خليل قنديل*
( ثقافات )
يتحاشى الواحد منّا احياناً الأمكنة التي تفتح عليه بوابة الذاكرة كلما تقدم به العمر، وعلى الصعيد الشخصي فقد لاحظت اني اتحاشى هذه الفترة الذهاب الى “اربد” وقد هالني حجم التجافي مع المدينة التي شهدت مسقط راسي وكل حماقاتي الطفولية واذا افترضت مجازفاً ان طفولتي كانت طفولة كاتب بامتياز فاني صرت الاحظ على نفسي في زياراتي الاخيرة لها ذلك الحزن العميق الذي تخلفه مشاهدة بعض الامكنة دون ان تتجرح روحي بالتذكر فانا لا استطيع ان احاذي الطريق الملاصقة لتل اربد وتحديدا على بعد عدة امتار من بيت عرار دون ان استرجع خطوتي الاولى المغامرة في اختراق حوش البيت والذهاب الى الى السوق الذي كان يكتظ بالدهشة والرؤى التي يصنعها ازدحام الناس وحيث دكان الوالد.
وبالطبع كنت الاحظ اني احاذر النظر في المدى “السهلي” الممتد من حي المطلع حتى قرية بيت راس التي صارت مدينة ذلك اني كنت احاذر في الوقت نفسه النظر الى رحلات سيران ارتجالية كنّا نقوم بها وسط سيقان سنابل القمح وهي تمنحنا تلك الرائحة العشبية النادرة!!
وقد كان هذا السيران يقودنا الى مغائر هائلة ذات طرق داخلية متعرجة واصوات مصمتة لشقع مياه تنز من بين شقوق الصخور وذاك المقام الترابي الخاص ب”بالخضر الاخضر” وتلك الروائح البخورية التي تجعل المكان مضمخاً بروائح الجنة وكل القديسين!1
نعم صرت احاذر الذهاب الى اربد خوفاً من ان يصطادني شارع السينما هذا الشارع الذي كان يوقظ فيّ فحولة شبابية وانا اطارد فتيات على بوابة البلوغ العمري وارتباك مسام حسرة الجسد المهجور في وقت ميكر وتلك الرائحة العطرية التي تضخها محلات النفوتيهات على الجانبين وواجهة سينما الزهراء التي كانت تضع العرض القادم وهي تولد الحسرة المبكرة عندنا في محاولة تجميع المبلغ الذي يكفي لثمن تذكرة وساندوتش فلافل!!
اما الكارثة الحقيقية في التذكر فتكمن في المرور بجانب مدرسة ابن زيدون حيث نافذة الزجاج المكسور ما زالت كما هي قادرة على ان تعيدني الى الدخول الى الصف الثالث اعدادي”ب” ومشاهدة رفاقي الشباب الذين كانوا في اول عمر الاقبال على الحياة لأتتبع بعد ذلك رحلاتهم مع الغربة واقتناء الامراض حيث السرطان الذي قادهم صاغرين الى قبورهم!!
نعم انا حينما اذهب الى اربد احاول تحاشي ذاكرة تنهش الروح ولا تبقي فيها على اي شيء!!
لذلك لا اطلب من “اربد” الا مسامحتي!!
* قاص وإعلامي من الأردن