*المهندس فتحي الحبّوبي
خاص ( ثقافات )
“إن التحوّل الحضاري لا يتمّ على يد بطل، أو حاكم، ولكنّه يتمّ على يد الحكمة الجماعيّة، وهي من المصلحين وقادة الفكر”
هربرت سبنسر
مهندس وعالم اجتماع إنجليزي
___________
رغم عظمة دور قادة الفكرّ الحرّ الذي تترجمه إسهاماتهم الإيجابيّة الفاعلة في التحوّلات الحضاريّة التي غيّرت وجه العالم نحو الأفضل، فإنّ محنة الكثير منهم، وعلى امتداد التاريخ، تحاكي و لا تختلف في قساوتها عن إحدى أهمّ القصص في الميثولوجيا الإغريقيّة التي تحدّثت عن “بروميثوس”/البعيد النظر (Prométhée) ، وهو أحد الحكماء القادرين على التنبّؤ بالمستقبل والمحبّين للبشر،على خلاف الملك “زيوس”( Zeus) المجنون بالسلطه والعظمه والمحتقر للمعرفة والفكر.
ومن فرط حبّه للبشر سرق”بروميثوس” من الآلهة قبسًا من النّار- التي هي رمز للفكر الوقّاد- وإهداه للبشر ليتزوّدوا منه بالمعرفة والفكر، بما قد يجعلهم لا يدينون للملك زيوس بالولاء اللّامشروط . لأجل ذلك حكم عليه “زيوس” بأن يتمّ ربطه إلى إحدى صخور القوقاز فتأكل النسور كبده في محنة يوميّة متجدّدة، وذلك بعد أن تتشكّل له كبد أخرى في الليلة الموالية.
في سياق متّصل بهذه الأسطورة الإغريقيّة متعدّدة المضامين والدلالات، كثيرا ما تساءلت عن سرّ العلاقة العدائيّة والمتشنّجة التي كثيرا ما طبعت التواصل ما بين المفكّرين والعلماء والأدباء المسلمين، العرب منهم وغير العرب، وبين الحكّام والشيوخ الفقهاء والأصوليين على مدى تاريخ الحضارة الإسلامية. وهي العلاقة التي تكاد تكون رهابا. كما أنّها تتماهى في حدّة عدائيتها بعلاقة الحداثيين بالإسلاميين التي نعايشها اليوم ونلمس تجلّياتها في التجاذبات السياسية والخطابات المتشنّجة والناريّة لهذا الطرف أو ذاك في كافة أرجاء الوطن العربي دون استثناء، لا سيّما بعد وصول الإسلاميين إثر إندلاع الثورات العربيّة، إن عن طريق الاقتراع أو عن طريق السلاح، إلى سدّة الحكم، في كلّ من تونس، والمغرب، والأردن، وليبيا ومصر.
وما يمكن استقراؤه تاريخيّا، كإجابة جزئيّة على هذا التساؤل الحارق وربّما المأزقي، القديم المتجدّد في حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، خلافا للحضارة المسيحيّة التي حسمت هذه العلاقة-منذ قرون- لفائدة العلماء، هو أن اختلاط الديني بالدنيوي إبّان الخلافات، الراشدة وغير الراشدة، جعل رجل الدّين، بما له، في الماضي البعيد، من سلطة سياسيّة أو نفوذ في دوائرها العليا، يحاول محاصرة المفكّر والعالم، في غير العلوم الدينيّة، والتضييق عليهما فيما يشبه الاحتكار لسلطة إقرار المعرفة ومصادرتها إن هي خرجت عن دائرة اليقينيات التي يسلّم بها الفقيه ولا يقبل حتّى مجرّد التشكيك فيها. وهي التي لا تزعزعها المجادلات الفكريّة الخالصة المتعدّدة الأبعاد والمتمرّدة أبدا على الشكل المسطّح ذو البعد اليقيني الواحد الذي يرومه الفقيه ولا يقبل ضمنه غير اليقين وامتلاك الحقيقة القطعيّة والنهائيّة. وهو البعد الذي يغيب و ينعدم فيه الحضور المتعدّد للمسالة الواحدة صوابا وخطأ.
