* حسين نشوان
التاريخ مخيف، إذا عاد يأتي كحلم مرعب أو هاجس يمكن أن يداهم الإنسان ويسيطر عليه، يأتي في تكراره فاجعياً تراجيدياً، لكنه بعد ذلك يكون مضحكا كملهاة.
في الألفية الثالثة لم يعد التاريخ مجرد ماضٍ يحمل على كتفيه أمتعته ويرحل، فأغلب الظن أنه أصبح فكرة قابلة للتحول الأيديولوجي الذي يستعمل الزمن كأداة.
في عصر الإنترنت، يبدو أن المسافة لم تختزل بين البلدان والأقطار والأمصار والمكان والجغرافيا، بل تلاشت بين حلقات الزمان ليتداخل الماضي مع الحاضر والمستقبل، وأصبح الماضي لا مجرد وجود مستعاد، بل ذا حضور طاغ يمتلك السيطرة والسلطة، أو كما يقال: «الأموات يحكمون الأحياء».
لم تعد ثمة فواصل في الألفية الثالثة بين القرية والمدينة، كما لم يعد من فروق بين الكم والنوع والمتوالية الرياضية أو الهندسية والدول الصغيرة والكبيرة، وغدت وحدة الزمن عبارة عن تمازجات ضوئية غامضة وضباب هلامي يحتاج معه الأمر إلى تعريفٍ جديد للتاريخ والزمن.
تعريف الزمن في عصر العولمة والتقنيات و «الديجيتال» لا يتصل بالإيقاع كوحدة مكونة للزمن، بل غدا اللون، وبالمعنى الفيزيائي (الضوء)، الذي يكون الصورة بما تملك من عبقرية دمج أبعاد الزمان الثلاثة، هو الذي يضبط اللحظة.
من هنا كان العصر الراهن هو عصر الصورة التي تحول فيها المدرج الزمني من المسافة إلى الومضة، الومضة التي تعزل بين الماضي والمستقبل، ويجتمع فيها الوجود كله، اللحظة التي تحول المكان من السكون إلى الحركة، وهو تحول يشير إلى أن المتخيَّل لا يتحقق في الواقع، بل العكس فإن الواقع يرحل إلى المتخيل.
هذه الأفكار ربما تكون أكثر قابلية للنقاش في النصوص الأدبية والفنية كأرض خصبة للزمان الذي جرى عليه العديد من التحولات، فكثير من الروايات استطاعت أن تلغي الزمان أو تجمده، والإلغاء ليس نفياً للظاهرة، بل هو توكيد لتلاشي المسافة بين حلقات الزمان، وعدم الاعتراف بتتابعاته ومنحنياته واسترجاعاته.
هذه الحالة ربما كانت ممكنة في الشعر الذي سبق السرد في التجريب على الزمن، وكذلك في الفن التشكيلي والصورة الفوتوغرافية، وبالمناسبة فإننا نستطيع أن نفهم القرابة بين الشعر والأسطورة والصورة وعلاقتها بالحضارات الامبراطورية القديمة من خلال ارتباط الشعر بالطقوس، والتشكيل والنحت بالمدونة التاريخية كلغة للتواصل.. وفي الشعر والصورة ثمة نزعة للسيطرة على الزمان والكون، بخلاف السرد والرواية التي تبحث عن وعي دنيوي للوجود.
وإذا كان العصر يمكن أن يُفهم من أدواته ووسائله، فإن سمة العصر الذي ينمحي فيه الزمان والمكان هي السعي إلى استعادة الحلم الأسطوري للكهانة التي تريد السيطرة على الكون والوجود بإلغاء التاريخ، أو باستنساخ تعريف جديد له. فالتاريخ (الزمان) ليس مجرد سرد للأحداث والوقائع، بل هو منطلق للأيديولوجيا التي تقع بين تجميد اللحظة واستدراك نموذجها (الماضوي)، وبين «تمويت التاريخ» ب «المستقبلية» كما يرى فوكاياما الذي يريد إعادة إنتاج المركزية الغربية واختزال التاريخ والجغرافيا وتكثيفهما في نقطة واحدة، أو بؤرة واحدة.. وهو إجراء يخالف طبيعة الفيزياء والتاريخ الإنساني.
يبدو أن التاريخ في الألفية الثالثة يتعرض للإذابة والصهر الأيديولوجي بخصائص الشعر الذي يجمع الوجود في لحظة غامضة، تستعير الماضي أو المستقبل بلغة المجاز وسلطته.
من هنا ربما يمكن فهم تلك التحولات بأدوات التعبير، ومنها بروز قصيدة النثر وذهابها للصورة والتشكيل و «التكثيف» وإلغاء الزمان والمكان، وتمثلاتها لترتيب العلاقة بين الزمان والمكان بحساسيات جديدة لا تخلو من الخفوت والخطاب الذاتي الغامض بمقاربات المتصوفة، وهي مقاربات يتلاشى فيها كل من الذات والكون ويذوبان معاً. ومن هنا يمكن أيضاً فهم ظاهرة القصيدة الومضة التي تختزل المرئيات والأحداث والمشاعر في الضوء، بمعنى «الصورة» التي تبدو هي الحقيقة الظاهرة.
هذا ليس اعتراضاً على قصيدة النثر أو تحولات الصورة والتشكيل، بل هو وقفة تأمل تستدعيها الذاكرة التي تشير إلى أن ما كان يجري على صعيد القصيدة والتشكيل والصورة، مثّل مؤشراً ينبئ عن تحولاتٍ في مفهومَي «الزمن» و «التاريخ»، وربما هذه هي وظيفة الأدب والفن التي يمكن أن تدلّنا على بعض الحقيقة.
_________
(الرأي)