علي حسن الفواز
تضعنا رواية «بوركيني..اعترافات محجبة» للكاتبة اللبنانية مايا الحاج الصادرة عن دار ضفاف/ بيروت، أمام مغامرة وجودية لها مساس عميق بسرديات الأنوثة، إذ تنطوي على صراع بين الـ(هي) والـ(أنا) بوصفه صراعا يخص الهوية، أو بؤرة سردية تتعالق بها كل إسقاطات الذات المنسوخة، الذات التي تعيش رهاب ذلك الصراع.
الراوية هي البطلة ذاتها، التي تتجمع في خطابها صور الأنوثة المتشظية، تلك التي تتفجر فيها ثنائية التستر والإخفاء، الغياب والحضور، وبما يجعل فكرة الحجاب محاولة للإيهام بصيانتها، وجعل صراعها الوجودي توسيعا لإطار السرد وتخيلاته، وتصعيدا لـ»الوعي الشقي» بالجسد والهوية والكينونة، فالبطلة ترى كل شيء، وتدرك أن الجسد- مُحجّبا أو عاريا- هو موجّهُ الأحداث، وأن العلاقة مع الرجل/ الحبيب تتجوهر حول لعبة فَكّ الحُجب، والتحقق السيميائي في الكفاية واللذة والحضور والإشباع «إن أناقة المرأة وجمالها لا يساويان شيئا في حسابات رجل من الصعب أن يكتفي بامرأة واحدة».
البطلة المثقفة المحجبة تعيش هواجسها الداخلية القلقة، وصراعها الضدّي الذي يؤطر نصها السيرذاتي، إذ تتبدى عبره فكرة التعرّي، والبوح وكأنهما لعبة في استدراج القارئ، وفي التعبير عن قصدية الوعي بالصراع القائم بين ثنائية (البرقع والبكيني) بوصفه تمثلا إشكاليا للصراع الذي تعيشه ذات شرقية أو عربية تجد محنة وجودها إزاء فكرة الرجل الذي تعشقه وتتماهى مع أفكاره ورجولته، وإزاء الجسد الذي تتوهم حمايته بالحجاب/ البرقع «أنا أعيش فعلاً بين عالمين.. بين ملابسي المحتشمة وأفكاري المتحررة.. بين حجاب رأس يغطيني وأجساد عارية تستهويني.. بين البرقع والبكيني». هذا الصراع يتحول إلى كشّاف لأزمة العقل الثقافي، ولاستنطاق الكثير من الوقائع والمظاهر، فالبطلة المثقفة/ الرسامة تجد في لوحاتها العارية مجالا تعويضا لتعرية جسدها المحجب، ولفضح سرائره ولاستكناه ذاته الخبيئة عبر استدعاء الرجل/ الحبيب، إذ تتحول وظيفته إلى وظيفة مضمرة، لكنها محفزة في استثارة النسق المضمر عبر استثارة شيفرة الجسد، وفكرة الأنوثة التي تعيش رهاباتها الداخلية.
الرواية عبارة عن مونولوج طويل لامرأة تعيش هواجس رغائبها عبر لوحاتها العارية، وعبر أوهام بطولتها الصامتة كما تسميها! فهي عبر انثيالاتها تدرك تماما أنها تُجاهر بتلك النقائض، بدءا من نقائض العائلة التي تعيش في باريس ونقائض الوعي في المكان والمعنى، وانتهاء بنقائض الجسد المسكون بأوهام دفاعية واندفاعات صاخبة، فالأب يعشق الموسيقى، والأم سيدة مثقفة، وأخواتها يكتبنّ الشعر، ويعزفنّ على البيانو، وحتى الموقف من الحجاب لم يكن ضمن خيارات العائلة المتحررة، ورغم أن(جَدّتها) تميل للحشمة، لكن نزوع البطلة للتحجّب بدا وكأنه تمثّلٌ لموقف وجودي فيه الكثير من التمرد والمغامرة على العائلة الساكنة، وللكشف عن ذات تعيش نوعا من الاغتراب، ذلك الذي يجعلها أكثر تجوهرا واضطرابا حول أفكار ذات مرجعيات فلسفية عن الإرادة والاختيار «أنا كائن يعشق المفاجآت ويهوى المخاطرة»، وكذلك للتعبير عن وهم حماية الذات عبر حماية الجسد وعدم التفريط الجنسي به، رغم أنها مسكونة بعواء داخلي وضجيج يعكس هوسها وقلقها ورعب أسئلتها «أفكار كثيرة تشغلني ولا أحتمل صبراً حتى أحققها. أريد كل شيء وأخاف من أي شيء. أغامر ومن ثم أندم. الهدوء الذي يبدو على صفحة وجهي لا يعكس حجم التخبطات التي أعيشها».
علاقتها مع خطيبها المحامي يُفجّر المسكوت عنه، إذ تضع المقارنة بينها وبين عشيقة خطيبها القديمة عتبة لاستنفار أنوثتها، ولاستظهار رغبتها المكبوتة عبر الامتلاك والتعويض، وعبر صياغة وعي الشخصية التي تفترض ذلك عبر التغيير، وعبر التمرد على الحجاب بعيدا عن الآخرين، فهي تندفع بهوس إلى خلع الحجاب ليلا، وارتداء فستان أحمر فيه الكثير من التعرّي والإثارة لإبراز أنوثتها الخبيئة تحت الحجاب، وصولا إلى التمادي في الإفصاح عن رغبتها في علاقة جنسية مع خطيبها لإشباع وعيها المُجهض والجائع والباحث عن إشباعات تعويضية، رغم أنها ترفض أن تُسلّمه جسدها في الواقع.
الزمن والشخصيات
الزمن يمتد في الرواية عبر الأيام التي تسبق افتتاح معرضها التشكيلي، وهو ما يجعله زمنا مكثفا مشدودا، لكنه أيضا مشغول بتداعيات البطلة من خلال النكوص إلى الماضي، وعبر العودة إلى الحاضر بوصفه زمنها الوجودي، الذي يضع فاعلية المتخيل السردي في سياق تعبيري يحفل بالكثير من الإيهامات، وعلى ما ينطوي من عناصر تُغذي الحدث، وتضع الشخصية الرئيسية/ الراوية أمام زمن شخصي للبطلة، حيث تتضافر وحداته في التحولات التي ترهن وجودها بضمير الأنا، الذي يجعل الرواية وكأنها كتابة مستوفية لشروط السيرذاتية، تلك التي تتطلب تدفقا وجرأة ومنظورا داخليا تمارس من خلاله الشخصية وظيفة الحكي، وحتى وظيفة التأويل، إذ تصطنع موجهات سردية فاعلة، تتكشف عن رؤى وأفكار تمسّ الكثير من المفاهيم، بدءا من مفهوم الحرية والجسد والهوية وانتهاء بمفهوم الأنوثة ذاته، بوصفه مفهوما رجراجا يتقنع أحيانا بقناع الراوية، لكنه ينفلت أحيانا أخرى ليكون تمثلا لشغفها الداخلي «لوحات كثيرة تسكنها وجوه وأطياف وأجساد أنثوية طريّة.
فتيات ونساء يتجاورن، لا يخجلن بعريهن وكأنهن يعرفن أنّ هذا المكان لهنّ. ربما يتهامسن، لكنني لا أسمع سوى صوت الصمت. لا أدري إن كانت أذناي قد صُمتّا كما كلّ شيء فيّ. الموسيقى الهادئة التي كنت أسمعها قبل أن أغرق في غفوتي صمتت هي أيضاً».
نساؤها في اللوحات هنّ الشخصيات اللائي يحملن إحساسها بالنقائض، فهن عاريات، لا يخجلن في اللوحات، لكنها تعيش نكوصها الداخلي المرهون «صوت الصمت» الذي يخصها، وهذا بطبيعة الحال يحقق لها إحساسا بالتعويض وبالقرب من أنموذجها، بوصفه الموضوع الإشكالي الذي حاولت الرواية أن تقاربه، والذي يخص رؤيتها الإنسانية والثقافية لبعض عوالم المرأة العربية والشرقية، عبر استدعاء ثيمة الحجاب، وعبر وضع هذه الثيمة في سياق سيري، يجعل من الحكي أكثر تعبيرا عن أزمة الأنا، وعن أزمة المكان، الذي تختصره الروائية هنا بالمكان العائلي مقابل المكان الشخصي الذي يمثله المُحترف، إذ تمارس فيه أقصى خصوصيتها في تعرية شخصياتها، وفي الإيهام بأنهنّ يعشنّ لحظات حميمة زائفة «أدقّق في لوحة دوران، تلفّ الفتاة جسدها بمنشفة، وتقف مترنحة أمام سرير صغير، كأنها استفاقت لتوّها منتشية بعد علاقة حميمة. لكنّ نظرة عينيها غير الثابتة تومئ إلى أنّ حركة جسدها المهتزّة ليس سببها النشوة، أو حتى السّكر، بل ضياع وإرهاق بعد جري طويل في متاهات لم تؤدِ بها إلاّ نحو المجهول».
رواية بوركيني محاولة في كتابة حكاية الأنثى التي تلامس إشكالية حريتها وسط نقائض وجودية، ومفارقات يتمثلها السرد كمنطلق لتوسع مستويات قراءتها، والكشف عن المزيد من حمولاتها الدلالية والتعبيرية في عالم مشوب بأوهامٍ كثيرة، وبقيمٍ كثيرا ما تّزيفها أوهام حداثة الأمكنة وتخيلات الشخصية البرجوازية بوعيها القلق، واللامنتمية، التي تعيش رهابا داخليا ونزوعا خبيئا للتمرد عبر استدعاء المزيد من الأوهام.
_________
*القدس العربي