ذاكرة البيت . . ذاكرة حضارة


*محمد الأسعد

حين أقام الزعيم الهندي “غاندي” ثقافة الهند حول المغزل، لم يكن مادياً بقدر ما كان مخططاً لمشروع حضارة، وعلى رغم كل تراكمات وصراخ التحديث والحداثة، تظل في الضمير العلمي هذه الحقيقة البسيطة: إن بداية المشروع دائماً هي هذه الضربة الأولى في الأرض . على هذا قامت جدلية العلاقة بين الإنسان وأشيائه، وعلى هذا قامت جدلية العلاقة بين الأشياء والأفكار، وحين نتطلع إلى الحماس الذي شغل عدداً من المعماريين العرب في السنوات الأخيرة، نجد التأكيد على أن الجماليات المعمارية التي نتعامل معها كطُرفٍ لم تكن بلا وظيفة حيوية، ومع ذلك فالقلة فقط هي التي تجرؤ على نبذ المواد الصناعية البراقة، والبدء من قبضة الطين أو مغزل ”غاندي” أو مصهر الحديد الصيني .

ذلك لأن المناخ الذي خلقته وسائلُ ما يسمى التحديث لم يكن همّه المعمار والجمال بالدرجة الأولى، فلا الدافع إلى ذلك هو الالتحاق بركب التحضر، ولا كان الحافز تطوير ممكنات الإنسان العربي، بل هو مناخ التجارة العالمية، وتلك قضية لا تمسنا إلا من حيث كوننا أدوات هذا التوسع وموضوعه . 
نحن نفتقر إلى الحداثة إذاً، لأننا أسرى عملية تحديث مجلوبة، غريبة عنا حوافزها ودوافعها . بمعنى أنها لا تتصل بدورة دموية داخلية، بقلب مركزي، وكان البيت الذي يقيمه العربي بنفسه أو بمساعدة من مواطنيه رمزاً لهذا القلب المركزي .
الآن تمتلئ المطبوعات الملونة، وبخاصة مجلات شركات الإعلان الفاخرة في باريس ولندن، بصفحات عن الفن الإسلامي أو عن الآثار التقليدية الجميلة . ووظيفة مثل هذه الصور، سواء كانت تشكيلية أو فوتوغرافية، لا تتعدى الصفحة المطبوعة عليها؛ مجرد ماضٍ مندثر يثير دهشة عالم الغرب وهواة جمع الطرائف، ولكن ما معنى كل هذا؟ هذا الإناء النحاسي الذي تعب في زخرفته حرفي مجهول؟ ألم يكن يعرف أنه إناء لحمل الأشياء فقط؟ وهذا البيت الذي ترتفع عقوده وتتقاطع ويضم إليه فراغ الداخل حيث ساحة النوافير، وظلال الشرفات الداخلية، ألم يكن الذين أجهدوا أنفسهم في شغل مشغولاته الخشبية وإقامة أروقته وأقواسه يجهلون أنه بيت للسكن . . للنوم وتناول الطعام والاجتماع؟ 
لم يكن أي من هؤلاء يجهل هذه الوظائف الحيوية للإناء والبيت، وقل مثل هذا عن السجادة والمحبرة والنافذة، ولكن أياً منهم لم يكن مستعداً للتنازل عن هذا البعد الروحي الذي يجعل هذه الأشياء خاصة جداً إلى درجة تحولها إلى جزءٍ من كيان الإنسان . الأمر بالطبع ليس كذلك بالنسبة للمتاحف وجامعي الطرف، فثمة انشقاق هنا بين سبب وجود هذه الأشياء ووجودها ذاته، ويمكن وفق هذه النظرة عزل أشياء الإنسان في متحف، أو أن تصنع خصيصا لمتحف، ويستمر الوجود في طريقه وكأن شيئاً لم يحدث . 
***
مثل هذا البعد الروحي هو بعدٌ حضاري، بمعنى أنه كناية عن طوابع شخصية الإنسان في الموضوعات التي يبدعها، ولهذا ليس مستغرباً أن نأخذ طبيعة المعمار أو الصناعات الفنية، مشغولات معدنية أو صوفية، أو الأواني الفخارية، كدليل على وحدة الشخصية العربية في المرحلة الإسلامية مثلاً، فعلى امتداد مساحة شاسعة من الخليج شرقاً وحتى المغرب الأقصى غرباً، لا يخطئ النظر هذا الطابع الموحد لمنتجات هذه الحضارة . بالطبع لا شأن لهذا بالانقسامات السياسية التي لم تكن لتمس هذا الجوهر التاريخي، فقد ظلت حركة هذا الجوهر التاريخي متواصلة واقعياً على أكثر من صعيد، وأهمها صعيد المنتجات الحضارية . 
مثل هذا البعد الروحي لم يكن قائماً في الفراغ، أو من دون أرضية صلبة من نظم انتاج وتبادل، بل كان قائماً على هذا الأساس الصلب ذاته . إن تشابه الأحلام والخيالات والمطامح لا ينبع من النصوص فقط، بل ينبع بالدرجة الأولى من التراب نفسه، ولعل البداية والنهاية تكمنان في هذا التكييف المتبادل بين الحوافز والدوافع؛ دوافع البيئة ومعطياتها وحوافز الإنسان وحاجاته، وهذه ليست جنة أسطورية أو وهماً تخترعه العقول، بل هي الواقع الذي ينهض أمام أعيننا حين ندخل بيتاً من البيوت المسماة تقليدية، أو نمسك بأيدينا قطعة نسيج، أو نصلي تحت قبة مسجد أو كنيسة، فهنا يتبدل الإنسان حين يستبدل الهدوء بضجة عابثة لا معنى لها، وحين يستبدل الرسوخ بمشاعر القلق .
يكون الإنسان هنا في حضرة كل ما هو شخصي وما هو ذو ذات وهوية، يكون في حضرة ذاته مجسدة بما صنعته يده ومرّ عليه فكره، على عكس حاله بين جدران من إسمنت وزجاج وحديد، أو أمام أنسجة الانتاج البضائعي، وحتى الآن ما زالت بعض المصانع الغربية تخصص حيزاً للمشغولات اليدوية، زجاجية أو خشبية أو حجرية، وحتى يحظى البائع باستحسانك، يشير إلى طرف الآنية أو المنسوجة أو السمكة الزجاجية، ليؤكد لك أن توقيع صانعها هنا أو هناك، فتشعر بلذة أنك تستحوذ على عمل من صنع الإنسان ، على عمل ذي هوية، لا من صنع آلة عمياء . 
***
للبيت العربي إذاً، ونعني به كل ما نسكن إليه من عمائر ومساجد وقصائد وصحف وآنية وبساتين . . إلخ، هذا البعد الذي يشدّكَ إليه بعلاقة، لأنه بالأساس نتاج علاقة بشر بمادة وزمن وبيئة ومجتمع، أي بطوابع حضارة هذه هي علاماتها . 
لكل هذا وظيفة بالطبع، إلا أن دلالة ومدلول هذه الوظيفة يتجاوز البيولوجي إلى الإنساني، لنقل إذاً، إنه يرمز إلى ما هو أبعد من مادته الخام شأنه في ذلك شأن الرمز الذي يضفي على الموجودات شيئاً أبعد من معناها الظاهر، ولكن من دون المادة الخام لا يكون لهذا الرمز أن يظهر . إن الكثير من الرموز المجلوبة بأوراق الشحن وبوالص التأمين لا يستطيع أن يحيا بيننا، تماماً مثلما لم تستطع رموز الفنون والآداب الغربية أن ترسخ في عقلية الإنسان العربي . 
الرمزُ ليس إلاّ كناية عن نهوض الحقيقي بتعبير الفلسفة (وجود بالقوة يتحول إلى وجود بالفعل)، ونهوض الوطني بتعبير السياسة، والحيوي بتعبير علم الأحياء، والمشعور به بتعبير الآداب والفنون . هكذا أستطيع أن أفهم هذا الحنان الذي ينتشر في فضاء ما يسمى فضاءً تقليدياً، رغم أن نهوضه لم يكن بسبب هذا الحنان، وإنما بسبب رغبته بالحياة قبل كل شيء .
وهكذا أستطيع أن أجد تفسيراً للضيق المرهق الضاغط على الوجدان أمام كتل الإسمنت والحديد، رغم أن هذا الضيق قد لا يكون ملازماً لهذه الكتل في بيئتها وزمانها، ومثل هذه الأحاسيس المضافة لم تكن لتنشأ قبل قرنين أو ثلاثة، ولكنها تنشأ الآن لأن إحساساً بالعطب يأخذ بالازدياد، ولأن إحساساً بفقدان الهوية، وما هو مميز للشخصية يحتل مكاناً في مسار زماننا .
لقد نشأت معتقداتٌ زائفة بمعنى الزمن والتحديث ضد كل بداهة أساسية . أول هذه البديهيات هو إن لفظ “الحداثة” لا يستمد مدلوله من اللامع والكثير والسهل، بل من الصعب والأكثر خشونة، لأن الحداثة تعبير عن تراكم تاريخي، وليست تعبيراً عن صفقة يعقدها مجتمع مع أي سمسار عابر . ومثل هذا التحديث الذي يبدأ من قبضة تراب وعمل وإنسان وحركة يد وفكر هو الحداثة حقاً، أما هذه الصفقات العابرة، فليست إلا حلولا زائفة تشعرنا بالراحة . 
ثاني هذه البديهيات، أن التأمل في التاريخ ومنجزات إنساننا القديم لا يعني أننا نتمنى لو ولدنا في العصور الماضية، أو نود لو استقدمناها إلى زمننا، بل يعني أننا نفهم جوهر قيام الحضارات وسقوطها، ذلك الجوهر الذي هو حيٌ فينا مثلما كان حيّاً في الذين سبقونا . إن شرطنا الإنساني الراهن لا يمكن التنازل عنه لأننا من دونه لسنا سوى شظايا متحفية .
ثالث هذه البديهيات، أن وحدة الطابع التي تبهرنا في ماضينا ليست من ابتكار فنان أو إلهام شاعر، بل هي نتاج الحركة الدائبة للجموع في سعيها نحو تلبية احتياجاتها وإعلان حقيقتها الإنسانية . 
وبمقدار ما تفصلنا المعتقدات الزائفة عن العصر والحداثة، تقربنا هذه البديهيات من أنفسنا، أي من معاصرتنا .
______
* ملحق (الخليج) الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *