في الحب وأحجياته(6)


*لطفية الدليمي


يلعب الحب أهمية كبرى في حياتنا بسبب قدرته على جعلنا نتحرّك.. ونشعر.. ونفكّر.. ونأتي بأفعال جديدة لم نأت بأمثالها من قبل.. وفي أسوأ التقديرات فإن الحب قادر على دفعنا لأن نكون في أفضل حالاتنا أحياناً
للكاتب الفيلسوف “رونالد دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015

هل يفسد الحبّ نقاء الجنس؟ 
إذا كان الحب الذي لايُمنَحُ بحرية كاملة عصياً على وصفه ” حباً حقيقياً “، فإن أي شكل آخر من أشكال الحبّ يُراد له تحقيق غرضِ ما غير الحب الخالص لذاته سيكون إنحرافاً محضاً ومحتّماً عن فكرة الحب وتشويهاً منفراً لها ، ويصحّ هذا القول على الحب الذي يراد له أن يكون محض وسيلةٍ للحصول على الجنس وهو مالايصحّ وصفه حبّاً أيضاً . ولكن من جانب آخر فإن من الأمور التي قلما تمت ملاحظتها والتدقيق فيها أنّ الأمر المعكوس هو صحيح أيضاً : من الأمور الذائعة الشيوع على نحوٍ جماهيري واسع أن الجنس يكون في أفضل حالاته وأشكاله متى ماعزّزه الحب ودفعه إلى الإرتقاء ، ولكن كيف يحصل هذا التعزيز والإرتقاء ؟ فيدروس Phaedrus : تلك الشخصية التي تظهر في إحدى المحاورات الأفلاطونية التي تحمل إسمها – كان الأول ( ولن يكون الأخير حتماً ) من بين الذين رأوا أن ممارسة أفضل أشكال الجنس وأكثرها رقياً تكون عندما يتجنب المرء الإنخراط في أية علاقة جنسية مع من يحبّ ، وأضاف فيدروس أن التوافق الجنسي لايحصل إلا بين أصدقاء يتشاركون المنافع المتبادلة في حين أن الإحتياجات التبادلية للمحبين قلما تكون في حالة من التوافقية الكاملة وحينها يغدو المحبّ مصدر إزعاج وتشويش لحبيبه !! ولكن يبدو أن السبب الأكثر قبولاً اليوم يكمن في أنك لاتشاء أن تكون مرغوباً فيك أو تغمرك المتعة والنشوة لأجل غرضٍ ما ( سواء في الجنس أو في المحادثات الحميمة ) حتى لو كان ذلك الغرض هو أن الآخر يحبّك . 
الحبّ هو ” الدافع الخفي والنائي ” بقدر ما يختصّ الأمر بالجنس ، وفي المخاض الناجم عن العشق والتولّه بالآخر فإن الرغبة الجنسية العارمة تعدُّ أمراً مسلّماً به ، ولكن أشكال الحب الأخرى ( التي قد تنال مكافأة أكثر من العشق والتولّه ) تدفع الناس دفعاً للإتيان بكل الأشكال الممكنة من الأمور غير المستحبّة : لو كنتَ أنت مريضاً وفي وضعية تدعو للإشمئزاز فقد أختارُ طائعاً وبمحض إرادتي أن أمحضك عنايتي الفائقة لأنني أحبّكَ وليس لأجل أنني أجد أمر العناية بمريض متعبٍ تبعث حالته على الإشمئزاز أمراً ممتعاً لنوازعي الجوانية . إن هذه الفكرة ذاتها قد تقدح شرارة الشكّ إذا مازعمتُ أنني أمارس الجنس معك لأنني أحبّك : ففي الجنس كما في الحب ( مثلما قد نُدفَعُ دفعاً للإستنتاج ) إنّ أي سبب نفترضه هو سبب خاطئ في نهاية المطاف ( وهو مايكافئ القول جرياً على السياقات الفلسفية السائدة أنّ كلاً من الحب والجنس قيمة ميتافيزيقية غير مُسبّبة ، المترجمة ) . 
إن الدوغما الشائعة من أن الحبّ يكون في أعظم أشكاله نقاءً حين لايلوّثه الجنس تقابلها قناعة تكافؤها في القوة وهي جديرة بالتصديق والقبول : يمكن لنا أن نثق في أن الرغبة الجنسية تكون شهوة خالصة طالما بقيت غير مشوبة بالحب ، وفي الحب كما في الرغبة الجنسية فإن الحرية المتاحة أمامنا تستوجب نقاوة الهدف البؤري الذي نسعى إليه – إذ مثلما أنك قد تتوجّس خيفةً من أن يكون أحدٌ ما يحبك لأجل الجنس وحسب وهو لايحبك في حقيقة الأمر فإن الشك قد يعتريك بأنّ من ينغمس معك في الجنس من غير حبّ ( ومن غير أن يكون عاشقاً متولّهاً بك ) قد يكون في حقيقة الأمر غير راغبٍ فيك .

إذا ماتوقّفنا أمام كل الأحجيات والمفارقات التي تلازم مفهوم الحبّ فليس ثمة مقاربة وحيدة بذاتها تكفي لأن ننتهي معها إلى قناعة مقبولة بمفهوم الحب ، ويتوجّب علينا دوماً أن نعاين الحبّ من جوانب عدّة مختلفة : ثمة الكثير للغاية من الطرق التي يمكن بوساطتها مقاربة الحبّ مثلما يوجد الكثير من النماذج ( الموديلات ) والمقايسات التي يمكن لمفرداتها أن تعيننا في توصيف الحبّ ، وسأعمل على تقديم نوعٍ من الدراسة المسحيّة للبعض من أحدث النظريات الخاصة بالحبّ والمستندة على النظرية التطورية ، أو السايكولوجيا ، أو السوسيولوجيا ، أو العلوم العصبية ،،، وسأطرح أسئلة بشأن مايمكن أن نتعلمه من تلك النظريات ، ولكن دعوني اوّلاً وقبل كل شيئ أتناول مثالاً جيّداً عن كمّ الإنتقائية المفاهيمية السائدة في نظرية الحبّ وهو الأمر الذي يدفعني للإعتماد على تركيبةٍ مدهشة من السذاجة والعمق السائديْن في نصّ كلاسيكيّ تحدّر إلينا من العهود الغابرة – وأعني بهذا النص ندوة أفلاطون الذائعة الصيت Plato”s Seminal Symposium التي أطبقت شهرتها الآفاق .
وجهات نظر
لأنّ كل هذا الجمال الذي يحتويك 
ليس سوى الثوب الذي يبعث البهجة في قلبي
الذي يحيا في صدرك مثلما يحيا قلبك في صدري
فلاتتوقّع البتة إذن أن تستعيد قلبك عندما يُذبَحُ قلبي
أنت منحتني قلبك ولم يعُد متاحاً لك أن تستعيده منّي ثانية 
شكسبير ، السونيتة 22
الندوة Symposium هي حفلة لتناول الشراب، وقد حافظ الإغريق القدماء دوماً على دهائهم عندما ظلّوا حكماء بما يكفي ولم يقبلوا تخفيف النبيذ الذي يتناولونه بالماء . في إحدى المساءات المخصّصة للنقاشات المعقودة تحت لواء الندوة الأفلاطونية عزم أفراد الحفلة أن يتحدثوا الواحد تلو الآخر في الثناء على الحب وكَيْل المديح له ، ولازالت تلك المحاورات تبدو طازجة لنا اليوم ومليئة بالحيوية وتمثل وجهات نظرٍ عدّة لم يعدم المفكرون الحداثيون من توظيف بعضها في تحدي الإستئثار الطاغي والإنفرادي للشعر والأدب تجاه موضوعة الحبّ المراوِغة .

الحبّ والطبيعة : الجيّد والسيّئ
فيدروس ، المتكلّم الأول في الندوة – الحفلة ، يمتدح سطوة الحب القادرة على دفع المرء إلى مراتب الخير والفضيلة . الحب يرتقي بالشخصية الإنسانية ، ومفردة ” الشخصية الإنسانية ” هنا تستخدَمُ بطريقتيْن – تخدم في الأولى كمفردة توصيفية تشير إلى مايمكن لنا أن نتوقّعه من أفكار المرء وقيمه وسلوكه ، وتستخدَم المفردة ذاتها أيضاً على سبيل الثناء والمديح : فعندما يُقالُ عن إمرئ ما أنه ” شخصية إنسانية ” فهذا يعني نوعاً من المركزة الباعثة على الدهشة والإحترام لكينونته وبالتالي جعله موضوعاً جاذباً من الناحية الجمالية . إن أي إمرئ يحوز ” شخصية إنسانية ” يكون في العادة جديراً بالإعتماد عليه ويمتلك قدراً معقولاً من الإنضباط الذاتي ، وبالتالي يكون مستحقاً للمديح والثناء من الناحية الأخلاقية . إن الناحيتيْن الجمالية والأخلاقية في مقاربة الشخصية الإنسانية كانتا كلتاهما مستخدمتيْن وعلى نحوٍ ضمني في المعادل الإغريقي لمفردة ( السيد المحترم Gentleman ) التي تقابلها بالإغريقية مفردة Kalos K”agathos والتي تعني ( الأنيق والمنطوي على سماتٍ جيّدة ) . 
مضت الإنطلاقة الأولى للمحاورة بشأن الحب في التأكيد على أن الحب أمر جميل وجيّد معاً . لم تكن تلك الثيمة قد قيلت على لسان القديس أوغسطين Augustine الذي إكتفى بالقول ( إنغمِسْ في الحبّ ثم إفعل بعد ذاك كل مايحلو لك ) ، كما أن ذات الثيمة تختلف تماماً عن العبارات المعاصرة التي تُقالُ جزافاً ومن غير إعمال نظر معقول ( كليشيهات Cliche ) والتي من بينها ( كلّ مايحتاجه المرء هو الحبّ ) . يلعب الحب أهمية كبرى في حياتنا بسبب قدرته على جعلنا نتحرّك ، ونشعر ، ونفكّر ، ونأتي بأفعال جديدة لم نأت بأمثالها من قبل ، وفي أسوأ التقديرات فإن الحب قادر على دفعنا لأن نكون في أفضل حالاتنا أحياناً – أحياناً فحسب.
__________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *