*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
خاص ( ثقافات )
كان الحب أول الأمر هو الرغبة في التفكّر اللانهائي بالجمال والأمثولات الخيّرة ، ثم بغتة يستحيل الحب ذاته نوعاً من “اللانهاية” التي نرغب فيها حيث يكون الحب مستمدّاً من الخلود
للكاتب الفيلسوف “رونالد دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015
برغم كل مافات فإن فانتازيا أريستوفانيس تظل قادرة على دعم أفكارنا : تلقي هذه الفنتازيا ضوءاً كاشفاً على شدة التوق والميل الذي يبديه أحدٌ ما تجاه آخر . عندما نفكر بشأن آلية التخصيب الجنسي فإن الفنتازيا المؤسسة على اندماج كائنيْن معاً تبدو تمثيلاً حرفياً لواقعة حقيقية . وبالرغم من أننا بالكاد ندّعي معرفة تلك الحقيقة على نحو معقول فإن حقيقة الاندماج الجسدي الذي ينتج عنه كائن بشري جديد قد تشجّع المحبين على التعامل بجدية مع الاستعارة اللفظية بشأن “النفوس المندمجة” . الفرق الكبير بين نوعي الاندماج يكمن في أن الكائنين في الأسطورة وبعدما يبلغان هدفهما المنشود فإن وحدتهما الأصلية تبقى على حالها ، أما في الحالة البيولوجية ( الإحيائية ) الموازية فإن اتحاد الحيمن مع البيضة ينتِجُ بيضة مخصبة ( زايكوت Zygote ) ستتطور إلى فرد لايشبه أي أحد وُجِد من قبل ( أو سيوجد لاحقاً ) ، وفي هذه الجزئية المحددة تعجز الأسطورة عن التلاؤم مع الواقع بطريقة لاتثير الدهشة أبداً .
سلالم الحبّ
في الحديثين اللاحقين ( خلال الندوة الأفلاطونية ) ثمة نقاش فاتن قدح شرارته الإطراء الذي أبداه أغاثون Agathon تجاه نزعة الحب التي تجنح إلى الاكتمال ، وقد أسهب في التوغل بتفاصيل كثيرة ومن غير تقييدات بلاغية . وشكّل هذا الحديث قاعدة لدحض الآراء السقراطية . يبدأ الدحض على وجه التحديد بمثال صارخ بشأن التهكّم الساخر الذي اشتهر به السقراطيون : في سياق إبداء ثناء أغاثون على الحب فإن سقراط يعترف بعدم قدرته على مجاراة مقدرة أغاثون المميزة لكنه أخطأ في الالتزام بقاعدة اللعبة : “أرى الآن” يقول سقراط ثم يمضي مضيفاً “أن النيّة كانت دوماً وَسْم الحب بكل سمات العظمة والمجد بصرف النظر عمّا إذا كانت تلك السمات تسم الحب فعلاً وواقعاً ومن غير أي اعتبار للحقيقة والبطلان” . ولكن قول شيء من غير إيلاء الاهتمام للحقيقة والبطلان الكامن وراء القول قد أُعلِن عنه من قبل بأنه التعريف المناسب تماماً لمفردة “الهراء أو التفاهة” . إذن عندما يمضي سقراط في إطراء أغاثون واعتباره شخصاً لامعاً عصياً على المجاراة فإنه ( أي سقراط ) يكون في الواقع كمن يخبِر أغاثون بأنه يتفوه “هراءً” ( وهو مايدفعنا إلى الزعم بأن الهراء كان من بين السّمات التي تصف التقاليد الموغلة في القدم عندما يتناول الحديث الحب ) .
بعد أن أزاح سقراط عنه عائق الحديث عن الحب باعتباره شأناً تافهاً فإنه حمل على عاتقه عبء محاججة تحليلية مبتكرة وبارعة ليبيّن أن الحب لايمكن أن يكون أمراً جميلاً أو شبيهاً بالآلهة . تحدى مسعى سقراط بالطبع التقليد الإغريقي : بصرف النظر عن حقيقة أن الآلهة الإغريقية كانت ضاربة الشهرة بتمثيلها للمآثر الغرامية فإن الآلهة أفروديت والإله الإشكالي إيروس كانا تمثيلاً مشخصناً للحب . طوّر سقراط رفضه كون الحب هبة سماوية باستخدام مبدأ مفرط في المراوغة : لأجل الحفاظ على حقيقة كونه لايتبنى أي مبدأ خاص بشأن الحب فإن سقراط يدّعي استقاءه لكل علمه بشأن الحب من كاهنة تدعى ديوتيما Diotima . إن هذه النظرة السقراطية موضوعة التساؤل غالباً ماتُعامل على أنها نظرة أفلاطون الحقيقية بشأن الحب ، ولكن لمّا كان أفلاطون حريصاً على تنسيب الحكاية إلى شخص يدّعي أن سقراط حصل عليها من الكاهنة ديوتيما لذا سأشير إلى الحكاية بوصفها “حكاية ديوتيما” :
ينطوي الحب على الرغبة ، والرغبة تتوجه حتماً نحو مايعوزنا ونفتقده . المفردة الإنكليزية “أريد” تضم المعنييْن معاً : إذا أردتَ شيئاً فأنت إذن تحتاجه ، وهو مايعني أيضاً وبالضبط أنك لاتحوزه ، لذا فإن الحب هو بصورة أساسية حاجة مفتقدة ويتطلّع لبلوغ ماليس في حوزتنا . ومع أنك قد لاتريد ماهو في حوزتك تواً ولكن قد يبدو الأمر أنك تريد هذا لمحض رغبتك في أن يستمر معك في اللحظة التالية : إذا كنتَ تحوز الجمال الآن فأنت تريد الاحتفاظ به ، ولكن لأيّ مدىً ممكن ؟؟ إذا كان عليك أن تحدّد بذاتك كم من الوقت ستدوم معك متعةٌ ما فأنت تكون حينئذ قد شرّعت الأبواب أمام إمكانية فقدان سحر حتى مايبدو مُتَعاً عظمى لانظير لها ، لكن هذا الأمر لايحصل مع ديوتيما التي – وعلى العكس – تجترح ثلاث انتقالاتٍ غير منطقية بصورة تدعو إلى الملاحظة الدقيقة .
الانتقالة الأولى هي افتراض أن المرء يريد دوام الأمر ( أي أمر الحب أو اية متعة أخرى سواه ، المترجمة ) للأبد : “إذا كان الحب على النحو الذي لطالما صرّحنا به – أي الحيازة الأزلية لما هو طيّب وخيّر لذا فإن كل الرجال سيرغبون بالضرورة في طلب الخلود إلى جانب حيازة ذلك الأمرالطيّب والخيّر ” . ربما يجد هذا الأمر معقوليّته في الافتراض بأن حيازة الجمال والخصال الخيّرة هي أعظم أشكال الراحة الممكنة ، ولكن برغم هذا فإن من العسير على المرء أن يتخيل إمكانية الاستمتاع ببرهة رائعة إلى مدى زمني لانهاية له وبصرف النظر عن عظمة الروعة الكامنة في تلك البرهة – سيحلّ التعوّد Habituation وحينئذ ستخفت شدة المتعة إلى حدّ يحيل تلك البرهة إلى ألم ، لذا فإن الانتقالة الأولى ليست بأكثر من قفزة فجائية أو طفرة محدودة المدى فحسب .
الآن يحل نوع من أنواع ألعاب خفّة اليد تستحيل فيها موضوعة الحب شيئاً شاخصاً أمام عيوننا : كان الحب أول الأمر هو الرغبة في التفكّر اللانهائي بالجمال والأمثولات الخيّرة ، ثم بغتة يستحيل الحب ذاته نوعاً من “اللانهاية” التي نرغب فيها – “حيث يكون الحب مستمدّاً من الخلود” . هنا قد يكون صحيحاً القول أننا – أو البعض منّا في الأقل – نرغب في الخلود على هذا النحو وبوساطة الحب ، ودعونا ننتبه إلى حقيقة أننا متى ماسعينا إلى استنتاجٍ ما فإننا في الغالب لانعير أي اهتمام لمدى خطل وسائلنا بقدر مانتوجه نحو “زبدة الكلام” التي تدعم توجهنا ، لذا فإن اللامنطقية الكامنة في الانتقال من السعي اللانهائي وراء شيء محدد إلى السعي في طلب العيش ( لمحض طلب خلود العيش فحسب) – هذه اللامنطقية غالباً ماتمرّ من غير انتباهة مستوجبة .
الانعطافة الفجائية اللامنطقية الثالثة تجلب معها – وعلى نحو فجائي – مفهوم الاستنساخ والتكاثر : تلك الرغبة التي يمكن توضيحها على اعتبارها نوعاً من جائزة “تعزية consolation” إزاء رغبتنا مستحيلة التحقق في الخلود “لأن الجيل البشري – بالنسبة إلى كائن محكوم بالفناء – هو نوع من الأبدية والخلود” . تبدو ديوتيما هنا مستبقة لِـ ( وودي آلن Woody Allen ) الذي صرّح في واحد من إعلاناته الشهيرة أنه يفضل تحقيق الخلود بألا يموت ( بدلاً من الانضواء تحت خيمة جيل بشري فحسب ، المترجمة ) – الفكرة هنا تبدو هكذا : إذا كنتَ غير قادر على تحقيق الاتحاد مع الجمال الإلهي المتعالي ذاته فعليك إذن أن تمكث حيث أنت بغية الإنجاب وحسب . هكذا إذن تتم إقامة الرابطة بين الحب والجنس والإنجاب ، أما الذريّة ( التي تبدو فكرة لاحقة مستدركة ) فيتم وصفها على اعتبارها “نتاجاً جانبياً” للسعي نحو الهدف الأصلي : بلوغ الجمال المثالي المتعالي . التكاثر إذن هو الأفضل بين الأمور الثانوية التي تنطوي عليها موضوعة الحب ، ولكن التكاثر هو في الوقت ذاته كل مايمكن أن يطمح في بلوغه المخيال الشعبي الفلكلوري.
_____
*المدى