في الحب وأحجياته(3)



*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القسم الثالث

يود المحبوب دوما أن يكون محبوباً بفعل أسباب صحيحة ومعقولة ، ولكن ماهي تلك الأسباب التي لأجلها نُحِبّ ؟؟؟
إن الانجذاب إلى شخصٍ ما أمر يختلف تماماً عن القدرة على حب ذلك الشخص
ربما كان انسحارك بمن تحب يعتمد على عوامل تؤثر فيك أنت بسبب حوادث وظروف تتعلق بحياتك الشخصية وطبيعتك الخاصة
للكاتب الفيلسوف “رولاند دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015
مامقدار الذاتية في الحبّ ؟؟
إن الصعوبة المقترنة مع تحديد مدى الأشياء التي يمكن أن يطالها الحب قد تثير الشك في أن المحِبّ هو ذاته من يختلق تلك الأشياء اختلاقاً ، وبالرغم من الفروقات الفردية فإن الكثير من أحكامنا هي ممّا نتشاركه على نطاق واسع – مثلاً في كل الفروع التي تتناولها الرياضيات ( باستثناء شديدة الغموض والتعقيد منها ) ليس ثمة فسحة للقول “أنا أفهم تماماً ماتقصده ولكني لاأوافقك القول” : ففي كل الظواهر الفيزيائية والتوضيحات المتعلقة بها يمكن أن نشهد عدم قبولٍ ومجادلات مكثفة وذاك أمر عادي تماماً ، ولكننا نتوقع انبثاق إجماعٍ علمي في خاتمة الأمر ، ومتى ماتمّ فض النزاعات بشأن تلك المجادلات فإن هذا يؤكد قناعتنا بأن تلك النزاعات تشير إلى حقائق موضوعية مختلفٍ عليها . يمكن لنا أن نتشارك وعلى نحو عظيم الأثر استجاباتنا العاطفية – الاشمئزاز ، الإعجاب ، الغضب ، الخوف ،،،،، ولكن لايبدو أن هذا الأمر يصدق على الحب : قد يُحسَبُ مثلاً بعض الأفراد جذابين أو مثيرين من قبل ملايين الأفراد غيرهم وهذا مايدفع إلى القول بأن ثمة ماهو ذاتي بشأن نزعة الإنجذاب والإعجاب بالآخرين . إن نزعة الإنجذاب إلى شخص ما أمر تختلف تماماً عن القدرة على حب ذلك الشخص ، ويبدو الحب الإيروتيكي لبعض الناس أمراً نادر الحدوث للغاية بل حتى قد لايحصل على الإطلاق خلال حياة المرء بأكملها ، وفوق ذلك فإن المرء لايتوقع في الحب – ولايرحّب أبداً بِـ – اكتشافه أنّ مَنْ يحبّ هو ذاته موضوعٌ لحب إيروتيكي شغوف جارف يُبديه ملايين الآخرين تجاهه أيضاً . 
هل ثمة ما يمكن أن يوجد بطريقة موضوعية في مَنْ تحبّ بحيث يستحوذ على حبّك كله ؟ إذا ماحصل ووُجِد ذلك الشيء فهو يفعل أفاعيله الساحرة عليك أنت وحسب وربّما في البعض القليل الآخر من منافسيك المحتملين . ولكن ألا يمكن أن تصف مُنافسيك من جانب آخر بأنهم ذوّاقة مميزون يتشاركون معك ذوقك الرفيع ؟ ربما كان انسحارك بمن تحب يعتمد على عوامل تؤثر فيك أنت بسبب حوادث وظروف تتعلق بحياتك الشخصية وطبيعتك الخاصة – كأن يكون تماثلاً بين محبوبك وبعضٍ ممّن أسهبوا في العناية بك ومحضوك خالص رعايتهم واهتمامهم وأنت لمّا تزل يافعاً بعدُ ، ولكن هذا التماثل لن يوفر البرهان الحاسم بأن خياراتك في تحديد من تحبّ هي ذاتية خالصة إذ قد يحصل وبفعل الصدفة المحظوظة فحسب أن يكون من يمحضك عنايته الفائقة هو ذاته من يحوز الحب وبطريقة موضوعية للغاية من قبل الآخرين . إن كلّ أم مستجدّة في طور أمومتها تشابه إلى حد بعيد تيتانيا Titania في المسرحية الشكسبيرية ” حلم منتصف ليلة صيف Midsumme Night’s Dream ” A”
بعد أن صُبّت جرعة دواء سحرية في أذنها ، إذ أن كل أم مستجدة الأمومة تبدي انجذاباً كيميائياً يدفعها للارتباط مع الطفل الذي تراه بعد ولادتها مباشرة . 
بصرف النظر عن حجم الحقيقة الكامنة وراء هذا الأمر فإن المدى الذي يبلغه الحب في الاعتماد على صفات المحبوب أو على ميول المُحِبّ يقود إلى تعريف طائفة واسعة من الاحتمالات الممكنة التي تتوزع مابين قطبي الذاتية والموضوعية : على الجانب الموضوعي قد يُقدح الحب بدفعٍ من تطلعاتنا الجوّانية الطامحة في بلوغ ماهو ” جميلٌ ” و ” خيّرٌ ” ، وعلى الجانب الذاتي المقابل يبدو أمر الحب كله معقوداً على الصدفة المواتية التي قد يجود بها لقاء أوّلي معقود حتى من غير إعدادات مسبقة . إن كلّ وليد جديد يشبه تماماً فرخ الأوز الذي مضى في اتباع عالم السلوك كونراد لورنز Konrad Lorenz بعد أن تأكّد الفرخ من أنّ رأس كونراد – وليس رأس الأوزة الأمّ – هو أول مارآه بعد فقس بيضته وخروجه منها إلى العالم الفسيح – وعند هذه النهاية المتطرفة من الطيف لاتبدو صفات المحبوب ذات صلةٍ بموضوعة الحب : وعلى اية حال فإن عالم السلوك يحوز على الخير والطيبة والحنان التي تحوزها الأوزة الأم !! .
لكن لو شئنا مصداق القول فإن النهايتيْن المتطرّفتيْن كلتيهما ( الذاتية والموضوعية ) تبدوان باهتتيْن : يربط الحب بين شخوصٍ بعينهم ، وكلّ من هؤلاء الشخوص هو كينونة فريدة ومميزة بالكامل عن الآخرين ( ليس ثمّة استعارة مجازية هنا . إن احتمالية مشاركة فرديْن للجينوم الوراثي ذاته – مالم يكونا توأمين أو مُخلّقيْن بوسائل الهندسة الوراثية المعروفة – هو أمر بعيد الاحتمال للغاية ويعادل في انعدام إمكانية تحققه الاحتمالية التي يمكن بها أن نُصيبَ جسيماً أولياً متناهي الصغر يجول بصورة عشوائية في الكون كله ) . لو كان الحب يمثل انعكاساً للصفات المميزة التي يحوزها أيّ فردين متحابيْن لتوجّب علينا حينئذ أن نتوقع طائفة افتراضية متنوعة لانهائية من أشكال الحب البشري ، ولكنّ مايدعو للعجب والدهشة بالفعل هو أن الفرادة المميزة والفاتنة التي يحوزها المحبوب مع مَنْ يحبه تبدو أنها تميل لاستعراض أنماطها في عدد محدود للغاية – وعلى نحو يدعو للاستغراب – من سيناريوهات الحب الشائعة . 
هل ثمة أسبابٌ تدعونا لأن نحبّ ؟
مع أن الكثيرين قد يلعنون السخف المطلق الذي ارتبط مع عواطفهم الشغوفة المبكرة ، غير أن آخرين كثيرين لن ينتابهم الفتور في التأكيد على أن ثمة أسبابا راسخة دفعتهم إلى الحب ، ولكننا متى ما أردنا ترتيب قائمة بتلك الأسباب فقد تبدو عرضة لحسبانها أسباباً تافهة وغير جدية وموغلة في الشخصنة إلى حد عصي على الإدراك . من جانب ، آخر يود المحبوب على الدوام أن يكون محبوباً بفعل أسباب صحيحة ومعقولة ، ولكن ماهي تلك الأسباب التي لأجلها نُحِبّ ؟
إن واحداً من الأجوبة الشائعة ازاء هذا التساؤل هو ” ان فلاناً يحبني بسبب كينونتي الخاصة – لكوني كما أنا ” ، ولكن عندما يسأل المُحِبّ المحبوب ( لِمَ تحبّني ؟ ) فإن محاولة الحصول على إجابة يمكن أن تكون متوجسة كمن يمشي على أطراف أصابعه في حقل ألغام : إن الأسباب التي يمكن أن يقترحها روميو ويراها تقف وراء حبه لجولييت ليست بالضرورة ذاتها التي ستختارها جولييت وترى فيها أسباباً كفيلة بجعل روميو يحبها . عندما يتغنى روميو وهو يتوقّد حماسة متفجرة بحبّ جولييت ويرى فيها مايماثل الشمس المشرقة فقد تعترض جولييت قائلة : ” قد أكون امرأة ساخنة لكنني لست ساخنة كما الشمس لامن قريب أو بعيد ،،، عندما أعزف أسكبُ روحي وأنا أداعب أوتار العود lute ، وأنت – ياروميو – قلّما تصغي لروحي العازفة ” . إلى جانب ذلك وبغض النظر عمّا تكونه الأسباب التي دفعت روميو للارتماء في حبّ جولييت فليس عسيراً البتة العثور على امرأة أخرى يمكن لها أن تحوز – بل وحتى تتفوق على – تلك الصفات التي امتلكتْها جولييت ، وحتى لو أنّ روميو لم يترك جولييت بحثاً وراء امرأة أخرى أكثر شبهاً منها بالشمس فإن جولييت سينالها تغيير شامل متى ماعرفت بوجود تلك المرأة – جمالها سيذوي ، وشعرها سيتساقط ، وروحها الجذلة المضيئة سيصيبها الجفاف في مقتل ، وعندها يمكن القول وعلى نحو منطقي للغاية أن روميو ماعاد مفتوناً بحب جولييت ، وحينئذ يبدو أن الأفضل من بين كل الحلول المقترحة هو أن يموت المحِبّ والمحبوب معاً ميتة مبكرة وهما في ريعان شبابهما – ذاك هو الحل الأنسب للمحبين الأسطوريين كما تُعلِّمنا الخيارات المتاحة.
______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *