*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
ثمة الكثير من الثيمات المتشارَكة بين الشعر الإيروتيكي والديني.. وبخاصة في ميدان الاحتفاء بالحرية الناتجة عن التسليم والتكريس الكامليْن
هل الحبّ حرّية أم عبودية ؟
ثمة الكثير من الثيمات المتشارَكة بين الشعر الإيروتيكي والديني ، وبخاصة في ميدان الاحتفاء بالحرية الناتجة عن التسليم والتكريس الكامليْن : يوظّف جون دَن John Donne هذه المفارقة في مخاطبة كلّ من حبيبته وإلهه إذ يكتب في قصيدته الإيروتيكية الذائعة الصيت : ” أن تضعَ هذه القيود في يديك، يعني أن تكون حرّاً ” ، ويعيد التعبير عن الفكرة ذاتها في واحدة من قصائده الدينية الجليلة المميزة التي تخاطب الإله ” خذني إليك ، قيّدني بقيودك ، لأنك مالم تحكم وثاقي بك فلن أكون حرّاً أبداً “. إن مفردة (تُحْكِمُ وثاقي enthrall) لايُراد منها في هذا الموضع معناها الحداثي الذي يقصَد منه (تجعلني مشدوهاً بفتنتك الآسرة) بل أن المعنى الأصلي المطلوب في النص هو (تستعبِدُني).
لكن كيف يستقيم كونك مستعبَداً مع كونك حراً ، وبمعنى أدق : كيف يمكن لاستعبادك أن يجعل منك امرءاً حرّاً ؟ لو كنتَ حراً فلن يكون بمقدور أي مرئ آخر أن يملي عليك مايتوجب فعله ، وستكون إرادتك حرة متى ما كان دافعها إلى الفعل ينبعث من داخلك أنت لامن أية قوة أو إرادة خارجية غريبة عنك . أنت حرّ متى مايكون متاحاً أمامك أن تفعل ماتشاء ، ولكن ما يوهن إرادتك على الفعل أحياناً هو أنك لاتعرف ماتريد فعله بالضبط : أنت مثلاً لاتستطيع أن تطلب شيئاً فحسب بمقتضى إرادتك عندما لاتجد هذا الشيء جذاباً لك مثلما لاتستطيع اتخاذ قرارٍ بالإيمان بشيء ما تعرف تماماً أنه ليس أكثر من أكذوبة بيّنة . يمكن القول في خاتمة الأمر كله أن تفضيلاتك ورغباتك تنشأ من العمل المشترك لجيناتك وتنشئتك وليست لك أية سيطرة على الأولى ( الجينات ) وربما القليل فحسب من السيطرة على الثانية ( التنشئة ) ، وإن رغباتك موضوعٌ يخصّك أنت وحدك بصرف النظر عن منشئها الأصلي ، وعلى نحوٍ مشابه يمكن القول أنك إذا استأنسْت بكل جوارحك إلى رغبات امرئ آخر فستكون رغباتك أمراً خاصاً بك أنت وربما ستشعر حينها براحة عظمى تغنيك عن مشقة الاختيار بين الممكنات المتاحة ، وعندها سيكون انجذابك الآسر تجاه ذلك المرء بمثابة الحرية العظمى المتاحة أمامك.
إذا ماحصل وكنتَ أنت سعيداً بهذا الأسر الفاتن الجميل ، فكيف سيكون الأمر مع من تحِبّ ؟ يسعى المحبون وراء أشياء عدّة : الثقة ، الحميمية ، التوافق العاطفي ، الرّفقة الطيبة ، الاهتمام المتبادل بشؤون الآخر ،،، وإن كل هذه المزايا مرغوبة بشدة في كل أنواع التعاطف والصداقة ، ولكن في الحب الإيروتيكي ثمة رغبتان إضافيتان طاغيتا القوة : الاكتمال بالآخر Consummation ، والتخلّد المؤبّد Perpetuation ، وتكمن الإشكالية المتوقّعة في أنّ هاتين الرغبتيْن تميلان إلى التنازع والتضاد مع بعضهما بسبب أنّ الاكتمال بالآخر يمثل نهاية – ومن هنا نشأت المشروعات الفنية المهووسة التي ابتغت تثبيت لحظة الحبّ الزائلة ومدّها للأبد.
إنّ مايفيد بكونه اكتمالاً بالآخر هو بالطبع أمر مختلف تماماً في الجنس وفي الحب ، ولكن ربما ليس مختلفاً كفاية : تعَدُّ ذروة النشوة الجنسية Orgasm هي مايمثل الاكتمال مع الآخر في الجنس ، أما في الحب فإن مايمثل الاكتمال نفترض فيه أن يكون الزواج الذي يُحسَبُ شكلاً من أشكال الحيازة والاستحواذ Possession ، ولجعل الزواج اكتمالاً بالآخر غالباً مايُصارُ إلى ختم الحيازة والتملّك بختم “العلاقة الجنسية” ، ومع هذا فإن فكرة الحيازة أو التملك لاتبدو متوافقة مع فكرةٍ أخرى تقول أن موضوع حبّ شخصٍ ما هو شخصٌ آخر ( وليس شيئاً محضاً ) بعد أن يتفق الشخصان على أن يتبادلا الحب بكل حرية في حين أن التملّك هو علاقة سيّد بخادمه . وقد أشار الفيلسوف هيغل بطريقة رائعة إلى هذه الموضوعة ( في واحدة من لحظات إشراقه النادرة ) عندما كتب عن وجود إحساسٍ متنامٍ بأن العبودية لاتحدّ من حرية العبد فحسب بل تحدّ من سلطة سيّده في الوقت ذاته لأن السيد متى ما أراد المضي إلى آخر أشواط الاستمتاع بالتقدير والاحترام الذي يكنّه العبد إزاء سلطة السيد المتفوقة فإن السيد ينبغي أن يرى تلك المزايا الممنوحة له من قبل خادمه وهي مقدّمة بكامل حريته وبمحض إرادته – وذاك أمر غير متحقق بالطبع وبالتالي تُنتقصُ قدرة السيد في التلذذ بسطوته لأن تقديم فروض الاحترام والطاعة متى ما اقترن بالقسر سيكون عديم القيمة حتماً ولايعتدُّ به أبداً ، وهنا نخلص إلى القناعة بأن الإحساس الكامل بإمكانية أن يتملك شخصٌ ما كائناً إنسانياً غيره تبدو مسألة مستحيلة التحقق حتى على صعيد الرقّ . من المؤكّد سيبدو الأمر أكثر دقة وصحّة مع الحب : إذا لم يُمحَض الحبّ بطريقة حرّة فسيكون صعباً للغاية عدّه حبّاً.
يترافق التملّك دوماً مع الخوف من الخسارة والفقدان ، ويترافق كذلك مع الحث المستديم لاتّخاذ وضعية الدفاع عن ملكية الفرد . لكن ماهي المِلكيّة ؟ إذا ما امتلكْتَ شيئاً ما يكون مشروعاً لك دوماً الإستمتاع به أنى شئت ، ولكننا في واقع الحال نستمتع بالكثير من الأشياء من غير أن نمتلكها ، مثلاً : الشمس ، البحر ، جماليات الطبيعة ،،،،،، . إن المؤشر الدال على الملكية لايكمن في الاستمتاع بل في امتلاك حق الاستبعاد Exclusion ، وهنا تكون الغيرة Jealousy هي الحارس العاطفي الملازم لحق الاستبعاد هذا ، ويميل الكثير من الناس إلى اعتبار الغيرة سليقة فطرية . وكما سنرى في الفصل السادس من هذا الكتاب فإن السايكولوجيا التطورية توفر الحكاية المعيارية التي تكشف لنا كيف تعمل الغيرة في حياتنا ، وبقدر مايختص الأمر بتأثير الغيرة في الحب – وعلى النقيض من سطوة الالتزامات التي تفرضها التعاقدات الشكلية وغير الشكلية معاً – فإن الغيرة غالباً ماتأتي بنتائج مغايرة لما نطمح إليه : فهي في الغالب تعرض نفسها من خلال الشك الذي لا أساس راسخاً له أو في المزاج السيئ أو المراقبة التطفّلية ، وأحياناً في العنف الخارق لسطوة القانون وحينئذ يكون العنف مستوجباً للعقاب اللازم . يرى الكثيرون في مثل هذه السلوكيات سبباً كافياً بذاته لعدم الوقوع في الحب : ألن تفضّل أنت أن يجتني محبّك السعادة من صحبتك معه بدلاً من تعريضه لحالة الخوف والاشمئزاز من إمكانية انخراطك في إمتاع امرئ آخر غير من تحِبّ ؟ وإذا ماشاء المحبوب الاختيار بين هاتين العلامتيْن المميّزتيْن للحب : المتعة بالمحبوب ، والتألم بشأن المتع التي يسعى هو وراءها فإن من المؤكد أن السمة الأولى هي التي ستحوز على تعاطف المحبوب.
مع كل مامر ذكره فغالباً مايتم النظر إلى الغيرة باعتبارها سمة طبيعية وصائبة من الوجهة الأخلاقية : إن الغيرة التي يُبديها محبوبك يمكن اعتبارها برهانا مثيرا يخصّ قدرته على الرغبة فيك والتي يكتنزها داخله إزاءك ، وحتى في تلك الحالات التي يُستنكَرُ فيها العنف المقترن بالحب فإن الغيرة تعدُّ في معظم الحالات سبباً كافياً للسلوك السيئ الذي تحفزه الغيرة ذاتها . إن مثل هذه التوجّهات السلوكية تنشأ من الافتراض بأن العواطف العدوانية المرتبطة بالغيرة لايمكن دفعها أو ردّها وهي في صميم طبيعة الحب ، وربما على كل حال يحتكم من يفترض هذا الافتراض في الأقلّ إلى أيديولوجيا بعينها تحكم قبضتها عليه وتدفعه للاعتقاد الجازم بأن الجنس لايستقيم إلّا مع التملك والعنف ومن غير حدود معلومة.
______
*المدى