غير أنّ المفكّرين العرب و المسلمين عموما، وفي سياق وعيهم بالحريّة وتوقهم إلى تنسّم عبقها وممارسة الفكر الحرّ بوصفه تبدّيا لها، كانوا بقدر ما تمتدّ حريتهم على مساحة واسعة بقدر ما يكتسب فكرهم دفقا ووهجا علميّا، بل ورؤية موضوعية فلسفيّة للموضوع الذي يشتغلون عليه. ممّا قد يجعل أفكارهم متقدّمة على أزمنتها، أو يكون منجزهم، إبداعا مغايرا وجديدا أو لعلّه فتحا علميّا مدويّا، يكاد أحيانا أن يغيّر وجه العالم ويعصف بالمسلّمات لتنقلب رأسا على عقب. وهو ما كاد يبلغه ابن الشّاطر في علم الفلك، في خصوص دوران الأرض حول الشمس، قبل كوبرنيك بأكثر من قرن.
ولا تعني الجدّة هنا أن يكون الإنتاج الفكري- علما أو أدبا- لم يتطرّق إليه أحد فحسب، بل يعني كذلك -وهو الأهمّ – أنّ الموضوع أو الفكرة قد صيغت بشكل مغاير عن السائد. وفي هذا المضمار يقول أكبر الشعراء الألمان “غوته”Goethe )): »ليس الشعراء الكبار شعراء كبارا لأنّهم ،أتوا بأشياء جديدة، وإنّما هم شعراء كبار، لأنّهم أبرزوا الأشياء كما لو أنّها تظهر لأوّل مرة«. وهو ما يختلف مع المفهوم السائد للتجديد، من حيث هو تطوّر وليس إعادة قديم كان، وإنّما هو عمليّة خلق جديد لم يكن من قبل.
هذا النزوع الطبيعي إلى الحريّة عند الممارسة الفكريّة، لدى المفكّرين العرب والمسلمين المستنيرين، أدّى بهم في كثير من الأحيان إلى اجترائهم على اقتحام، المناطق المحرّمة، بما هي تجاوز لخطّ التماس لدى الفقهاء الذين يتسيّدون الجمود -وهي ليست بالضرورة كذلك من الناحيّة الشرعيّة ولكنّها الأصوليّة والظلاميّة المتشدّدة ذات التوجّهات التقليديّة المتكلّسة في تخلّفها ونظرتها للحياة.–.
وهنا يحدث التصادم العنيف بين من يحمل فكرا مستنيرا يسنده فعل النقد ومن ينقله عن غيره بالحفظ الببّغائي والإجترار، دون فهم ولا تدقيق وتمحيص، ودون تحرّ علمي صارم، فيحدث التناحر والقطيعة والعداء ثم العقاب الشديد، الذي يكون دوما على حساب المفكّر أو العالم أو الشاعر والأديب. غير أنّه وإحقاقا للحقّ، وحتّى لا نغمط الفقهاء والشيوخ حقوقهم فأنّ هذا المفكّر الحرّ الذي نعنيه، كثيرا ما يكون هو ذاته فقيها أو قاضيا شرعيّا أو إماما عقلانيّا معتدلا غير متشدّد.
إنّ تاريخنا – للأسف- حافل بالأمثلة العديدة من الفصول السوداء ضدّ العلماء والمفكّرين. وسنكتفي في هذه العجالة بالتعرّض لبعضها فقط لضيق المجال أوّلا، وتجنّبا للجهاد من غير خصم، بتعبير الفقهاء،ثانيا، ودون إعتماد الترتيب التاريخي لحدوثها، ثالثا.
وأستهلّ ذلك بمحنة ابن رشد لأنّي أعتبره -عن جدارة- أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربيّة الإسلاميّة على مدى تاريخها المديد. فهذا المفكّر الفذّ، الذي حفظ موطأ مالك ودرس الفقه والعقيدة كما يدرسها فقهاء عصره، ودرس الفلسفة بعمق ممّا جعله يشرح كل التراث الأرسطي العظيم بما جعل فكره مهيمنا على برامج الجامعات في أوروبا القرون الوسطى وحتّى نهاية القرن السادس عشر. حتّى أنّ الفيلسوف الإيطالي “بيترو بمبوناتسي”(Pietro Pomponazzi) أسّس مدرسة عرفت باسم “المدرسة الأرسطيّة الرشديّة ، إضافة إلى ورود اسمه(في الجحيم) في الكوميديا الإلهيّة ل”دانتي” (Divine comédie de Dante) مع زمرة من الفلاسفة العظماء الذين إمّا أنّ المسيحيّة لم تدركهم أو أنّهم لم يعتنقوها.
ورغم أنّ ابن رشد الذي يقول إنّ الحقّ لا يضاد الحقّ بل يوافقه ويشهد له، ويرى أنّ الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها ، و لا يرى تعارضا بين الدين و الفلسفة ، فإنّه اتّهم من قبل شيوخ الفقه بالأندلس في عهد ملوك الطوائف، بالكفر والإلحاد، وحرقت كتبه وجميع مؤلّفاته الفلسفيّة كما منع من الاشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدى الطبّ. ثمّ أبعد وهو شيخ في السبعين من عمره إلى قرية “الليسانة ” بالمغرب التي كان أغلب سكانها من اليهود فعاش فيها معزولاً وتوفّي بها غريبا. وهذا دليل صارخ على غربة المفكّر بين أهله وذويه في الدول المتخلّفة التي تعادي العلم والفكر الحرّ، في الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى تثمينه و تنميته. يقول ” برتراند راسل” (Bertrand Russell)في هذا السياق: »لو كان الأمر بيدي لعرضت على عقول الأطفال أكثر الآراء تباينا حتّى أنمّي عندهم ملكة النقد« . و بديهي أنّ أهميّة العقل النقدي اليوم وحاجتنا إليه لا تحتاج إلى دليل، بعد أن منحنا عقولنا إجازة مفتوحة منذ عصر المماليك الشراكسة، فما زادتنا إلّا خمولاً وسباتاً وانتكاساً وانكفاءً. بما جعلنا نسير، منذ قرون، بعكس اتّجاه الحضارة، وندفع بمجتمعنا إلى هاوية من الظلام والتخلّف لا قرار لها.
ولعلّ ما حدث لإبن رشد يذكّرنا بقرار اللعنة الذي صدر ضد المفكر الهولندي اسبينوزا، وقد جاء فيه**
(بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصبّ دعاءنا على باروخ اسبينوزا.. وليكن مغضوباً وملعونا، نهارا وليلا وفي نومه وصبحه، ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما.. وأن لايتحدّث معه أحدا بكلمة، أو يتّصل به كتابة، وأن لايقدّم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لايعيش معه أحد تحت سقف واحد، وأن لايقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وأن لايقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانه).
أمّا المثال الثاني فيتعلّق بالكاتب الفارسي “روزبه بن دادوبيه” الذي عرف بعد إسلامه بعبد الله إبن المقفّع وتكنّى بأبي محمّد. وتميّز بجمعه بين الثقافة العربيّة والفارسيّة واليونانيّة والهنديّة وأظهر عيوب النُّظُم الإداريّة في عصره وفضّل النظم الإداريّة الفارسيّة عليها. و قد خلّف لنا، علاوة على أقواله الدّالة على تديّنه الشديد، آثارا كثيرة منها كتاب “كليلة ودمنة” منقولا عن الهنديّة، الذي يشهد له على سعة عقله وعبقريّته بما حواه من الحكم على لسان الحيوان، ما جعله صاحب المدرسة الرائدة في النثر.
إلّا أنّه، ورغم اختلاف الروايات، فإنّه سواء بسبب كتابته لوثيقة سمّاها رسالة الصحابة وأبدى فيها رأيه في إصلاح الحكم أو لكتابته ميثاق الأمان بين الخليفة “أبو جعفر المنصور” وعمّه المتخاصم معه الذي انحاز إليه إبن المقفّع، فقد أغاظ المنصور فامر بقتله. وممّا جاء في هذا االميثاق: » إذا أخلّ المنصور بشرط من شروط الأمان كانت نساؤه طوالق، وكان النّاس في حلّ من بيعته« ،. يقول إبن خلّكان متحدّثا عن ذلك، إنّه لمّا ألقى عليه القبضَ سفيان بن معاوية والي البصرة، قال له: » أنشدك الله أيّها الأمير في نفسي. فقال أمّي مغتلمة*( أي عاهرة ) إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنّور فسجر، ثم أمر بابن المقفّع فقطعت أطرافه عضواً عضواً، وهو يلقيها في التنّور وينظر حتّى أتى على جميع جسده، ثمّ أطبق عليه التنّور وقال: ليس عليّ في المثلة بك حرج لأنّك زنديق وقد أفسدت النّاس«. وفي رواية أخرى قيل إنّه أكره على أكل جسده مشويًا حتى مات وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين.
وأمّا المثال الثالث فيتعلّق بالطبيب الفيلسوف الرازي الذي يعتبر الطبيب الأوّل في التّاريخ الذي أوجد “التدوين السريري” في تاريخ الطب في العالم. وقد اعترف الغربيّون بفضله على الطب وأشادوا به في غير كتاب على أنّه فصل رائع من فصول الطبّ العربي الإسلامي والعالمي. إلّا أنّه أتّهم بالكفر من قبل الغزالي في كتاب “تهافت الفلاسفة” ، و ضربه منصور بن نوح أحد ملوك السامانيّة على رأسه بكتاب في الكيمياء وضعه الرازي بطلب منه، إلى أن تقطّع، وهو ما سبّب له نزول الماء في عينيه. وسبب ذلك أنّ الرازي، لم يكن باستطاعته وضع النظريات الواردة في الكتاب موضع التجربة كما أراد ذلك منصور بن نوح الذي أعتبر الكتاب، عندئذ، مجرّد كذب يستوجب العقاب الشديد.
نكتفي بهذه الأمثلة التي توسّعنا فيها، وهي ليست إلا غيض من فيض، ونمرّ سريعا على بعض الأمثلة الأخرى دون أن نتوقّف عندها طويلا، حيث أنّنا إن ننسى فلا ننسى محنة كل من سفيان الثوري الذي عاش مطاردا زهاء السنة، و حسن البصري الذي كاد يعدمه الحاج بن يوسف، والإمام مالك الذي جرّد من ثيابه وضرب بالسياط حتّى انخلعت كتفه، و الإمام أحمد بن حنبل الذي قيّد بالأغلال وكان يُضرَب ضرباً مبرحاً حتّى يغشى عليه ثمّ يتجدّد ضربه في اليوم الموالي. وجمال الدين الأفغاني الذي أتّهم بالكفر و هاجمه الوعّاظ وأئمّة المساجد حتّى اضطرّ إلى مغادرة الأستانة . وعبد الرحمان الكواكبي الذي قال » إنّ الاستبداد محنة للعقل والأخلاق« فعانى مضايقات عديدة من السلطة العثمانية وعلي عبد الرازق ، صاحب الكتاب الشهير “نظام الحكم في الإسلام” الذي أنتزعت منه شهادته العلميّة واوقفوا عنه راتبه، وناصر حامد أبو زيد الذي اعتبر مرتدّا عن الإسلام وطلّقوا زوجته منه فاضطرّ إلى اللجوء معها إلى هولندا… ومازالت القائمة طويلة بل وطويلة جدّا من المفكّرين الاجلّاء الذين لا حقهم سيف “ديموكلاس” ، فيما كان من المفترض إيلاؤهم التبجيل والتقدير الذي يستحقّون وليس التحقير و المطاردة والإهانة والتعذيب من قبل الجهلة الذين يناصبونهم العداء. ولكنّ الذي لا جدال حوله ولا يختلف فيه إثنان، هو أنّ هذه المحن لا تعيب هؤلاء بل تزيدهم إجلالا في عيون النّاس فيما تسبّب التحقير والسخريّة ممّن بطش بهم. ولعلّ ذلك ما عبّر عنه الإمام الشافعي، وهو أحد المتضرّرين من سطوة السلطة والسلطان، بقوله :
لا تأسفنّ على غدر الزمان لطالما… رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبنّ برقصها تعلو على أسيادها… تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب
تموت الأسود في الغابات جوعا … ولحم الضان تأكله الكلاب
وذو جهل قد ينام على حرير … وذو علم مفارشه التراب
———————-
* يقال أنّ ابن المقفّع شتم سفيان ابن معاوية قبل أن يغضب عليه الخليفة أبو المنصور وقال له يا “ابن المغتلمة” أي يا ابن الفاجرة. وهو ما جعله حانقا عليه ينتظر فرصة الانتقام منه
** من كتاب (قصة الفلسفة) ويل ديورانت