باموق: يجب أن نؤمن بقوة الأدب




ترجمة: أحمد ليثي*




يحكي الروائي التركي الحائز على نوبل أورهان باموق، في روايته الجديدة قصة 40 عاماً من حياة بائع متواضع من مدينة اسطنبول، انه كتاب عن السعادة، وبالأحرى عن انعدامها، رواية عن الزمن. ومن المستحيل بينما تقرأ الرواية ألا تشعر أن البطل، “ميفلوت”، يجسد اسطنبول التي يصفها، وسيظهر جلياً عندما يسافر المرء إليها وينصت إلى بهجتها وضجيجها. باموق أبدع كل شخصياته في شوارعها القديمة. كنا أجرينا الحوار حين يقطن، في “بويوكادا”، الجزيرة الساحرة التي عرفها منذ وُلد، ويقضي فيها اجازاته الصيفية، يكتب في سلام لا يزعجه سوي المرور الناعم للزمن، يجلس في شرفته الخالية التي تلقي عليها الشمس بظلالها. قبل أن نبدأ الحوار، أوصي لنا بأطباق من البطيخ والمشمش، وبدا سعيداً كما لو أنه يُحب، لكن ليس فقط حب الأدب.
قلت اننا يجب أن نؤمن بالرواية حين نقرؤها، ما أهمية أن تؤمن بما تقرأ؟
الأدب، خيالياً أو واقعياً، يعمل بالطريقة التي أشار إليها “صامويل تايلور كولريدج” التي تدعي تعليق عدم الإيمان، إن كنت ساخراً أو غير مؤمن بصدق بقوة الأدب، يجب تتجنب قراءة الكتب، ففي النهاية قراءة الأدب موضة قديمة، والآن هناك المدونات والانترنت، وهما يتيحان كمية هائلة من المعلومات والثقافة، لكن لماذا نقرأ الروايات، لأننا نؤمن بقوة الادب، ولسنا ساخرين أو متشككين بشأنه، الأدب يناسب الذين يتعمدون حسن النية، تقول انني أعطيت لحياة بطل الرواية البائع المتواضع 10 ساعات، إذن أنت غير ساخر، لكنك تقرأ الأدب بحرفية وتظن عمل الكاتب شيئاً مسلماً به، لا يجب عليك أن تأخذ عمل كاتب ما بلا تساؤل، على الأقل في البداية.
كقارئ، وانت تعمل على قصتك، ألا تريد للقصة أن تروي بسرعة بقدر ما تريد أن تحملها كما لو أنها جزء من حياتك؟
هذا يتعلق بنوع الرواية ومدي تقدمي في كتابتها، أو مدي تكشّف القصة، إذا كنت تتقدم بسرعة ستكون قصة دراماتيكية جداً، أما إذا حشيتها بالتفاصيل، ستكون طويلة. وقصة ميلفوت تغطي 40 عاماً من كفاح الطبقة العاملة في اسطنبول كما أن الرواية بها الكثير من الشخصيات، ميلفوت كان مركز الأحداث، تتناغم قصص شخصيات الرواية لتكشف لك كيف تمضي الحياة، ببطء أولاً وفجأة تتسارع أحداثها. بطريقة ما هي رواية واقعية تدور أحداثها في القرن 19، حيث تحاكي وتيرة القص وتيرة الحياة.
وتيرة الحياة أيضاً مليئة بالتفاصيل، وحتى لو أردت رواية غير مليئة بالتفاصيل، التفاصيل مهمة لأنها تأخذ القارئ إلى مركز الرواية.
هناك شخصيات كثيرة في الرواية، ونحن نسمع قصة كل منهم، ومتعة الاستمتاع بالرواية تأتي من قراءة حكاية تلك الشخصيات. أنت تسأل نفسك دائماً عما مهم في الرواية؟ لماذا يريد أن يخبرني الكاتب بذلك؟ لما لا يستطيع ميفلوت أن يصبح غنياً؟ هذه المشكلات تقابل الأسئلة الفلسفية والأنثروبولوجية على مر الزمان.
في لحظة ما تصبح روايتك وكأنها مجاز عن الزمن، عن السعادة، والألم، وعن الجشع والطمع.
الرواية لديها اهتمام ملحمي طموح، عن تمثيل حياة المواطن العادي في اسطنبول منذُ سبعينات القرن 19، كما أن بها نغمة ميتافيزيقية، تتمثل في وحدة وانطواء ميفلوت والذي أثّر على غرابة عقله، كانت الأسئلة التي تشغله: ما الذي يجعلنا سعداء؟ هل لأن نوايانا طيبة، أم لأننا قادرين على أن نكون سعداء أيا كان ما يحدث لنا، ما أهمية المخيلة الداخلية المدهشة لعالمنا العقلي الذي نملكه جميعاً بداخلنا، بعضنا انطوائيين وآخرون اجتماعيون. المثير في ميلفوت أنه شخص اجتماعي، ومثل جميع الناس عالمه الداخلي يختلف عن عالمه الخارجي، ولم يكن من السهل أبداً أن يحدد عالمه الداخلي ذاك، كل ما كان يفعله، هو أنه يشاركه مع القراء.
قلت أنك تعطي قراءك متعة تكوين الصور الذهنية عبر مفرداتك، ونحن نقرأ الرواية نري ميفلوت يبيع البوظة في شوارع اسطنبول بطريقة مميزة، أعتقد أنها صورة مرئية.
أولاً، سأحاول المحاججة بأن الجزء المميز في الرواية هو عندما يملك الكاتب صورة عنه في ذهنه. وتلك الصورة في روايتي تمثلت في اسطنبول السبعينات والثمانينات، عندما كان يحكم شوارعها الفقر والقمع السياسي، وكان المرء يشعر أنه فقير ومقموع، لكن كان هناك إمكانيات هائلة، الأفكار والتفاصيل، التي حاولت أن أمررها من للقراء عبر الكلمات. ميفلوت مادي، يستمتع بوضع الكلمات التي يستمتع برؤيتها، بالنسبة لي الرواية الجيدة هي التي تخاطب مخيلة القارئ. أكون سعيداً حين يقول لي أحد قرائي انني قرأت روايتك كفيلم روائي، هذه مجاملة جيدة، وأنا أكتب لأحصل على المجاملات. دائما، أحاول أن أثير المشهد في مخيلة القارئ من خلال الصور.
لكنك أيضاً تريد تعاطف القارئ مع شخصياتك؟
نعم، للأسف أريد ذلك، أنا كأحد هؤلاء القراء، نريد شخصية نتماثل معها، نشعر بأننا قريبون منها، ونجادلها، وأن نتعاطف معها. “برتولت بريشت” لا يحب تلك الفكرة. لا يولي العاطفة اهمية. لكني أوليها أهمية كبري. العلاقة بيني وبين القارئ مثل علاقتي مع ميفلوت. أقول للقارئ، أنظر سأريك عالم اسطنبول عبر ميفلوت. أريد للقارئ أن يتحلى باستيعاب عطوف، وميفلوت بدوره محبوب. لأنه فقير، ومفهوم جيداً، وغير متهكم، ذكي، ومدرك لما حوله وذي عقلية مختلفة، أريد أن يدرك القارئ ببطء أن لديه عقلا غريبا، يري الأشياء مختلفة. نحب ميفلوت ليس فقط لأنه طيب، ولكن لأنه يري الكلمات المألوفة غير مألوفة، يراها بطريقة أخري، وهذا أغلي شيء يمكن أن تعطيه لنا أي شخصية روائية، الرواية ستكون ممتعة إذا كانت تأخذني لعالم عادي لكنها تظهر لي غير المألوف منه، الأشياء الغريبة عنه.
هل تفكر في نفسك عندما تبدأ بوصف ميفلوت؟
نعم، بي من ميلفوت انطوائيته، فرغم كل الجهود ليكون شخصا اجتماعيا وطبيعيا، بطريقة ما تدرك أنك مختلف، وبالمقارنة معي، ميلفوت أكثر تفاؤلاً، الاختلاف الأساسي أنني من الطبقة الوسطي، وهو عامل، ومن هنا يملك مؤهلات أي رجل في اسطنبول.
ما سمات الطبقة الوسطي في تركيا؟
لنلقي نظرة على حياة ميلفوت، متدين ويخاف من ربه، لكنه أيضاً يريد أن يكون حداثيا، ومن هنا يأتي التناقض، يريد أن ينتمي لمجتمع القرية في طفولته، وأن يمضي حياته بسلوك ذاك المجتمع، لكنه يخون هذا المجتمع، وتلك القيم، ويتبع القيم الرأسمالية المختلفة، وينتقد الآخرين عندما يراهم يتبعون تلك القيم، ميفلوت شخص جيد من عدة طرق، فهو محاط بأشخاص اتقياء، ووطنيين راديكاليين، لكنه يريد أن يمضي حياته كشخص عادي من الطبقة العاملة. على مدي 500 صفحة يهتم بالمال، ليس طمعا، لكن لأنه يريد معيشة لائقة، ومثل كل تركي، هدفه في أن يمتلك بيتاً.
لكنه لا يزال فقير، هذه حقيقة مهمة جداً في الرواية؟
ربما تتضمن الرواية ذلك، ميلفوت لا يزال فقيراً، لأنه كما يؤكد هو نفسه، طيب، لم يظهر مرة واحدة أنه طموح، لم يحاول مرة أن يغش أو أن يكون ماكراً، واحد أسباب فقره أنه غير منظم اجتماعياً، أو ناجح اجتماعياً، ربما بسبب غناه الداخلي، أو أنه حالم بعض الشيء.
هل تقول إن ميفلوت شجاع؟
شجاع؟ ليس إلى حد كبير، ميفلوت يري الخطر ويتجنبه. لا أنتقده، هو لن يخاطر بمبادئه الاجتماعية أو الأخلاقية، يحاول دائماً – كما شعرت به – أن يحافظ على حياة عائلته وأطفاله. مثلاً، عندما فقد سلة الأرز، رفض تعويضها بأخرى بلا مقابل، لأنه لم يحب الراقصة، في هذا الموقف ليس طامعاً، بل نموذجيا جداً، مستقل ورائع، والقراء سيتبعون قصته.
هل ترى الرواية أغنية في حب اسطنبول أدّاها ميفلوت؟
لم أكن سأقول الحب، سأقول الاحترام. هذا ما نراه في اسطنبول التاريخية، اسطنبول هنا لم تكن جميلة ولا رائعة ولا جاذبة للسائحين، لكن ما نراه هنا هو الحب. يظهر في علاقتي بتطور المدينة، دكاكينها وطعامها، كيف يعبأ الطعام، وكيف يوضع في الكراتين، ويوزع، الأفلام، الصحف، تطور الحياة اليومية الثقافية في اسطنبول. دائماً ما نتحدث عن المدن بكلمات كبيرة، لكننا معظم الوقت نصف أماكنها الطبيعية، وآثارها وأماكنها التاريخية. نتكلم عن المدينة بحروف كبيرة، لكني أتكلم عنها بطريقة أكثر أنثوية ربما، عن المطابخ، ماذا نأكل، كيف تعمل النساء، كيف نرسم غرفنا، اهتم بهُوية المدينة، الطريقة التي تغيرت بها، ليس فقط الخرائط والآثار الكبيرة، لكن التاريخ الهامشي للحياة اليومية. هذه رواية ملحمية، شاغلها هو قصة الحيوات الخفية، وكيمياء الشوارع التي تشكلت من قبل المجموعات الصغيرة والدكاكين.
بعد “متحف البراءة” روايتك التي وضعت فيها نظرية “الروائي الساذج والحساس”، قلت ان الرواية يصبح لها طابع سياسي ليس عندما يعبر الكاتب عن أرائه السياسية، لكن عندما يبذل جهداً ليفهم شخصاً ما، أو لأنه كاتب لا يجيد التعامل مع ثقافته، الطبقية أو النوعية، هل هذا يعني أننا يجب أن نتحلى بالشفقة قبل أن نطلق حكماً سياسياً أو ثقافياً؟
نعم
كان واضحاً انك كتبت أفكارك بطريقة نقية، ولم تكن الأفكار تأتيك بطريق المصادفة، هل كنت تريد كتابة هذا الكتاب بالتحديد؟
نعم، هناك طرق عديدة لشرح ذلك، فقد اجريت حوارات مع شخصيات مثل ميلفوت، مع الباعة الجائلين الكبار في اسطنبول، والنادلين، وباعة الكباب، وبائعي الأرز، هناك محاولة صحفية في قلب هذا الكتاب لتسجيل كل شيء في تاريخ اسطنبول، وبعد تسجيل 10 او 15 حواراً، يجب عليك أن تتوقف لتري كم الاختلافات والاتفاقات بينهم، ربما كتبت رواية اجتماعية، لكن المهم هو عندما يمضي القارئ 10 ساعات مع ميفلوت ويقترب منه، يدرك أنه ليس فقيراً، وأن سبب ذلك هو فرديته وغرابته، لا أحب انهمار القارئ في البكاء، أريده أن يبتسم ويحترم فردية الشخصية الرئيسية للرواية.
– عن النسخة الإنجليزية من صحيفة “الـباييس” الإسبانية
* القاهرة. 

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *