أمل المشايخ*
خاص ( ثقافات )
كتبها أحمد رامي وغنتها أمّ كلثوم عام 1950 من ألحان رياض السّنباطي الذي تخصّص بالقصائد الغنائيّة، وحين تُذكر القصائد الغنائيّة تُذكر (الأطلال) أيقونة إبراهيم ناجي، لكنّني لنْ أتحدثْ عن (الأطلال) التي أعلنتْ واحدةً من أهمِّ خمسين عملاً فنياً جاد بها القرن العشرون.
أما (سهران لوحدي) فقد سمعتها غيرَ مرّة، لكنّني اليومَ توقفتُ عندَ قول رامي:
“ولمّا بعدك عنّي طال حنّيت لأيام الهُجران
يلّلي رضاك أوهام والسّهد فيك أحلام
حتى الجفا محروم منه يا ريتها دامت أيامه”
والعهدُ بالعاشقِ – حينَ يطولُ البعدُ- أنْ يحنّ لأيامِ اللقاء، لكنْ أنْ يحنّ لـ(أيام الهجران) ويكونُ (حتى الجفا) مطلباً محروماً منه، ويكونُ (العهد جميلاً بالحاسد والعذول حينَ كان البال مشغولاً) كما يقول رامي – فأيّ حرمانٍ تجسدّه هذه الصّورة المركبّة – حين لا يكون الوصال والارتواء شاهديْن على ربيعِ الحبِّ- وأيّ سموّ ينبئك عنه هذا المعنى العميقُ البليغُ الأليمُ – في آنٍ معاً – والذي لا أحسبه إلّا جديداً، كلّ ذلك مشفوعٌ بلحنٍ وكأنّ أحدَها – الكلمة والصّوت واللحن – لم يُخلق إلا للآخر؟! بلْ جعلَ القصيدةَ باللهجة المحكيّة الدّارجة تنافس فصيح القصيد…
يروى عنْ أحمد رامي أنّه كانَ لا يكتبُ الشِّعرَ إلّا بعدَ أنْ يضعَ أسطوانةً بصوتِ أمّ كلثوم ومن وحيه يكتب الشّعر، ويروى أيضاً أنّه عندما غنّت من كلماته (جدّدت حبّك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح) قالتْ بعضُ المجلّاتِ الفنيّةِ: إنّ هذه الأغنيةَ كادتْ تعصفُ بزواجِه الذي كانَ قدْ مرّ عليه خمسةٌ وعشرون عاماً.
وفي مقابلةٍ مع (توحيد) النّجل الأكبر لأحمد رامي بعدَ وفاةِ والده قال: سألتُ والدي لماذا لمْ تتزوجْ أمَّ كلثوم؟ قال: لو تزوجتُها كيف لي أنْ أكتبَ ما كتبتْ، وأشار له – تحديداً- إلى مقدّمة أغنيتها من كلماته:
سهران لوحدي أناجي طيفك السّاري سابح في وجدي ودمعي ع الخدود جاري
وحينَ سأله الصّحفي: بماذا كانت تجيب والدتُك (عطيات خليل) عندما كانَ يخبرها أحدٌ أنّ زوجها يحبّ (أمّ كلثوم)؟ أجاب: كانت تقول (أنا كمان بحبها!!)…..
ولسْتُ أدري بأيِّ ذكاءٍ أدركتْ (عطيّات) ما لا تدركُه النّساء عادةً – في مثل هذهِ الحال – أنّها لو وقفتْ في وجه هذه العلاقةِ أيّا كان مسمّاها – حبّاً أو مودّة عميقة أو صداقة – لبقي أحمد رامي أمينَ مكتبةٍ، وشاعراً مغموراً لمْ يدرِ به أحدٌ، ولمَا وصلَ إلى ما وصل إليه؛ إذْ انتخبَ رئيساً لجمعيّة المؤلّفين، وحصلَ على ميدالية (الخلود الفنيّ) منْ أكاديميّة الفنون الفرنسيّة، وكرّمه الرّئيس الرّاحل محمّد أنور السّادات قبل وفاته ببضعِ سنوات؛ فمنحه درجة (الدّكتوراه الفخريّة) في الفنون، وقبلَ ذلك وبعدَه هو أحمد رامي الذي لا تُذكر أمّ كلثوم إلّا ويُذكر معها.
يومَ وفاةِ أمّ كلثوم في 3/2/1975 علّقت صحيفة (التّايمز): إنّها كانتْ رمزاً منْ رموز الوجدان العربيّ، وعلّقت صحيفة ألمانيّة: إنّ مشاعرَ العربِ اهتزّت من المحيط إلى الخليج، أمّا الصّحف العربيّة فقد سيطرَ عليها الوجومُ بعد أنْ كانتْ أخبارُ حالتِها الصّحيّة تتصدّر الصّفحاتِ الأولى طيلةَ أيامها الأخيرة – إذْ ثمّة هرمٌ رابعٌ قدْ تهاوى….
أما أحمد رامي فقدْ عاشَ بعدها ستَ سنواتٍ عجافاً؛ ليرحلَ في 5/6/1981، يومَها نعتْه وكالاتُ الأنباءِ بلغةٍ غيرِ إخباريّةٍ تَنقصُها التّقريريّة والرّصانة – التي تُقدّم بها نشراتُ الأخبار عادةً – فقالتْ الوكالاتُ حينئذٍ: “إنّه دخلَ في طورِ اكتئابٍ؛ فلمْ يكتبْ شيئاً منذُ وفاةِ أمّ كلثوم معذبتِه وملهمتِه”….
هلْ كانَ عبثاً ربْطُ الإلهامِ بالعذابِ حتّى في نشراتِ الأخبارِ؟ هلْ أرادت الصّحفُ أنْ تقولَ: إنّ الحديثَ عنْ رامي وأمّ كلثوم صفحةٌ منْ صفحاتِ صراعِ الحبِّ والعبقريّة؟ هلْ أرادَ رامي أنْ تكونَ أمّ كلثوم ملهمةً وحسبْ منْ وحيِها يكتبُ قصائدَه؟ فكتبَ لها ما يزيدُ عنْ مئةِ أغنيةٍ، وغنّتْ له ولغيرِه سبعمائة قصيدةٍ أو يزيد…
أقولُ هذا في الذّكرى الحادية والأربعين لرحيل السّيدة أمّ كلثوم (فاطمة إبراهيم بلتاجي)… أمّ كلثوم التي ملأت الدّنيا وشغلت النّاس، وبقيت الآراءُ في فنّها ونجوميّتها بين أخذٍ وردّ وهمزٍ ولمزٍ إلى يومِنا هذا، ومهما يكنْ منْ أمرٍ، تبقى أمّ كلثوم سيّدةَ الكلمةِ، ورسولةَ اللحنِ منْ زمنٍ جميلٍ.. زمنِ الحبِّ الذي يبدو أنّه لنْ يتكرّر.
ذهبتْ أمّ كلثوم، وذهبَ رامي، وذهب السُّنباطي وكعادتِهن الكلماتُ بقين خالداتٍ.
* كاتبة أردنية.