شخصيات يابانية بنكهة إيرانية!




مهند النابلسي



خاص ( ثقافات )

أستاذ جامعة عجوز ومتقد الذهن (قام بالدور باتقان تاداشي أوكونو)، يعشق عاهرة جميلة، ويقدم لها عشاء رومانسيا على ضوء الشموع بشقته الصغيرة الأنيقة بضواحي طوكيو، ولكنها تستعرض بسرعة كتبه وصوره العائلية ولوحة فنية فريدة، وفيما يحاول الأستاذ قدر الإمكان تجاهل مكالمات العمل التي لا تتوقف… ثم تذهب للنوم في فراشه وكأنها متعودة على ذلك وبشكل حميمي، ولا يبدومهتما بإقامة أية علاقة جسدية معها كما لا تبدو مهتمة بعرض العشاء والحديث والشرب مفضلة النوم، كذلك فهي لا تقدم على الدراسة استعدادا لامتحانها بعلم الاجتماع في اليوم التالي (قامت بالدور رين تاكاناشي) … يقوم الأستاذ الحنون بتوصيلها للجامعة بسيارته الحديثة، ثم ينتظرها دون استعجال، فيما نشاهد شابا عصبيا يتعرض لها بقسوة على المدرج، وفيما تذهب لتأدية الامتحان، يتحاور صديقها العصبي مع البرفسور (قام بالدور ريو كيس) ويشعل لفافة تبغ، حيث يبلغه العجوز مجازا بأنه جدها، فيطلب الشاب يدها منه، ويحاول الأستاذ تهدئة الأمور بينهما وخاصة أن شخصا ما قد أطلع الشاب على صورة قديمة مبتذلة لصديقته وقد تشاجر معه لهذا السبب، ولكنها تنفي بإصرار ومكابرة أن الصورة لها بالرغم من أنها اعترفت للبرفسور بأنها لها في بداية عملها الليلي… وعندما تدلف للسيارة يحتدم النقاش، ثم يشير الشاب لصوت غريب بالسيارة يستدعي الصيانة العاجلة، وبالفعل يذهب لورشته القريبة بالجوار لتصليح العطل، وهناك يتعرف شخص ما على الأستاذ، متذكرا أنه كان تلميذه منذ ثلاثين عاما، ثم ينغمس هذا الشخص بحوار مع صاحب الورشة… وتخشى الفتاة أن ينكشف أمرهما وتعرف الحقيقة، فيجود الأستاذ بحكمة مفادها أن “لا ضرورة للقلق قبل الآوان، وسيحدث ما يجب أن يحدث”! 
يعود البرفسور لشقته ويتحاور مع جارة فضولية متلصصة، ثم يفاجأ بمكالمة عاجلة من الفتاة تطلب فيها النجدة، فيذهب عاجلا لأخذها، ونلاحظ أنها قد ضربت بقسوة على فمها وأن الدم ينزف من لثتها، يحاول الأستاذ معالجتها وتطهير جرحها، ثم يلاحظ طرقا عنيفا على الباب من قبل الشاب ويتبعه صراخ الشاب وشتائم وتهديدات لهما وإصرار على فتح باب الشقة، ويصر الأستاذ على عدم التجاوب خائفا ومرعوبا من المواجهة، ومن ثم نسمع صوت صدم لسيارته، وتنتهي القصة بقذفه لحجر تسبب بكسر زجاج النافذة وسقوط البرفسور أرضا، هكذا ينتهي الفيلم بغرابة وغموض! لا شك من براعة التقطيع والتصويرالسينمائي من خلال زجاج النوافذ والمرايا، ابتداء من المشاهد الأولى بالنادي الليلي عندما حاول “القواد” إقناعها بالذهاب لشقة البرفسور غصبا عنها، ثم الانتقال المعبر بالتاكسي عبر ضواحي طوكيو الجميلة، وسرد المكالمات التي وصلتها للموبايل، والتي تلقي الضوء على حياتها وعلاقاتها مع جدتها المتشوقة لتناول الغذاء معها، والتي لا تعرف خفايا عملها المعيب بالدعارة الليلية “كفتاة اتصال” تسعى جاهدة لتمويل دراستها الجامعية المكلفة، كما نسمع مكالمة طويلة من صديقة فضولية… ونستغرب فيما بعد من الحوار المطول بين الفتاة وجارة البرفسور الفضولية (التي تعيش وحيدة مع شقيقها المعاق)، والتي أبدت لها إعجابها المزمن بالبرفسور واطلاعها على الكثير من أسرار حياته مع زوجته المتوفاة “الأجمل والأطول”، ويبدو أنها تسعى جاهدة للتحرش به بعد ترمله، ثم نستغرب من تصديق الجارة “لقصة الحفيدة المفبركة” مع أن المفروض منها أن تعرف الحقيقة!
لا أعرف لماذا “سفه” المخرج بطلته البائسة التي تدرس “علم الاجتماع” وجعلها تعجز عن الإجابة الصحيحة عن سؤال بديهي مثل من هو مؤسس علم التطور؟! فيما مجد الكاتب الياباني “هاروكي موراكامي” العاهرة الجامعية الجامحة (التي تدرس الفلسفة) بروايته “كافكا على الشاطئ”، وجعلها قادرة على تلخيص وتبسيط “فلسفة الوعي” لدى هيجل! 
يستعرض المخرج الإيراني اللامع (كيارو ستامي) هنا أصول البروتكول الياباني اللطيف والعريق، ويخوض معنا تجربة يومية مرهفة بطوكيو ابتداء من النادي الليلي وحتى شقة الأستاذ بالضواحي، ومن ثم مرورا بكراج الشاب وانتهاء بشقة البرفسور في اليوم التالي، مستعرضا نماذج بشرية محددة، تتمتع بالذكاء الرصين والعنف والمصلحة والفضول … وتبدو روايته كالأحجية وكتمرين بصري بالأمكنة، فالكثير يحدث داخل سيارة، كما يظهر تقلب المزاج والضعف البشري والغموض، لكن هذه السياحة الداخلية لطوكيو تبدو غامضة وسحرية باستخدام كاميرا أنيقة ورشيقة ومع وجود معالم واضحة لذكاء سردي لكنه “تائه وغير عميق”!… تتغير طبيعة الأحداث منذ البداية وتفشل خطتها لزيارة جدتها، عندما يصر “القواد” على أن تقضي الليلة مع أستاذ الاجتماع المتقاعد “تاكاشي”، ولا نفهم حقا سبب عملها كعاهرة من الطراز الرفيع، إذا كان خطيبها (نورياكي) يحرص عليها ويحبها بشغف كبير وربما مستعد لتمويل دراستها لأنه ينعم بعمل جيد كصاحب مرآب لصيانة السيارات… لا نعرف لأين يريد المخرج بنا أن نذهب مع انتهاء لقاء الشخصيتين بالشقة في البداية؟ وربما توقف عند هذا اللقاء الرومانسي “الغريب” الذي توجته الأغنية الجميلة “مثل شخص مغرم” بصوت المغنية الأمريكية الراحلة “إيلا فيتزجيرالد”… استغرب انبهار بعض النقاد الكبير بالفيلم لدرجة أن بعضهم “بالغ” وشبه دخولها لشقة البرفسوربالبداية وكأنه يتماثل مع لقطة “هجوم الهليوكبتر” الشهيرة بتحفة “القيامة الآن” لكوبولا، بل إني أتجرأ على القول بأن هذه المشاهد تحديدا كانت ضعيفة ومربكة من حيث تجنب المواجهة وتبادل النظرات وتكوين الانطباع الأول، لأن الأستاذ علم من السائق مسبقا بحضورها وشاهدها وهي تغادر التاكسي وهيأ الجو وفتح لها باب الشقة، وبذلك أنهى دون أن يقصد “حالة الترقب والتشويق”…
يقال أن المخرج عباس كيارو ستامي قد استمد فكرة الفيلم من رؤيته “لعروس يابانية” جميلة بآواخر التسعينيات أثناء زيارته لطوكيو، ويبدو أنه انبهر حقا بجمالها لحد أنه فكر بتخليد مرآها بهذا الفيلم “السطحي” الذي يفتقد للعمق والتشويق والمغزى (للدرجة الكافية)، وربما أسقط المخرج شخصيته على دور الأستاذ الجامعي “الياباني” المسن فتسرع (وقد كتب السيناريو) بفبركة قصة “غير مقنعة” وخلط في اعتقادي عناصر “إيرانية وربما فرنسية” وأدخلها قسرا للشخصيات اليابانية مثل الريبة والتوجس والتلصلص والانبهار بالجمال (وقد أكون مخطئا)!

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *