عبدالرحمن مطر
خاص ( ثقافات )
رواية محمد حسين الأطرش “مريم” ذاكرة وطن مُستعبد!
يشتغل الروائي اللبناني محمد حسين الأطرش في نصّه السردي، على ذاكرة وطن وحكايته، لحقبة طويلة تعود إلى قرابة قرن مضى من الزمن، بكل ما عاشه الوطن من أحلامٍ وآلام، حروب وتسلط وحيف، أدى إلى تدمير الأوطان وفتت قلوب الناس. السلطة المستبدة، بأشكالها ودرجاتها المتعددة، هي من يخلق تلك الآلام المريرة، والكاتب هنا، هو من يعيد تأريخ الحكاية وقصّها، بصوتٍ مشبع بالقهر، وبالتوق إلى الخلاص.
مريم هي رواية مفعمة بجماليات البوح، ألفة الكلام المُحكى، والمعنى الذي يقطع خيوط المسكوت عنه، ويميط الحُجب عنه. هي “ذاكرة وطن” يستنطق الكاتب فيه عبر المرأة/ الوطن، حكاية كل بلد في هذا الشرق الذي أثقلته سطوة الحاكمين الظالمين.
ما تحدثت عنه الرواية لا ينفصل البتة عما حدث ويحدث في سوريا، بل إنها حكاية سورية، خاصة أنها تتناول سلطة عن جر الأمنية، بكل ما جرّته على لبنان وسوريا من فساد في السياسة والمال والمجتمع. وتحكمت بمصائر الناس ومعيشهم.
الشخصية المحورية في الرواية مريم، هي “ابنة من قاتل الأتراك، وأخت من قتله حلف بغداد، وأم من أسرته اسرائيل، ولاحقته أجهزة الأمن السوري”. تروي مريم للسارد حكايتها الطويلة في “كفر المنسي ” منذ ولادتها. هكذا يأخذنا الكاتب إلى البدايات الأولى لتشكل لبنان الحالي أيام سفربرلك والثورة العربية الكبرى.. والفواجع التي ألمّت بالمنطقة وشعوبها.
تستند مريم إلى كرسيها، كمن يستند إلى سنديانة عتيقة عالية ومتجذرة، تروي بتؤدة تلك الأحداث التي ميزت بلدها والمنطقة، من خلال حياتها وقريتها كفر المنسي، تلك القرية النائية التي لم يكن لأي سلطة فيها وجود. وما إن وجدت في الخمسينيات، حتى جاءت قامعة تستعرض قوتها ضد القرويين المدنيين.
لا تعتني الرواية بنقد السلطة السياسية، في سرديتها، فحسب، بل والبعد الاجتماعي في العمق، والذي كان حاضراً ودالاً بقوة على الأمراض الاجتماعية مثل حرمان البنات من التعليم. لكن مريم، وأباها لم يأبها لكلام الناس وأعراف المجتمع، فاقتحمت صف المدرسة الوحيد.
تتذكر مريم، التي تفقد أسرتها، مع كل حدث جلل واحداً من أبنائها، كيف أن الإخوة يقتتلون، والسلطة ضد أبناء البلد، وكيف كانت طائرات عبدالناصر تقصف الجنوب إبان أحداث 1958. تروي كيف يتفشى القمع، وينتشر الخوف، وكيف تزداد أعداد المهاجرين والشهداء، في المنطقة الممتدة من العراق حتى فلسطين، والتي تمزقها الصراعات والحروب بين الإخوة، ومع إسرائيل.
السلطة القامعة تتبدى جلياً في النص الروائي، وتتحدد، في لبنان وسوريا، ضد الناس البسطاء وضد الناشطين، وخاصة أولئك المشتغلين من أجل الحرية. ولا تزال الصورة هي ذاتها قائمة وتتكرر في إطارها المشاهد الدامية اليوم في سوريا. مع أن لبنان لم يصل بر الخلاص بعد. وإذا كانت الرواية قد صدرت عام 2011 وهي توجه نقداً واضحاً وصريحاً للاستبداد والديكتاتورية، فإن النص الأدبي، يستشعر الانفجار الواسع الذي آلت إليه المنطقة، إذ يتناول الكاتب سطوة أجهزة الأمن، وما تقوم به من ممارسات قمعية ممنهجة، تأخذ تكميم الأفواه، والإتجار بكل شيء، ونشر الفساد. ويشير بكل وضوح إلى دور المخابرات السورية المشين في لبنان.
لغة محمد حسين الأطرش، تأملية – إن جاز التعبير – يسرد فيها حكاية مريم. كقارئ يأخذك شعور تام بأنك تشهد ولادة الكلمات من فم مريم، وأنك كنت حاضراً هناك مع الحدث. ترى ومضات عينيها، وإغماضة جفنيها مع كل لحظة فرح أو ألم، تلمس عروق كفها وهي تنبض، قابضة على كرسيها حين يكون الحديث عن خالد الأخ، وخالد الابن، وما حدث في زمنيهما من أحداث ترقى إلى مستوى المأساة الوطنية، لا الفردية فحسب.
وقد استطاع المؤلف أن ينسج نصاً سردياً يتداخل فيه الذاتي مع العام، دونما فصل إلا بما هو شخصي. هي حكاية فرد ووطن بآن معاً: كفر المنسي هي ذاكرة لكل زمان ومكان، في وطن الخوف والتسلط والقهر.
هي لغة جميلة ببساطتها، وهدوء سردها، وإن أثقلت على القص لحظاتٍ مغرقة في التفاصيل. لكنها الرواية.. الحياة، والأطرش في نصّه قابضٌ على أطراف الحروف ومساربها، بمهارة عازف على القانون، يجعلك تستمتع مأخوذاً بالنص، بكل ما فيه من آلام ينقلها إليك بهدوء وتماسك امرأة عاصرت تلك الأحداث، واحتملت مراراتها، فجذرت ارتباطها بالأرض والناس، ولم تكفر بهم.
_____________________
مريم ذاكرة وطن، رواية محمد حسين الأطرش، منشورات فضاءات/ عمان والصالون الثقافي الأندلسي/ مونتريال، ط1/ 2011