في الحب وأحجياته



*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

الحب معطاء وأناني ، رقيق وقاسٍ ، متقلب وخالد ، فردوسي وجحيمي ، والحب أيضاً حرب : فهو يمتّعنا بالبعض من أفضل الهِبات السماوية وتُرتكبُ باسمه أبشع الجرائم أحياناً في الوقت الذي يقول فيه البعض إن الله محبَّة

للكاتب الفيلسوف “رولاند دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015
الحب – وبخلاف المفترضات السائدة – ليس انفعالاً أو عاطفة ، وتبدو فكرة الحب أقرب إلى استحضار مشاعر لذيذة رقيقة – تلك المشاعر المُحِبّة هي بالتأكيد نوع من انفعالات أو عواطف بيد أنها أبعد ماتكون عن حسبانها العواطف الوحيدة التي يتشكّل منها الحب الإيروتيكي : يعتمد الأمر كله على الظروف السائدة – أين أنت ؟ وأية حكاية حبّ تخوض فيها ؟ ، وحينها قد يتمظهر الحب في مظاهر حزن أو خوف أو ذنب أو ندم أو مرارة أو غمّ أو احتقار أو إذلال أو غبطة أو اكتئاب أو قلق أو غيرة أو اشمئزاز أو عنفوان قاتل . إن واحداً من البدائل الفضلى هو التفكير في الحب كحالة تسهم في هيكلة وضبط الأفكار والرغبات والانفعالات والسلوكيات التي يُبديها المرء إزاء الشخص المحوري في حياته – المحبوب The Beloved . الحب في حالة مثل هذه يكون مثل موشور يؤثر في كل خبراتنا حتى في تلك التي لايكون فيها المحبوب طرفاً فاعلاً بصورة مباشرة ، وسأدعو هذه الحالة متلازمة Syndrome الحبّ ( المتلازمة مفردة اصطلاحية تقنية شائعة في الأدبيات الطبية الإكلينيكية وتعني مجموعة الأعراض المرضية والعلامات المتزامنة التي تظهر معاً ومن خلالها يتم توصيف الحالة المرضية ، المترجمة ) . الحب ليس محض شعورٍ فحسب بل هو نمط معقد من الانفعالات والسلوكيات والأفكار المؤثرة التي تعمل معاً ، وإذا ماتسبب الحب في تحفيز نوع من الاضطراب الذي قد يستدعي تدخلاً طبياً فإن ذلك الاضطراب ليس على الدوام أمراً غير مناسب أو غير مرغوب فيه بشدة : إنّ امرءاً غاطساً في الحب غالباً مايقال عنه أو يوصف بأنه قد جُنّ بحبّه وبخاصة إذا ماكان هو ومن يحبّ عاشقيْن حدّ الوَلَهْ .
إن هذه المقدمة القصيرة للغاية في موضوعة الحب مكتوبة من وجهة نظر فيلسوف . الفلسفة تعشق الأحجيات ، والحب يوفر خليطاً مشوشاً وفوضوياً من الأحجيات ، ولا أحسب أننا في حاجة للتظاهر بأي تواضعٍ استثنائي عندما نعترف بحجم الحيرة التي تدركنا متى ماتعاملنا مع موضوعة الحب الإشكالية للغاية : الحب معطاء وأناني ، رقيق وقاسٍ ، متقلب وخالد ، فردوسي وجحيمي ، والحب أيضاً حرب : فهو يمتّعنا بالبعض من أفضل الهِبات السماوية وتُرتكبُ باسمه أبشع الجرائم أحياناً في الوقت الذي يقول فيه البعض أن الله محبّة ! وتبدو مسألة حتميةً توفير إجابات مقبولة لكل تلك المعضلات الإشكالية المقترنة بمتلازمة الحب . إن السير مع ماينطوي بين خزائنه على هباتٍ سماوية يمكن أن يكون رحلة عظيمة الإمتاع كما قد يكون محفوفاً بمخاطر هائلة حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لايُبدون كبير إهتمامٍ بالموضوع ويكتفون بالتحديق العابر فيه مثل حال المارة عابري السبيل في الطرقات المزدحمة بشتى الألوان . دعونا نبدأ الآن إذن في تناول عيّنةٍ من الأحجيات التي تثيرُها في العادة الأفكار الشائعة عن الحب: 
موضوعات الحبّ : ما الذي يمكن أن نحبّه؟ 
هل يصلح أي شيء لأن يكون موضوعاً لحبّ امرئ ما ؟ هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى : تستطيع أنت – وكلٌّ منا – أن تحب السفر أو الجّزَر أو الرياضيات أو السيارات السريعة ، ولكن كل هذا يبدو أمراً أقرب إلى الولع بالأشياء منه إلى حب تلك الأشياء إذا ماشئنا الصرامة في التوصيف ، وبقدر مايختص الأمر بالحب الإيروتيكي فإن طائفة الموضوعات المحتملة والمرشّحة للحب تبدو أكثر تحديداً وانغلاقاً على نوعٍ محدّد من الموضوعات – الكائنات البشرية وحسب ، وحتى من بين الكائنات البشرية يفترض بعض الناس أن الحب يكون مع نوعٍ جندري وحيد ( وهو مايشير إلى الجنس المقابل في اللغة اليومية السائدة ) ، ولكن يبدو أنّ اثنتيْن على الأقل من هذه الاشتراطات المقيدة للحب الإيروتيكي تخون انحيازاتنا اليومية : الأولى ، حصر موضوع الحب الإيروتيكي في نوعٍ جندري وحيد بعينه ، والثانية هي معرفتنا اليقينية بوجود نوعين جندريّين اثنين لانوعٍ وحيد فحسب ، وربما لم يسيطر عليك عزيزي القارئ أي من هذين الانحيازيْن يوماً ما ولكن ربّما تكون أيضاً مؤيداً لتابواتٍ أخرى غير هذه وبخاصة بعد أن ماعادت الكثير من التابوات تصيبنا بالاندهاش مثلما كانت تفعل فينا من قبلُ ولكن تبقى العلاقات الإيروتيكية هي الأكثر سطوة وغلبة في كل الأحوال . 
ثمة تابو وحيد يمكن أن تكون له ذات سطوة الحب الإيروتيكيّ – الزوفيليا Zoophilia : الحب الحميمي الذي يبديه بعض الأفراد تجاه حيواناتٍ بعينها وهو الأمر الذي يثير الكثير من الرعب وبخاصة عندما تتمّ مشابهته بالسلوك الجنسي البهيمي المقترن بالقسوة والغِلظة ( يستكشف إدوارد إلبي Edward Albee بأسلوبه الفاتن اللذيذ هذين النوعين من السلوك في مسرحيته المسمّاة “من هي سيلفيا ؟ Who is Sylvia ? ” التي تحكي عن رجلٍ يُبدي شغفاً ونهماً جنسياً لاينطفئ تجاه عنزة !! ) . إن التابو الموضوع على الفعل الحميمي تجاه الحيوان غالباً مايتم الدفاع عنه على أساس أن الحيوانات لايمكنها التصريح بموافقتها على ذلك الفعل ، ومايهمّني أنا في الأمر كله هو أن هذا الدفاع يفضح الكثير بشأن خصوصية وانتقائية توجهاتنا نحو الحيوان والحب والجنس معاً : هل سأل أحد هؤلاء بقرة أو خنزيراً بقصد استحصال موافقته قبل قتله وأكله ؟ . في عصرنا المفترض فيه أن يكون عصراً تنويرياً يبدو أن الحيوانات وحدها هي من تعاني مصيراً أسوأ من الموت ذاته . 
ثمة أمرٌ أكثر تحديداً من الموضوعات السابقة ولكنه ينطوي على أحجية تثير السخرية أكثر من الرعب – أعني بذلك “المولعين بالأشياء Objektophiles الذين يدّعون حبهم للاجسام الجامدة التي لاروح فيها ، وكمثال على هذا الأمر فإن إحدى بطلات العالم في الرماية امتلكت على الدوام علاقة عاطفية شغوفة مع قوس Bow جهاز الرماية لديها ، ومن اللافت للنظر أن حبها لقوسها متى ماخبا فإن مهارتها في الرماية كانت تخبو هي الأخرى ، وقد حصل بالفعل أن تقدّمت تلك البطلة لإتمام مراسم زواجها من برج إيفل !! . في كل الأحوال فإنّ الخط الرقيق الفاصل بين الأشياء الجامدة وتلك الضاجّة بالحياة بات باهتاً : تعمل الروبوتات اليابانية باجتهاد مثابر لايعرف الكلل على استبدال الدمى الجنسية القابلة للنفخ بروبوتات جندرية ذات مهارات تخاطبية وعاطفية متزايدة التعقيد ، ونحن نعلم منذ زمن بعيد أن الحيوانات الأليفة ( الطبيعية والروبوتية معاً ) تعمل على تخفيض مستويات القلق وضغط الدم بين النزلاء المعزولين في البيوت المعدّة للمتقاعدين ، ويبدو الأمر مسألة وقتٍ لا أكثر قبل أن تغدو الروبوتات قادرة على توفير رفقة عاطفية وجنسية حميمة لهؤلاء الذين يفتقدون الحب ويلهثون وراءه بين جميع الأعمار ، ومتى ماقيّض لهذا الأمر أن يحصل فسيمكن آنذاك للفلاسفة وعلماء النفس أن يستكشفوا بدقة طبيعة الحبّ الذي يتوق إليه هؤلاء . 
لِنقُل الأمر باختصار : في الوقت الذي يُفتَرَضُ فيه أن الحب هو تعبير عن قدرة بشرية حصرية على وجه التخصيص يبدو أن ليست ثمّة محدّدات طبيعية يمكن لها أن تمنع الناس وتصدّهم عن حبّ مايشاؤون ، ويمكن للأفراد منفتحي الذهن أن يعرفوا بسهولة فائقة أن قائمة الأشياء التي نحبها يمكن لها أن تضم الحيوانات والأشياء الجامدة وبعضاً من الأشياء المتدرّجة بينهما . هل ثمة خطأ أو خطبٌ ما في أن يكون المرء واسع الذهن ومتفتح الآفاق ليدرك هذا الأمر ؟ نعرف مثلاً أن المتولّهين بالأشياء ينتابهم شعور قويّ يدفعهم تجاه شيء ما ، ولكن هل يمكن لهذا الشعور أن يكون “حباً” ؟ 
حسناً ، لِمَ لا ؟ ولكن كيف يمكن لنا أن نتخذ قراراً بشأن تلك الأسئلة ؟ إن أغلب “ذوي الخبرة الإختصاصية” ممّن أفاضوا في الكتابة عن موضوعة الحبّ هم على دراية كافية ويمتلكون حماسة متبصرة تكفي لإخبارِنا عن الحب الحقيقي وتمييزه عمّا سواه من أشكال الحب المزيّفة : بعض أشكال الحب – كما يؤكد لنا هؤلاء – أكثر نبلاً ورفعة ، وبعضها الآخر أقل رفعة وليست إنسانية بالكامل . إن هذا التوصيف ينطوي على دفقة تعبيرية ذات نبرة أخلاقية تمييزية لكني سأعمل بكل ما أوتيتُ من جهد على دفعها ومقاومتها لأن افتراضي الإجرائي الأساسي هنا هو أن ليس ثمة شكل محدّد من أشكال الحب يمكن اعتباره “حقيقياً” أكثر من سواه . هل توجد أشكال للحب كفيلة بجعلك أكثر سعادة ؟ ربما ، ولكن تكييفك المفاهيمي عندئذ لمفردة “الحب” هو على الأرجح مايسهم في حفز فهمك للسعادة بحيث تميل أنت لمقايسة السعادة وحتساب جرعتها بالرجوع إلى خلفية ذلك الفهم المتأصل ، ولكن في كل الأحوال سيكون دوماً ثمة ماهو كيفيّ arbitrary في الحجج والبراهين الخاصة بانتخاب التعريفات المناسبة لمفردة “الحب” ، لذا وبدلاً من محاولة الانجراف في تعريف الحب دعونا نمضي قدماً في مساءلة بضع أحجياتٍ أخرى يقدحها الحديث اليومي المتداول بشأن الحب.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *