في الحب وأحجياته(8)


*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


إذا كان المحبوب – وسيظل- جزءاً ثابتاً في ذاتي فإن هذا هو مايوضح كلا الأمرين التاليين : رغبتي الجسدية التواقة في اتحاد جسديْنا ، وإحساسي بأن كل مايبتغيه الآخر ( أي المحبوب ) سيكون حتماً وبالضبط ما أبتغيه أنا أيضاً.
للكاتب الفيلسوف “رونالد دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015
حتى لو افترضنا ثنائية ما بين الروح والجسد ، فليس ثمة ماينبئ عن أنّنا نعير الروح جلّ اهتمامنا في هذه الحياة . يجادل سقراط في موضع قريب من خاتمة المحاورة الأفلاطونية – وفي موضع آخر أيضاً – أن الروح خالدة وأبدية وغير متغيرة ، في حين أن الجسد ماهو إلّا سلسلة متتابعة من الأشكال سريعة الزوال . وهو يستشهد بهذه الحقائق ( مثلما تفعل بعض الديانات ) ويرى فيها سبباً لإعلاء شأن الروح واحتقار شأن الجسد . ولكن بغية الوقوف في وجه الطبيعة الخالدة والمؤبّدة للروح فإن الطبيعة سريعة الزوال للجسد يمكن أن توفر مقاربة تحتّم تفضيل الجسد : أنت لديك الوقت كلّه المتاح في العالم وبكل مافي الكلمة من معنى لتدليل الروح وتلبية رغباتها ، ولكن ماهو آنيّ وحرجٌ هو الجسد الذي ينبغي الإمساك بمُتعهِ قبل أن تفلت من بين يديك : فالأبدية تعلم تماماً كيف ستتكفّل برعاية روحك !! . إن شيئاً مثل هذا ( مع بعض التمويه في المفارقة ) تعبر عنه العبارات التالية التي كتبها بليك Blake :
هذا الذي يحجب عن نفسه متعة
إنّما يحطّم الحياة التي تنزع إلى التحليق بعيداً 
هذا الذي يُقبِلُ على متعةٍ بعد أن تتلاشى في الهواء
يعيش في انتظار أن تشرق شمس الأبدية 
الحبّ مجسّداً 
إريكسيماكوس Eryximachus: الطبيب ، يتحدث الآن في الندوة ، وبالنسبة له فإن ثنائية العقل – الجسد ليست سبباً يدعو إلى احتقار الجسد بل – على العكس تماماً – أن تعهّد الشكل الصحيح من الحب بالرعاية هو وجه واحد فحسب من أوجه الحياة الصحيّة التي تتطلب توازناً بين العناصر المتعاكسة . إن وجهة نظر إريكسيماكوس لها صلات وثيقة مع النموذج العابر للهوية الجندرية والذاتية Pansexual لأن وصفته الخاصة بتوفير التوازن تمتد لتشمل الموسيقى والعلم والدين . 
قلما ستصيبنا الدهشة اليوم – من وجهة نظر علم الدماغ الحديث – عند سماع آراء إريكسيماكوس لأن مايقوله لم يعد إضافة ثرية لما نعرفه اليوم . ولكن برغم ذلك فثمة ملاحظتان في آرائه جديرتان بكل الاعتبار : الملاحظة الأولى تختص بالمنظور الفسيولوجي ( الوظيفي ) في تلك الأزمان الغابرة ، إذ ينبغي هنا ملاحظة أن أفلاطون أكد دوماً على التزامه الوثيق بالحقيقة الكامنة في مديات أبعد من حدود التجربة الحسية اليومية العادية وتبنى دوماً نظرة استباقية كانت محط اهتمام المفكرين الحداثيين الذين أشاروا إلى أهميتها في الدلالة على المكامن العصبية الوظيفية الدفينة للحب . يؤكد العلم الحديث للحب الحس الذاتي الكامن في الشعور بأن الجنون المقترن بالحب موضوعة أبعد غوراً بكثير من محض المشابهة التصادفية بأشكال أخرى من الوعي المكيّف altered consciousness . وعلى الرغم من حديث أفلاطون بشأن الأشكال العِلوية للحب والمختصة بالروح غير المجسدة فإن حديث إريكسيماكوس لاينفك يذكّرنا بأن كل أشكال الحب إنما تحصل داخل الجسد في نهاية الأمر . 
أما الملاحظة الثانية الجديرة بالاهتمام فتختص بوجود صِدام من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى مع مثال الحب ذاته لأن الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة : الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك . ثمة ملحوظة تعني – ربما – أن الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي وربما حتى غير الصحي !! ، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بالقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة قد شجبوا الحب ورأوا فيه حالة مرضية ( باثولوجية Pathological ) ، وقد ضمّن شكسبير الفكرة ذاتها في سونيتاه 147:
حبّي يشبه الحمّى التي تتوق دوماً 
لذلك الذي يتعهّد المرض بالرعاية لوقت طويل
يقتات على ذلك الذي يطيل أمد المرض :
الرغبة المرضية غير الواثقة من قدرتها على الإشباع
My love is as a fever, longing still
For that which longer nurseth the disease
Feeding on that which does preserve the ill
The uncertain, sickly appetite to please.
حان الآن دور الكاتب الفكاهي أريستوفانيس Aristophanes الذي يقترح أسطورة حول بدايات الكائنات البشرية والتي هي – وعلى نحو مختلف تماماً – متجذرة في حكاية حول الجسد . ستعمل أسطورة أريستوفانيس على إيضاح مسألتين : لماذا يمكن للتوق العارم إلى الحب أن يتسبّب في شعور شديد الإيلام ؟ ولماذا يكون الوقوع في الحب قادراً على بعث شعور شبيه بإيجاد قطعة منفردة ومميزة مفقودة من ذات المرء ؟ استأنس أريستوفانيس للفكرة القائلة أن أسلافنا كانوا كائنات مكوّرة ثمانيّة الأطراف جاءت على ثلاثة أشكال : ذكر ، أنثى ، ثنائي الجنس ، وقد أثار نجاح تلك الكائنات حفيظة الإله المتعالي العصيّ على الوصول ( زيوس ) وتسبّب في شحن كوامن غيرته فما كان منه – على سبيل معاقبة هؤلاء – إلا أن يشطر هؤلاء نصفين ، وتأسيساً على هذه الفكرة يكون مسعانا نحو الحب في حقيقته مسعىً لحيازة نصفنا الآخر . 
تدفعنا أسطورة أريستوفانيس دفعاً إلى تذكر خلق حواء من جسد آدم بحسب حكاية سِفر التكوين Genesis ( على الرغم من أن التوق لإعادة الإتحاد مع ضلع شخص آخر تبدو دافعاً أقل شأناً في حكاية أريستوفانيس ) . تشبه أسطورة أريستوفانيس أسطورة هندية حول أصل الأجناس ماخلا أن الأسطورة الهندية تدعم التأكيد على اعتبار الحب راحة من الوحدة وهذا هو الدافع الذي يجعل أي شريك يجتهد في السعي وراء الحب حتماً ، وثمة القليل فحسب من التأكيد في الأسطورة الهندية على الحب باعتباره تقديراً للمحبوب يماثل تقدير المرء لذاته تماماً : 
في البدء كان هذا العالم جسداً واحداً بهيئة رجلٍ فحسب . نظر الرجل حوله ولم يرَ شيئاً سواه . غدا ذلك المخلوق الأول خائفاً – لأن المرء ينتابه الخوف متى ماكان وحيداً . فكّر الرجل مع نفسه : “ماالذي ينبغي أن أخافه عندما لايكون ثمة أحد سواي ؟ لذا غادره خوفه حينئذ . ما الذي يمكن أن يخافه بعد الآن ؟ المرء ، بعد كل شيء ، يخاف أحداً غيره . لم يجد الرجل متعة – لأن المرء لايجد متعة عندما يكون وحيداً . أراد أن يكون له رفيق . تعاظم حجمه الآن كما لو أنه استحال رجلاً وامرأة متلاحمين – لذا شطر جسده شطرين اثنين خالقاً زوجاً وزوجة .
تركّز حكاية أريستوفانيس على خصيصتيْن اثنتيْن في تجربة الحب : التوق الذي نشعر به بغية ( الاتحاد ) مع شخص محدد بعينه ، والخصوصية الجندرية للشخص موضوع ذلك التوق . إن الرغبة في الاتحاد تقودنا إلى توجيه اهتمامنا نحو الشعور بالتقدير والاحترام الذي يأتي مع الوقوع في الحب – شيء شبيه بالشعور الملازم للإحساس الذي يدفع المحبّ ليقول لمحبوبه “الأمر يبدو كما لو أن معرفتي بك ستمتد إلى الأبد” ، أو مثلما قال أرسطو بشأن مسألة الصداقة بعامة “الآخر هو ذات ثانيةٌ” . إذا كان المحبوب – وسيظل – جزءاً ثابتاً في ذاتي فإن هذا هو مايوضح كلا الأمرين التاليين : رغبتي الجسدية التواقة في اتحاد جسديْنا ، وإحساسي بأن كل مايبتغيه الآخر ( أي المحبوب ) سيكون حتماً وبالضبط ما أبتغيه أنا أيضاً . 
من وجهات أخرى تبدو حكاية اريستوفانيس رخوة وغير متماشية مع حقائق التجربة اليومية : هي مثلاً لاتوضح السبب وراء كون البعض لم يعرف تجربة الحب ، ولِمَ لايتوق البعض لفعل الاتحاد إما على نحوٍ عام أو مع أحدٍ ما على وجه التخصيص ، وفي الوقت الذي توفر فيه أسطورة الكائنات الأصلية ثمانيّة الأطراف طريقة أنيقة ومرتّبة لتسويغ التكييفات الجنسية المتباينة فقد يشكو البعض أنها لاتوضح السبب وراء كون البعض طبيعياً في حبه وكون البعض الآخر يُبدي ميولاً شهوانية شبِقة.
___
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *