الخصبة المملوكة للأوربيّين ، وهكذا انتهت تلك المطاردة على نحوٍ جعل رجلاً مُطارَداً مجهول الهويّة يبدو أسطورة تتداولها الألسن وتروى عنها حكاياتٌ عديدة في معرض الإطراء على بطولتها وسحرها بين المجاميع التي شهدت حقيقة ما حصل بذاتها أو بين هؤلاء الّذين استمعوا إلى الحكاية من آخرين .
كنتُ قد سمعتُ حكاياتٍ مثل هذه عن مقاتلي حركة الماو ماو* وبخاصّة عن ( ديدان كيماثي ) ، ولغاية ذلك اليوم المشهود كان السحر الملازم لحكاياتٍ كهذه يسمَعُ عنه في مناطق بعيدة عنّا في ( نيانداروا ) أو سلسلة جبال كينيا و لكنّ تلك الحكايات لم تكن تُروى أبداً من قبل شاهد عيان ، وحتّى صديقي ( نغاندي ) الذي كان الأكثر دراية وبراعةً بين قصّاصي الحكايات لم يقل أبداً يوماً ما أنّه رأى بذاته أيّاً من تلك الأفعال التي كان يحكي لنا عنها بكلّ حرفيّة ودقّة ، وعلى الرغم من أنّني أميلُ بطبعي إلى الإستماع للحكايات أكثر من روايتها فإنّ حكاية ذلك اليوم ملأتني لهفة وتشوّقاً لروايتها على مسامع من أعرفُ قبل تناول وجبتنا من الطعام أو بعد الفراغ منها بقليل .
كانت العوارض الحديديّة ذات شكل x قد رُفعت بمواجهة الطريق المتقاطع مع مسار السكّة الحديديّة ، وتناهى إلى أسماعنا صوت صافرة القطار ثمّ مرّ القطارُ سريعاً عبر التقاطع مذكّراً إيّانا بأنّ ثمّة أميالاً أمامنا حتّى نبلغ بيوتنا . كنّا أنا وكينيث نتتبّعُ أثر مجموعتنا وعندما لم نكن رفقة أحدٍ من تلك المجموعة كان كينيث يفسدُ الأجواء بمحاولته اختبار صحّة الحكايات التي كنّا سمعناها أو في الاقلّ التشكيك في الطريقة الّتي رُوِيت بها ؛ إذ لطالما أحبّ كينيث رسم حدٍّ فاصلٍ شديد الوضوح بين الحقيقة والخيال ولم يكن يرغبُ في شيء من الخلط بينهما – ولو بمقدار جدّ ضئيل مثلما تفعل التوابل في تحسين نكهة الطّعام – ، و كنّا في العادة نفترقُ قريباً من موضع سكنه ونحنُ لمّا نتّفق على درجة المبالغة التي خالطت ما سمعناه من حكايات.
هوامش المترجمة
* الماوماو Mao Mao : حركة سرّيّة ضمّت الأفارقة الذين رغبوا في إنهاء الحكم الكولونياليّ البريطاني في كينيا ، وكان معظم من تعاهدوا على الاتحاد هم قبائل الكيكويو التي تقطنُ مناطق ذات كثافة سكّانية عالية. بدأت الحركة في أواخر الأربعينات من القرن العشرين وشرعت القوات البريطانية في شن هجمات لقمع الحركة بعد سلسلة من الاغتيالات والأحداث الإرهابية الأخرى التي قامت بها الحركة عام 1952 ، وقد حُوكم جومو كنياتا – الذي أصبح رئيساً لكينيا فيما بعد – بتهمة قيادة الحركة الثورية ونُفي في منطقة نائية حتى عام 1961 ، وأسفر القتال الذي توقف عام 1956 عن مصرع 10,000 شخص من الكيكويو وما يقرب من 2,000 إفريقي آخرين مع 95 أوروبياً و 29 آسيوياً من المؤيدين للحكومة الكولونياليّة . 
______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *