*إسكندر الديك
«نشر هاينر موللر خلال حياته ديواناً واحداً فقط، لكنّ إرثه الأدبي جعل منه أديباً كلاسيكياً»… هذا ما كتبته الأديبة والصحافية الألمانية أنّيت غروشنر تعقيباً على اصدار الناشرة كريستين شولتس، وبعد تدقيق وتفتيش طويلين منها، كتاباً فريداً عن دار نشر «زوركامب» يضمّ في صفحاته الـ 675 الجزء الأكبر من أعمال الكاتب المسرحي والشاعر موللر الذي توفي بمرض سرطان الحنجرة في أواخر عام 1995 بعد أشهر على تسلمه إدارة مسرح «برلينر انسامبل» البرشتي.
والخبر الجيد لمحبيه، وهم كثر، أن الكتاب يضم 355 قصيدة ومسودات قصائد لموللر، وأعمالاً أدبية غير منشورة سابقاً، بل وأوراقاً صوّر عليها بخط يده افكاراً وصوراً مسرحية، وتجارب في التعبير الشعري والمسرحي، في محاولة منه لخلق جديد في الكتابة.
وحتى اليوم لا تزال كتابات موللر حيّة في ضمائر المسرحيين ومحبي الشعر في ألمانيا والعالم، وربما أيضاً لأن غالبية قصائده قصيرة، لكنها تحمل خواطر وتعابير غنية المعاني والألوان بمشاكساتها وتناقضاتها، وغالباً ما تحمل نظرات داكنة سوريالية الصور عن عوالم فوقية وتحتية. وينطبق على العديد من هذه القصائد التي يفتقد الكثير منها لعناوين خاصة بها صفة الثلاثيات، والرباعيات، والخماسيات. احداها على سبيل المثل تحمل عنوان «دراما» كتبها موللر قبل شهر من وفاته استوحت الناشرة منها اسم الكتاب: «في انتظار الاعوجاجات المتضادة». تقول القصيدة الرباعية هذه: «الموتى ينتظرون قدوم الاعوجاجات المتضادة/ أحياناً يرفعون يداً إلى الضوء/ وكأنهم أحياء قبل أن ينسحبوا كاملاً/ إلى ظلمتهم المعتادة التي تعمي أعيننا».
ومن المؤسف أن هاينر موللر الذي ذاعت شهرته في أوروبا وفي العديد من مناطق العالم بفضل كتاباته المسرحية الفريدة لا يزال حتى اليوم غير معروف كما يستحق في العالم العربي، باستثناء ما كتبته عنه مجموعة من المثقفين الذين قاموا بترجمة بعض أعماله، ومنهم المخرج المسرحي العراقي صالح كاظم الذي درس الإخراج في ألمانيا الديمقراطية وتعرف على موللر أيضاً وتأثر به، وعمل معه فترات في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وترجم بعض أعماله وأخرجها. وشهدت بيروت عام 2006 عرضاً لمسرحية «ماكينة هاملت» على خشبة «دوار الشمس» بعد ترجمة أنجزها جنيد سري الدين وأخرجها عمر أبي عازار. كما ساهم المصري عطية العقاد في التعريف به في اكثر من مناسبة. وتطرق إليه بتفصيل الكاتب العراقي الكردي الأصل برهان شاوي الذي درس المسرح والسينما في موسكو وكتب عن موللر في مسرحيته «ماكينة هاملت» أنه كان «مثل صائد الذئاب الذي يذهب الى الصيد بصحبة الذئاب، مجسداً حالة الرعب والذهول والقلق المشوب بالبشاعة والهول الذي تعاني منه البشرية». وكتب عنه المسرحي السوري أسامة غنم ومسرحيون وشعراء أخرون. وأعتقد بأن السبب في عدم التعرف الى أدبه على نطاق كبير يعود في جزء كبير منه إلى عدم صدور ترجمات بالعربية لأعماله المسرحية ولشعره.
نظر موللر دائماً إلى برتولد بريشت على أنه مثاله الأكبر، ويقول عن نفسه إنه «بدأ من حيث انتهى بريشت، وهذا صحيح إلى حد بعيد، إلا أنه في مسيرته الإيديولوجية والسياسية اختلف عن مسيرة بريشت في مسألة اساسية تمثلت في نظرته النقدية المستدامة إلى ما كان يجري من تطبيق اشتراكي في بلده ودول أخرى. ففي حين كان بريشت مقتنعاً ومتفائلاً بقدرة الفكرة الاشتراكية على تغيير العقل وخلق انسان جديد يسعى إلى ابرازه في مسرحه كبديل عما هو قائم، كان موللر يجد الواقع أكثر تعقيداً، بل كان أكثر تشاؤماً لجهة تحقيق مجتمع جديد، ولم يتأخر بسبب ذلك عن توجيه الانتقادات اللاذعة إلى النظام الاشتراكي المطبّق، الأمر الذي جلب له متاعب كثيرة مع السلطات الحاكمة في أعوام الستينات، فسُجن لفترة من الوقت، وحُرم من العمل أيضاً. وتعرضت كذلك نصوص مسرحيات عدة له للمنع من النشر ومن المسرحة، ثم فقد زوجته الأولى التي انتحرت بسبب ذلك.
لكنّ رفض موللر للرأسمالية المتوحشة، وصدقيته في انتقاد السلبيات التي كان يراها في التطبيق الاشتراكي ولا يتوانى عن التدليل عليها بأصبعه، إضافة إلى عدم استغلاله الفرص التي سنحت له للهرب إلى ألمانيا الغربية، أقنع المرتابين بما فيه الكفاية كي يستعيد مكانته ودوره. ولهذا حصل عام 1986 على وسام وطني رفيع تقديراً له، ثم انتخب رئيساً لجمعية الكتّاب في ألمانيا الديمقراطية في عام 1990، إلا أنه ترك المنصب بعد ثلاث سنوات بعد أن ضاق صدره بالبروتوكولات والاجتماعات والتشريفات، وانسدت قدرته على العطاء الأدبي والمسرحي إلى حدّ كبير.
وانعكست تفاعلات الموت وانتحار زوجته الأولى في شعر موللر ومسرحه بصورة دائمة وواضحة، ولا شك في أن معرفته بمرضه العضال وانسداد أفق الأمل أمامه لعبا دوراً كبيراً في جعل الموت مادة أساسية للكتابة. يقول في ثلاثية له بعنوان «يدان»: الموت هو المغامرة الأخيرة/ سأعود من جديد من خارج ذاتي/ في يوم ما من اكتوبر مع تساقط المطر». وكتب في خماسية له بعنوان «(1) قصيدة زمنية»: «أنا لست نازياً مصفّحاً وسرطاني على علم بذلك/ على المرء ألا يدلّ على جراحه/ في زمن الضباع وبني آوى وقانون البراري الذي/ مات الهنود الحمر على أساسه/ (لكن) أنا لست هندياً أحمر».
أحب موللر كثيراً مدينة برلين التي انتقل إليها وهو شاب عام 1951 للعمل في صحيفة «زونتاغ» (الأحد) الأسبوعية كناقد أدبي، ولم يترك المدينة التي غالباً ما ذكرها في قصائده. يقول في قصيدة «نظرة وداع غريبة لبرلين» وكأنه يودعها بالفعل من دون رغبة على طريقته المسرحية: «من غرفتي وأمام ورقة فارغة/ تدور في رأسي دراما لجمهور غير موجود/ المنتصرون صمٌّ والخاسرون بكمٌّ/ نظرة غريبة على مدينة غريبة/ غيوم رمادية – صفراء تمر أمام نافذتي/ حمام رمادي – أبيض يتبرّز فوق برلين».
يرى بعض النقاد أن موللر الذي استوحى التراجيديا الأغريقية والرومانية في بعض أعماله وكتاباته سعى لاحقاً إلى تطوير مسرح يمزج فيه بريشت مع شكسبير الذي أحبه كثيراً لأنه كان يتماشى مع وجدانياته ودراميته، أي مع الشق الثاني من نفسيته الذي يفصله عن بريشت. وكتب خلال حياته ثلاثين نصاً مسرحياً، لم تشهد كلها النور على الخشبة بعد، ربما بسبب صعوبة تمثيل بعضها. وكان موللر يُعد العدة لإخراج مسرحيته «ألمانيا 3» عندما وافته المنية التي تركت صدمة كبيرة لدى محبيه في ألمانيا وخارجها. وفي ليلة رأس السنة 1994/ 1995 كتب تحت عنوان «وقت فارغ»:
«البارحة حرقت الشمس
ظلالي
في نيسان مُتعَبْ
غبار يغطي الكتب
في الليل تسير عقارب الساعة مسرعة
لا ريح تهبّ من البحر
في انتظار اللاشيء».
______
*الحياة