أحلامٌ في زمن الحرب.. مذكّرات طفولة.. نغوغي واثيونغو (4)




*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي



نغوغي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo : كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والانثروبولوجيا الثقافية وحتى أدب الأطفال ، وهو من المرشحين المهمين لنيل جائزة نوبل في الأدب . سأقدّم على مدى حلقات متتالية ترجمة لجزء من كتاب واثيونغو (أحلام من زمن الحرب: مذكرات طفولة) الذي يعدُّ وثيقة أدبية مهمة في شكل سيرة حياتية تكشف عن الواقع الاجتماعي السائد في معظم المجتمعات الأفريقية في حقبة الهيمنة الكولونيالية .

المترجمة

كان والدي شخصاً متحفّظاً وصموتاً للغاية وقد أباح بالقليل جدّاً عن ماضيه ، وفي الوقت ذاته بدت أمّهاتنا – اللواتي تمحورت حياتنا حولهنّ – متردّداتٍ في البوح بأيّة تفاصيل عمّا يعلمن بشأن ماضي والدي ، ولكن رغم كلّ ذلك فإنّ شذراتٍ من ذلك الماضي كانت قد تراكمت لدينا من وراء الهمسات والملاحظات العابرة وحتّى الحكايات التي كنّا نسمعها والتي أضحت بالتدريج سرديّة شفاهيّة تختصُّ بحياة والدي ودوره في عائلتنا .

كان جدّي من جهة والدي طفلاً نشأ في بيئة شعب الماساي* Maasai ، وحصل أن وجد نفسه ذات يومٍ ضمن قبيلة غيكويو في مكانٍ ما من مورانغا إمّا كفدية حرب ، أو كأسير ، أو قد يكون استبعِد من قبيلته الأصليّة بسبب أهوال المجاعة . لم يكن جدّي ذاك عالماً بلغة غيكويو وكانت بضع الكلمات التي يتمتمُ بها والعائدة لشعب الماساي تبدو غريبة وذات وقع يبعث على الاندهاش لدى الغيكويو لذا أطلقوا عليه اسم ( ندوكو ) وهو مايعني “الطفل الذي يردّدُ لفظة توكو دوماً” . مُنِح جدّي بين أفراد قبيلته الجديدة اسماً تشريفيّاً هو ( موانغي ) ، ويُحكى عنه أنّه تزوّج بامرأتين كلٌّ منهما حملت اسم ( وانغيسي ) ، ورُزق بطفلين من إحدى هاتين الزوجتين سمّي الاوّل نجينجو ( أو بابا موكوني كما كان يدعى في العادة ) ، أمّا الثاني فكان والدي ثيونغو ، كما رُزِق جدّي بثلاث بنات : وانجيرو ، كارويثيا ، وايريمو ، أمّا بالنسبة للزوجة الثانية لجدّي فقد كان له منها ولدان : كاريوكي ، و موانغي كارويثيا الّذي كان يدعى موانغي الجرّاح لأنّه أصبح لاحقاً متخصّصاً في عمليّة ختان الذكور التي كان يمارسها بين أفراد قبيلتي ( غيكويو ) و ( ماساي ) معاً .

لم يُقَدّر لي يوماً أن ألتقي جدّي ندوكو أو جدّتي وانغيسي : فقد ابتُلِيت المنطقة بجائحة مرضيّة وبائيّة غامضة وكان جدّي في عداد الأوائل ممّن غادروا الحياة بسبب تلك الجائحة ثمّ سرعان ما لحقته زوجتاه وأعقبتهما الابنة وانجيرو ، وقيل أنّ جدّتي كانت متيقّنة قبل وفاتها أنّ عائلتها وقعت فريسة لعنة قديمة قاتلة أو أصابها تأثير سحر مميت من بعض الجيران الحسودين ؛ إذ لم يكن بوسع أيّ أحد أن يصدّق كيف يمكنُ أن يموت بالغٌ بسرعة بعد نوبة حمّى قصيرة للغاية ، وتسبّب هذا الوباءُ في دفع والدي و أخيه إلى طلب الارتحال مع أقربائهم الذين كانوا ارتحلوا من قبلُ إلى كابيتي التي تقعُ على مبعدة بضعة أميالٍ ، وكان بين من ارتحلوا آنذاك أختاهم نجيري وَوايريمو ، وقد طُلِب إليهم جميعاً قبل الرّحيل أن يقسموا بألّا يعودوا ثانية إلى مورانغو أو يبوحوا بأصل جذورهم لذرّيتهم من بعدهم حتّى لايظلّ إغواء العودة إلى القبيلة الأولى الأمّ والمطالبة بحقوق أرض العائلة يتلاعبُ بمخيّلة أحفادهم ، وقد وَفى الصبيّان بما وعدا به أمّهما وغادرا مارانغا . 

بدت لي تلك الجائحةُ المميتة – التي وأدت جدّي وجدّتي ودفعت بولديهما إلى اختيار حياة المنفى – منطقيّة نوعاً ما عندما قرأتُ بعد سنواتٍ لاحقاتٍ عقب بلوغي حكاياتٍ توراتيّة من العهد القديم تحكي عن الجّوائح الفتّاكة التي أبادت مجتمعاتٍ محليّة بعينها ، ودفعتني مخيّلتي إلى تصوّر أنّ والدي وأخاه كانا مثل هؤلاء الّذين اختبروا الخروج Exodus وغادرا الأرض التي ضربها طاعون فظيعٌ كما نقرأ عن ذلك في ذلك السّفر التوراتيّ بحثاً عن أرضٍ موعودة ، ولكن عندما كنتُ أقرأ عن العرب المُتاجرين بالعبيد ، أو روّاد البعثات التبشيريّة ، أو اللاهثين وراء مغامرات الصيد الكبرى – مثلما فعل تشرشل الشاب عام 1907 ، وثيودور روزفلت عام 1909 وقائمة أخرى من الأسماء سأوردها في سياق حديثي اللاحق – كانت تلك القراءات مدعاة لإعادة تخييل رؤية ماحصل لوالدي وعمّي فأراهما مثلاً بهيئة مغامِرَيْن مزوّدين بالسهام والأقواس يجوبان المناطق ذاتها التي جابها المغامرون الّذين كنت أقرأ عنهم ويسلكان مسالكهم ذاتها بل وحتّى يراوغانهم وينطلقان لمصارعة الأسود الجامحة ويتملّصان من لدغات الأفاعي المميتة ثمّ يغيبان في جوف الغابات القديمة عابرين التلال والنتوءات الصخريّة حتّى ينتهي المسير بهما إلى أرض سهليّة منبسطة وحينها يجلسان على الأرض وإمارات الخوف والصّدمة مرتسمة على محيّاهما ، ثمّ سرعان ما ينتبهان لتلك البنايات الحجريّة ذات الارتفاعات المتباينة التي تنتصبُ أمام ناظريهما ، وكذلك الطرقات الملأى بعرباتٍ من شتّى الأشكال وأناسٍ ذوي سحنات مختلفة تشمل كلّ الطيف اللونيّ من الأسود حتّى الأبيض . كان بعضُ البيض يجلسون داخل عرباتٍ يجرُّها رجالٌ سود ، وكان لابدّ أن يسودهما شعورٌ آنذاك أنّ تلك هي الأرواح البيضاء ( ميزونغو Mizungu ) ولا بدّ أن تكون تلك اللوحة الجميلة لِـ ( نايروبي ) التي سمعا عنها حكاية من قبل تقولُ أنّ الأرض قد تقيّأت تلك المدينة من باطن جوفها !! ولكنّهما ماكانا على قدر كافٍ من الاستعداد لتصديق رؤية تلك السكك الحديديّة وذلك الوحش الميكانيكيّ المرعب الذي يبعثُ اللهب والدخان إلى الأعلى كما يبعثُ أحياناً صوتاً يجعل الدماء تجمدُ في العروق .

يعودُ الفضل كلّه إلى ذلك الوحش المرعب في خلق نايروبي ودفعها إلى الوجود : خدمت نايروبي في الأساس كورشة تجميع ضخمة للمواد الثقيلة التي تسهم في بناء السكك الحديديّة – إلى جانب الخدمات الكثيرة السّاندة لتلك الصّناعة – وهكذا تحوّلت نايروبي إلى مركز يضمُّ آلاف الأفارقة و مئات الآسيويّين وحفنة من الأوربيّين العدوانيين المشاكسين الذين بسطوا هيمنتهم على تلك الصّناعة . في عام 1907 زار وينستون تشرشل – الذي كان يعمل آنذاك مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون المستعمرات – مدينة نايروبي التي لم يكن قد مضى على إنشائها أكثر من تسع سنواتٍ فحسب ، وبعد زيارته كتب تشرشل يقولُ “إنّ كلّ رجل أبيض في العاصمة نايروبي كان سياسيّاً وأنّ أغلب البيض كانوا قادة أحزابٍ سياسيّة ” ** ، وأبدى شكّه وامتعاضه من قدرة “مركز حديث التكوين على إنتاج كلّ هؤلاء السياسيّين ذوي المصالح المتضادة والباعثة على التقاتل ، وكيف أنّ مجتمعاً صغيراً كان قادراً على منح مثل هؤلاء السياسيّين قدرة قويّة على التعبير وإنْ كانت تعبيراتهم أحياناً لا تخلو من عنفٍ بيّن ” ** .

أثّر مرأى البيوت الفارهة المُشيّدة في السهول المنبسطة على كلّ من الشقيقين بطريقة مختلفة : فبعد أن مكثا مع عمّتهما يوثيرو لفترة ما غادر عمّي المدينة القاسية المليئة صخباً وفضّل البحث عن رزقه في المناطق الريفيّة من نيديا وَليمورو واضعاً نصب عينيه الاستقرار عند عائلة آل كاراو ، بينما افتتن والدي – على النقيض من أخيه تماماً – بالمركز الحضريّ للمدينة وساكنيه السود والبيض معاً وقرّر المكوث هناك ، ولحسن حظّه وجد له عملاً منزليّاً في أحد البيوت الأوربيّة ، وكعادة والدي مع كلّ ما يتعلّق بحياته الشخصيّة فإنّ الحكاية الخاصّة بذلك الطّور من حياته لا تزال شحيحة للغاية ماخلا حكاية يتيمة تخصّ عزوفه عن التجنيد والخدمة في الحرب العالميّة الأولى .

هوامش المترجمة
* الماساي Maasai : مجموعة عرقية تستوطن قرب بحيرة توركانا التي تُعَدُّ ضمن الامتداد الجغرافي الطبيعي للبحر الأحمر والذي يمتد من شمال كينيا ويشمل تنزانيا أيضاً . تعيش قبائل الماساي – التي تعتبر طبقاً للتقسيمات الأنثروبولوجيّة من القبائل النيلية لوقوعها جغرافياً في مناطق منابع النيل ولهجتها المقاربة لمثيلاتها من القبائل النيلية المستوطنة – في الكونغو مرورا بأوغندا وكينيا وتنزانيا ، وفي تلك القبائل المنغلقة على نفسها يكرّس الفرد حياته فقط لرعي وتربية الأبقار ، ورغم أنّ الماساي قبائل مسالمة إلا أنّهم قوم محاربون ذوو بأس شديد عند الحاجة للدفاع عن أبقارهم لذا يخشاهم جيرانهم الرعاة من قبائل الزامبورو والغيكويو و الباري ولا يدخلون معهم في صدام وبخاصة عند مناطق الرعي السهلية الواسعة التي تعرف بِـ ( الساڤانا ) . 
** ونستون إس. تشرشل : رحلتي الأفريقيّة ، ( ليو كوبر ، 1968 ) صفحة 18 .
Winston S. Churchill : My African Journey , ( Leo Cooper , 1968 ) , P. 18

_______

*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *