ذاكرة النهر ذاكرة الكتب والتاريخ


*سيف الرحبي


هذه النظرة منكِ
فاتحة للصباح
أداوي بها يأسي المدلهم
أعالج جرحَ النهار حتى حلول الظلام
***
أي أمل يتردد صداه بين النهر والغابة المحيطة..؟ النهر يعيش حياته الخاصة في هذا السديم الرباني، متآخياً حدّ الذوبان والامحاء في الحقول الشاسعة والأشجار الباسقة التي يسقيها ويغذيها برحيق الحياة الصافي، غير مبالٍ بالحروب والكراهيات والأعراق.. هذا النهر الصغير مقارنة بنهر (التايمز).. وهو أيضا لا يحمل ذاكرة النهر الكبير، عدا تجليات وحدته الروحيّة مع الفضاء والعشب والحيوات المتدفقة في ظلال النعمة والسلام..
على عكس ذلك النهر الكبير الذي انطلقت منه سفن الامبراطوريّة، أو التي ستكون، محملة بالأسلحة والعنف لغزو العالم، من هذه الجزُر البريطانية، لتكون سيدة البحار والصحارى والبلدان على خلاف قول (إليوت) أيها التايمز الحبيب إن صوتي ليس عالياً ولا قوياً.. كان صوت الامبراطورية عالياً وقوياً يكتسح العالم قبل الأفول الحتمي أو الضعف على أقل تقدير.
هذه الجزر التي كنا ندرسها في المقررات المدرسية، طقساً، سكاناً ومساحة، هذه الأخيرة كما يقول المقرر، لا تكبر عن مساحة بلادنا (عُمان).
ذاكرة التايمز، كانت معبأة بذكريات الحروب والغزو، الانتصارات والهزائم.. أمام هذا النهر الصغير المتدفق بحزن، الذي أجلس على ضفته بخشوع روحي حيث الشمس تخالها تقترب من الغروب، لكن هذا الاقتراب بحاجة إلى ساعتين كي يصل إلى نهايته من فرط كثافة السحب والضباب المتصاعد من أعماق الغابة والنهر..
أُسرّحُ النظر إلى آخره، في المتاهات الخضراء الضاجة بالصمت والغموض… ألمح قصراً في أعلى هضبة تشرف على النهر وسط الغابة، تخيلته أحد قصور الكونت (دراكولا) رغم أن اسطورة مصاص الدماء الشاعري تجري وقائعها في رومانيا، لكن كاتب هذه الحكاية السوداء ينتمي إلى الأرض الانجليزية.
وفي كل الأحوال، الخيال لا تحده سلطة الأماكن والمسافات، وربما تخيلي له مهجوراً ومرعبا جاء عبر سراب المسافة الضبابية التي تفصله، وكون رأسي مسكونا بالخوف والهذيانات، وربما تحول إلى فندق، ومن الرائع أن يقضي المرء أياما فيه كنوع من تجربة روحيّة وجماليّة، تعميق العلاقة بالذات وامتدادها مع الطبيعة عزلةً وتأملاً، هذا النزوع الحميم والحلم الذي تصادره الجماعة الوطنية ومشاغلها حتى لو كانت في شكل عائلة حميمة، ويصادره صخب الأمكنة والبشر حتى لو كانوا أقل ثقلاً كونهم غرباء وعابرين..
سألت عن (القصر) وسؤالي امتد إلى المرجع الكوني (جوجل) عبر الصديق الدكتور سلطان العويسي الذي كنت بصحبته، هو المقيم مع زوجته الدكتورة بشاير الريامية، حيث يشكلان نموذجاً مشرقاً للوفادة العلميّة من عُمان الى ديار الغرب والذي أفاد على الفور أن هذا المنزل الكبير يحتوي على خمسين غرفة، بُني في القرن الحادي عشر ومنذ ثلاث سنوات اشتراه ملياردير باكستاني يُدعى (أنور رشيد) يمتلك فنادق في (دبي)، والكثير من ملاجئ العجزة في بريطانيا.. لكن الثري الباكستاني الأصل، لم يمكث فيه إلا ثلاثة أشهر وانتقل بسبب ذعر عائلته التي اكتشفت أن هذا القصر مسكون بالجن والعفاريت، وقد رأتهم زوجته يأكلون في المطبخ ويشاهدون التلفزيون في أحد طوابقه، وهو الآن معروض للبيع بأقل من قيمته الحقيقية.
فكرت أن هذه هلوسات بشر قدموا من بلاد متخلفة، ولا يتحملون مثل هذه العزلة الجماليّة، العزلة التي لا يستطيعها إلا الكبار حسب الصوفي (الجنيد). وليس ذلك النوع من المترفين الذين تغريهم حياة القطيع والثرثرة والإشاعات.. وهناك أيضا سيطرة دافع التجارة الوحشية التي تجرف قيمها كافة أنحاء هذا الكوكب المترنح، فارضة منطقها الفظ، وإلا فهذا الأثر الذي صمد أمام آلة الزمن عشرة قرون يُسام في سوق المال كأي بضاعة استهلاكية عادية.. وفكرت أن هناك بلداناً وأوطاناً بالكامل، في العالم خارج أمم الظاهرة الغربويّة، كما دعاها الفيلسوف الروسي، تُسام وتباع بشكل أسوأ وأحقر من البضائع والمنتجات الاستهلاكية. نهر (ترنت) المنساب بشفافية وطفولة، وهناك جامعة باسمه.. جامعة باسم نهر.
***
أحدّق في صفحات النهر المتقلّبة الزرقاء، الذي هو جزء من أنهار الامبراطورية التي حملت السفن الحربيّة تمخر العباب نحو أرجاء العالم الشاسعة، نحو الهند والشرق الأوسط وافريقيا التي استوطن أجزاء منها أسلاف عُمانيون ورحلوا بعد عقود طويلة من السكنى والمقام الرغيد في ضوء الجفاف والفقر الذي كان يضرب الأرض العُمانية الأم. رحلوا أو رحل ما تبقى منهم عنوةً وقسراً إثر مجزرة مروّعة، ليس في فظاعتها ووحشيّتها فحسب، وانما بشكل موازٍ أو يفوق المجزرة فداحةً، هو ذلك الصمت الذي كفّنَ الحدث ولفّه بعنفه عقوداً طويلة..
وكأنما تلك الدماء الغزيرة التي أُريقت على ذلك النحو من البشاعة والبهيميّة، كما تكشفت لاحقاً، لا تستحق حتى الإشارة إليها، لا تستحق رقما صغيراً في روزنامة التاريخ الروتينيّة.
وعلى ما تقطع به البراهين والأدلة، ان الامبراطورية البريطانيّة العظمى، وقفت كما في سائر المذابح والمجازر والاحتلالات، خلفها وأشرفت على التنفيذ والتحريض، بعد أن جرّدت العُمانيين من أي وسيلة دفاع عن النفس، فذُبِحوا مثل قطعان نعاج أمام وحوش عطشى كاسرة، إنها محطة من محطات المجد الانجليزي ذي القيم الدستورية والديمقراطية الأكثر عراقةً في أوروبا والعالم، وفي هذا المنحى يتوحد الانجليز مع أقرانهم الاستعماريين الآخرين، حين يتعلق الأمر بالشعوب الأخرى فهم لا يعترفون بأي قيم دستورية أو حتى أدنى درجات القيم الأخلاقية والانسانية في مثل هذه الأحداث العاصفة، وتُرتكب أقصى المذابح والإبادات…
واذا كانت هذه من بداهات التاريخ البشري الذي يأخذ الحيّز الأكبر من العار والمذابح والاحتلالات، فما سرُّ ذلك الصمت الظلامي المطبق، أن تمنع الضحيّة من سرد حكايتها، من قول كلمة للتاريخ؟!!
ها هو النهر الذي كنت أتوسل إليه أن يحمل الذاكرة المتعبَة إلى ذلك الفردوس الأرضي في الجزر البعيدة، يحملها إلى متون التاريخ الدموي والمجزرة.
***
يا أغنية ترفرف بحنان حول الجثة
التي أعدمها الجلادون قبل قليل
ان روحي لترتاح في واحة حزنك الشفيف
لكن الجثة تأكل ليلَ البشرية
بالشكوى والحنين
***
ذلك الفراغ الدموي
الذي لا يكبر ويتعاظم في تخومه
إلا الوهم والحقد وآلام الطبيعة
والتاريخ
***
مذياع المقهى يبث موسيقى رقيقة (كانتري ميوزك) وهي أغان لكيني روجرز، رومانسية الزمن الماضي.. في شرفة المقهى الخارجية أحدّق في المارة بأعمار وألوان وأشكال مختلفة، كلهم مواطنون أمام القانون مهما شطت نزعة التفوق والتميز لدى السكان الأصليين، هذه من سمات المواطنة الحديثة لدى الغرب الذي يتقدم تاريخه وراهنه، كونه على نحو من عدالة وانسانية داخل حدوده المعهودة، وبالغ الوحشية والتدمير، تجاه الآخر، خارج هذه الحدود…
المارة مندفعون إلى الهدف الذي رسمه نظام الانتاج الصارم والندرة ممن هم خارج هذا الهدف من متقاعدين ومتشردين.. الطقس ما زال في شهر حزيران (يونيو) يميل إلى البرودة، والسحب تتدافع نحو بحر الشمال الغاضب غالباً.
أفكر في (صدمة الطقس) أكثر من (صدمة الحضارة والحداثة)، هذه لم تعد بذلك الوقْع الصادم كما صوّرته الأدبيات والنصوص المقارنة في ظل عولمة الاتصال والتواصل الخادعة على المستوى الشعبي وليس النخبوي كما جرت العادة..
تلطفت تلك الصدمة وتأنسنت، وان بشكل سطحي، حتى لم تعد كذلك على المستوى القيمي والمعرفي..
المارة يندفعون، الكلاب الضَجرة تواصل النباح، ربما الحنين.. الأغاني تنهمر على شرفة المقهى والمارة والكلاب، رومانسية جارفة تزيد الجو لطفاً وأناقة… أستحضر الجزائري عبدالله طرشي في دمشق، الذي ورد اسمه في مطلع هذه الرحلة، هو أول من عرفني على هذا النوع المعبر من الموسيقى.. كان يسمع (روجرز) وآخرين، الجزائري المفارق المولع بعالم اللغة الانجليزية أكثر من الفرنسية.. حين تبعثر شمل الأصدقاء بعد الألفة والاقامة المشتركة في تلك البلاد المنكوبة، انقطعت أخبار عبدالله مثل الكثيرين، هو الذي كان مشروع فيلسوف لولا معاداته للكتابة وأكثر منها الحداثة في نسختها العربية، وهو كآخرين غير مؤدلجين في تلك المرحلة، يتحدث عن الفلسفة ليس كوعي كلي ومنظومة شاملة مثل الماركسية السائدة آنذاك والهيجيليّة، وإنما كتصور جزئي، وربما كحكاية ورؤيا حول الذات والشخوص و«أسلوب حياة» ينزع إلى سعادة ممكنة حتى وسط الشقاء والمرارات حسب فلاسفة الحياة المعارضين في هذا المنحى لأسلافهم الموسوعيين الكبار، وهو ما يمتد بنسبٍ بعيد إلى الفلسفات الشرقية.. وبقدر ما كان حديثا في الفلسفة كان كلاسيكيا في الأدب فالرواية لديه تقف عند الانجليزي (دش لورنس) حيث يرتفع الجنس إلى مشارف الرؤيا والتصوف، نساء لورنس الملتهبات ينبثقن من بيئة هذا الريف الانجليزي، وقيمه ومصانعه وحقوله.. مرة أصدرتُ ديوان شعر في تلك البدايات المبكرة، ولأنه كان منغمساً باندهاش في أجواء الحداثة الشعرية السائدة وأجواء اللغة والشكل وإغرائهما الاستعراضي، قال لي حين قرأ الديوان، أعجبتني فيه قصيدة واحدة أما الباقي فخارج الوعي الشعري بالنسبة لي ذوقاً ومفهوماً.. انقطعت أخبار عبدالله مثل الكثيرين، وقد ذكرني به قبل هذه الأغاني الريفية في باريس، المغربي رشيد صباغي، والجزائري قادر بوبكري كلهم يتحدّرون من السلف السقراطي، بعدم الوقوع في إغراء الكتابة وإن ظلوا مجهولين إلا لدائرة الأصدقاء.. كلهم يملكون عمقا فلسفياً ورؤية مميزة للوجود والعالم..
ذات يوم جاء هاتف مجهول إلى مجلة (نزوى)، اتضح انه عبدالله طرشي، يتصل من (تشيكيا) قال، انه انتهى به المطاف في تلك البلاد لحظة الانهيار السوفييتي، وانه يدرِّس اللغة الانجليزية هناك، اتفقنا على التواصل واللقاء.. مرّت الأيام، وذهبتُ إلى الجزائر التي ما زالت تخرج، مضرجة من تلك المذبحة الأهلية البشعة، وأنا أتحدث مع محمد بنيس وواسيني الأعرج وآمال موسى أمام قاعة قصر المؤتمرات التي شهدتْ في اليوم نفسه مذبحة من نوع آخر بين بنيس الذي كنت بجانبه مشاركا في الندوة التي نظمتها اليونيسكو، وبين نفر جزائري استُفزّ من أطروحات بنيس… في تلك اللحظة حياني شخص بحميمية ومودة فائقة، لم أعرفه لأول وهلة، ثم تبين انه عبدالله رجعت لأحييه بمعرفة أكيدة.. لقد عاد إلى الوطن وهو يدرِّس في احدى الجامعات الجزائرية، وكان يقتني سيارة مرسيدس أنيقة نستقلها دائما بدل سيارة المؤتمر المدججة بالحراسة «في الجزائر لابد من سيارة قويّة لأن عصبيّة المرور صعبة جداً» وروى انه لم يكن ينوي العودة من بلاد أوروبا الشرقية، لكن الظروف أجبرته: ذات ليلة كان عائدا إلى منزله فاعترضته مجموعة من (الزعران) أوسعوه ضرباً وجراحاً… وكجزائري فقد أمام هذا الحدث المهين الجارح، كل مبرر في الوجود، إلا إذا أخذ بثأره من أولئك القتلة، ولم تفد الفلسفة وعمق الرؤية الوجودية والموسيقى، ظهر (النيف) ودفعت به الغضْبة الجزائرية التي تشبه الغضْبة المضريّة حسب بشار بن برد، إلى ترصد تلك المجموعة حتى تبيّن الشخص الذي أذله وجرحه، أكثر من غيره، غمدَ في بطنه سكيناً حتى خرجت من ظهره أو كادت، وأرداه قتيلا، ثم هرب من تلك البلاد التي تشهد انفلاتاً أمنياً بعد القبضة الحديدية للنظام الشيوعي. استطاع الهرب حيث لا ملاذ إلا الجزائر… ها هو الوطن يلوح من جديد على رغم الخيبات والمرارات.؟. ذات يوم آخر جاءني هاتف من صديق مشترك في الجزائر، قال، الطرشي، مات في حادث بسيارته، ظننتُ أنها مزحة أول الأمر وسيكلمني بعدها؟ لكن اتضح أن تلك المزحة هي الحقيقة الدموية بعينها..
***
حيث الفضاء مروحة ضخمة
تنفث الألم والغبار
***
حين عرف أبوالعلاء المعري، أن ذلك النوع من البشر المنتن بالعداء والكراهية، لم تهنْ عليه نفسه في السقوط إلى دَرْك هؤلاء، اقترن ذلك بنظرته إلى أحوال عصره المتدحرجة في هاوية ذلك السقوط وانقلاب الأحوال.. استنهض نفسه إلى مزيد من الجد والعزلة والمعرفة ولسان حاله يقول: ألا من مبارز نبيل، ألا من علوِّ أتسلقه وأخاطبه حتى في الصراع والخصام؟
***
حيث التاريخ.. التاريخ
بحور متلاطمة من الدم والعار
***
تقفين عاليةً
أيتها الوردة في الفضاء القاتِم
أمام فنائك الوشيك
روحك التي تنبعث لتضيء الحقلَ
وقلبَ العاشق
في البلاد التي حطمتها المظالم والحروب.
***
ذلك الذي يعشق أخطاءه
صانعاً منها مدينةً
من غير أبواب ولا نوافذ
قلعة مغلقة.
***
في طريق النزهة اليومية، محاولا استعادة نمط التسكع البهيج، تنبلج من منعطف الطريق مقبرة خضراء مبللة بأمطار الليل.. وكانت المقابر، الأوروبية خاصة، جاذبة ومغوية للنزهة والتسكع، هنا يفقد الموت شيئا من رهبته الجنائزية، وحين كنا صغاراً كانت المقابر التي درسَت ولم يبقَ منها غير شواهدها، ملاعب طفولتنا، ضَنَك العيش حياة وموتا في تلك البقاع الجرداء المجدبة.. هنا المقابر فراديس شاسعة ينعم فيها الأحياء والموتى بقسط من راحة وهدوء بال، أو هكذا يمكن تخيّل الموتى وهم ينعمون..
في هذه الأثناء أقرأ ديوانا لإتيل عدنان بعنوان (العودة من لندن)
«عبادة الموتى ليست سوى ذريعة
لترك الأحياء يتخبطون
والسجون والسيارات تنتظر»
ربما أبيات إتيل تذهب إلى منحى آخر غير النزهة التأملية في مقبرة، حيث عبادة الأصنام وتقديسها، من الأحياء والموتى، كغطاء لافتراس الحياة وتحطيم البشر.
***
تسرين من قلب آسيا
أيتها الأغنية التي أطلقها العندليب
قبل رحلته الأخيرة إلى جُزر الموت
تحومين حول المقهى حائرةً حزينةً
لأن المسافات أرهقَت أجنحتك الشفيفة
حيث الزبائن يلتهمون مأكولاتهم على عَجل
ولا يسمعون الصوت القادم من فجاج الروح
حائرة وحزينة، لأن النغمة الشريدة التي تحملين
ميراثَها ستضيع في البيداء المتلاطمة قدّامكِ
وتكون نهاية الرحلة والعندليب
***
الجمل يحتمل ثقل الحمولة الباهظة
في الصحراء اللاهبة
لكنه لا يحتمل الأذيّة والاعتداء
لا ينسى، سيردّ الإهانة إلى نحْر صاحبها
حتى لو بعد حينٍ من الدهر..
***
أيامهم التي نَزفوها
في المقاهي والحانات
بالكاد يستطيعون تذكُّرها
تعبرهم كريح متقطّعة خانقة
في الجزيرةِ المنسيّة
***
الانسان السيئ المتأصل في الشر وانعدام الضمير والحسّ الأخلاقي والانساني، لا أمل بغية الإصلاح، انه يشبه حيّة الصَلّ الأكثر سميّة وفتكاً، لو تجردت من طبيعتها السُميّة التي هي سرّها التكويني، لماتت.. لا أمل في إيقاظ الجانب الخيّر الخبيء في النفس الخبيثة، من بين طبقات العتمة التي تحيط به، كما عبّرت فلسفات شرقيّة على الأخص. على الأرجح سيكون الشر والانحطاط والإيذاء قدراً ومصيراً ومن خلال النماذج التي شاهدنا راهناً، في مجالات العمل والحياة.. ينطبق هذا على الفرد والنظام.
***
ما أشرت إليه في مطلع الرحلة، كون إليوت، أحال انجلترا والحضارة الأوروبية، قحْلاً ويباباً، نجد مثيلاً له عند (بيرس) بمنحى آخر، في حين أن الأول شديد القتامة والتشاؤم، يعتبره الثاني اليباب والقحط، مقدمة واختباراً لتفتح الإرادة البشرية والفرح، معلما يحمل إشارات الكرنفال القادم الخصيب.
***
موحشة أرض البشر
موحشة أرض الآلهة
يا اخوتي ويا أبناء العمومة الأقربين والأبعدين
في الحب القليل الراشح من ليل القوافل،
أو في الكراهية الصلبة الشاسعة التي
تدركني دائما وإن خلتُ أن المنتأى عنك… واسعُ..
يا صوت غراب الليل الحائم
موحشة أرض الله والبشر.
***
في البرد القارس
أو في الحر اللاهب
منتشية روح الغريب لمرأى حضوركِ السامي
أيتها الأشجار..
ناعسة تتهادين
وسط الهبوب البدئي للأكوان
يا من كان وجودكِ قبل الانسان
بملايين السنين
على الأرض وفي أعماق المحيطات..
ذلك الذي حاول تدمير سلالاتك الغابيّة
لإبداع حضارة الورق والبارود
من غير نجاح
لأن (الروح الكليّة) حرستْك من فيالق الإبادة
ليستمر نسلكِ عزاء للخليقة النافقة.
***
تتموّجين مثل بحيراتٍ عظمى
وسط تقاطع العواصف والرياح
تخلقين فضاءً محتدماً
بالطيور والرغبات
***
في تجوالي اليومي الذي يوصلني إلى جامعة (نوتنجهام) هذه القرية الكبيرة التابعة لمدينة (نوتنجهام) تلك الجامعة الكبيرة الغارقة في زرقة الغابات والحدائق والبحيرات المأهولة بمختلف الطيور المقيمة والمهاجرة، والسناجب التي تتسلق الأشجار يطاردها الأطفال من شجرة إلى أخرى، تُجيل النظر في هذه الأرجاء الخضراء حتى اللانهاية لهذا المشهد الشاسع.. وتخال أن القرية بكاملها غارقة في هذه الزرقة الحلميّة لطبيعةٍ بالغة الكرم والوفرة، في بعض زوايا ومنحنيات الغابة/‏‏ القرية، بيوت ومبانٍ، ومعالم حياة ومعرفة تلخص بكثافة تلك الموجودة في المدن الكبيرة.. لقد محتْ أو قلصت الحضارة الغربية من الفروق الحادة بين المدن والأرياف.. تذكرت قول صديق في هذه البرهة العربية التي يتضاءل فيها الحلم ويتطاول الرعبُ والظلام، ان بلده الذي أدمن القمع والانقلابات ملخص لثكنة عسكرية كبيرة بين ثناياها وتضاريسها حطام شعب ومبانٍ وأسوار مخلّعة، مضروبة بزلزال الفساد والجفاف بدلالاته المختلفة.. لا تكاد تلمح فيها متنزهاً للأطفال المزمعين على دخول الحياة من أبوابها القاسية.
كل صباح، قبل بدء نُزهاتي اليومية في خضمُ تلك الطبيعة التي يمكن أن تتناغم حيواتها وإيقاعها الجمالي، مع أرواح البشر المعذّبين في السعي وراء سراب الأهداف والصراعات – أجلس في أحد مقاهي شارع الممشى الذي لا تعبره السيارات والعربات، أشرب القهوة واستمع إلى العازفين الذين تتبدى سحناتهم، انهم قدموا من جهات مختلفة… ولا أنسى تلك المغنية، التي تنمّ عن روح ريفيّة يانعة، بآلتها التي تشبه (الهارب) وقد ذكرتني مع غيرها من نسوة هذه المناطق بنساء (دي اتش لورنس) بفيض الرغبة والألم والجمال..
***
في شرفة المقهى الخارجية يجلس بجانبي رجل شبه مُقْعد، يمشي على عربة يدفعها بنفسه.. المتقدمون في السن أكثر أناقة هنا، تبدو عليهم البشاشة وكرامة الحياة كمعظم مناطق أوروبا، على رغم تراكم السنين والأهوال… الرجل يدخن الواحدة تلو الأخرى وينظر باللامبالاة إلى العابرين رواحاً ومجيئاً، لكنه يحدّق مليا في النساء الجميلات.. عيناه الذابلتان ووجهه الشاحب يشيان بوسامة غاربة… يحدق في النساء المفعَمات شباباً وحيوية.. وحال مشاعره يقول: كم أنتِ ماكرة أيتها الحياة، كم أنت مراوغ أيها الزمن؟! هكذا بضربة صاعقة تنسل الفتوة والنضارة من جسدي لتحل في أجساد أخرى… بالأمس، بالأمس فقط، في المقهى نفسه والشارع، كنتُ أجلس والعالم والأحلام في قبضة يدي، كنت لا أستطيع ضبط مواعيدي، مع تلك اللواتي يشبهن العابرات فتنة وعطراً، في هذه اللحظة. ربما امهاتهن من هذه القرية أو وافدات على الديار.
كم أنت ماكرة أيتها الحياة كم أنت مراوغ أيها الزمن؟! ثم يعود من زوغانه مكملاً علبة السجائر، كعزاء أخير..
***
أشجار الغابة لا تكتسب قيمتها الأسمى، إلا من الانفصال والعزلة، كينونة وأحلاماً… وإلا ستظل جميلة ضمن القطيع الأخضر، الذي يبهج الناظر والسائح بوارف ظلاله السطحية المستطيلة، التي يمكنها أن تحفز أيضا خيال الشعراء على قصائد ومقاربات جماليّة للطبيعة، خاصة إذا كانت مُختَرقة بزنار بحيرات يلتئم في ربوعها شملُ الخضرة والماء – ولنكمل القول المأثور- والوجه الحسن
***
ما للقادم من تلك البلاد الثكلى
وتغريد العصافير، ونشْوة
الشجر المتمايل في تلك الصباحات الغائمة؟
***
خطر لي:
أن الحياة مجازفة مضمونة العواقب،
طالما أن الموت عاقبتُها ونتيجتها الحتمية.
***
ثمار هذه الشجرة الناضجة، مُثْقلة بالدموع،
دموع الأرامل واليتامى في البلاد التي دمرتها الحرب
***
النعاج تركض في الأفق، متبوعة بكباش، في لحظة نزوة وهياج
***
في لحظة احتدام المشاعر أحياناً، تتوحّد دموع الكارثة، مع دموع فرح غامض، في انبلاج ذلك الجدول الجريح من أخاديد الأعماق البعيدة.
***
قال المظلوم والجريح والثكلى: سيأتي يوم الحساب على المجرمين والقتلة، الذين عاثوا في الأرض كل هذا الفساد والانحطاط، في اللحظة القريبة أو بعد حين من الدهر، سيأتي من أقاليم آلامنا المتراكمة، سيصْلي أولئك الأوغاد الحثالة سوء المصير في جحيمهم الخاص.
***
غداة سفري من (بريستن) وكان الطقس الممطر رذاذاً ناعماً رحيماً، «النساء ذاهبات مقبلات يتحدثن عن ميكائيل انجلو» كما يعبر (إليوت) ضيف الشرف الروحي لهذه الرحلة الجميلة.. وكانت الحدائق والغابات، وشارع المشاة بمقاهيه ومطاعمه (مقهى نيرو) وكان الغرباء الذين يتبادلون النظرات في صمتٍ وشرود.
غداة سفري:
(تزوّدْ من شميم عَرار نجدٍ
فما بعد العشيّة من عَرار)
***
سرعان ما تبددت أحلام الإقامة والعمل في لندن أسوة بزملاء ظلوا سنين طويلة، اختاروا تلك البلاد كوطن وملاذ. لم تدم إقامتي أكثر من أشهر ثلاثة أو أربعة، اذ انتقلت إلى بلد آخر، مواصلاً طريقاً بدأته مبكراً في تشظِّي الأمكنة ونَزْف الطاقة والوجوه، على طريقة البدو الرحل، مع اختلاف العصر والوسائل والأمكنة، أولئك الأسلاف ربما خلعوا عليّ فضاءاتهم، مغاورهم وصحاريهم، لا شعورهم الجمعي.. اذ عرّجنا على منجزات التحليل النفسي، لدى (كارل جوستاف يونج) وهو الأقرب إلى أهل الأدب والفن أما (فرويد) الأستاذ، فسيكون بداهة دافع الجنس والنزوع نحو الأنثى، في غذّ أكباد الإبل، بقلب هذا المتاه السحري المراوغ لعمر معين… ولا بأس من المرور على دوافع الإكراه والقمع وأسْر المكان الواحد.. أحد الأصدقاء الذين عاشوا طويلاً خارج «أوطانهم» قال: لا أريد أن يفهمني أحد، خطـأ، فأنا لا أعيش هنا لأسباب سياسية، على كل ما تكبّدتُ وعانيت من زوار الفجر والليل والنهار في بلادي، وإنما لأسباب جمالية، السياسة والسياسيون خونة للجمال والحقيقة، مهما تعدّدت مشاربهم واتجاهاتهم حدّ التناقض والصدام… لم تعد السياسة مجالاً لممارسة القيم النبيلة، كما كان يحلم البعض بل مقبرة لتلك القيم- وربما مزيج من هذا وذاك… هناك تلك الصدفة أو القدر والظروف والدوافع تجنح بالكائن إلى هذا الطريق أو ذاك.
***
هذا الطائر المنتشي بخراب العالم
هذه الشجرة التي تعضّها الرياح والبروق
وتلك الظهيرة، التي أتخيّلها اللحظةَ، تنقرض
تحت حتفها السلالات.
***
يا لفرحي، ويا لألمي، حين شاهدتُ التابوت الذي أنام فيه منذ زمن، ينفتح عن حيّ يمشي بجسد قويّ وروحٍ نقيّة.
***
ذاهبات إلى سهرة الحياة
أولئك النسوة المتبرّجات
يسبقهن العطر الذي يضوّع الحدائق والآفاقَ بأنسامه العميقة العذْبة.
***
يخرج العجوز بقبّعته من الحانة مترنّحاً، يغني أغانيَ رومانسية، لا بد أنها تعود إلى عهد الصِبا والشباب:
«حين يعود (بروفرك) إلى بيته آخر الليل ممتلئاً بالشمبانيا، سنقول له صباح الخير يا بروفرك صباح الخير دائما»
***
نادته من على طاولتها في المقهى، كيف حالك؟
أكثر من مرة نادته، حتى أوقف طريقه منطلقا نحو الطاولات والزبائن. في ردهة المكان لم يتبيّن صاحبةَ الصوت ولم يتذكر النبرة التي تدفع عادة إلى الحنين. رفع يده إلى جبينه، ربما ثمة ضوء أربك نظره الضعيف مثل ذاكرته… أخيراً، وبعد لأي، عرفها… آه، كيف الحال..؟ تابع طريقه حتى غاب عن نظرها، تطلعت إلى فنجان قهوتها ترتشفه كما ترتشف ضوء المغيب..
__________
افتتاحية العدد الاخير من مجلة نزوى وجزء من نص طويل *

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *