أمير تاج السر *
أعتقد أن من أهم الأشياء التي ينبغي على الكاتب أن يمتلكها وهو يمضي في سكة الكتابة -خاصة من احترف كتابة الأعمال الواقعية أو الرواية الممزوجة بالسيرة الذاتية بشكل أو بآخر- هي “ذاكرته”، تلك العصا السحرية التي تمكنه من نبش الماضي بسهولة واستخراج ما يصلح لكتابته وما لا يصلح أيضا من أجل تعديله وتنقيته وإدراجه في النصوص التي ينتجها. ولطالما كانت الذاكرة المدربة جيدا مفتاحا لا يمكن الاستغناء عنه في كل كتابة ناجحة.
الذاكرة هنا لا تقتصر على حياة الكاتب فقط، أي ما عاشه من أيام مضت بخيرها أو بشرّها، ولكن أيضا في استدعاء الخبرات التي اكتسبها بعد أن كبر، مثل دروس اللغة والعلوم المتشعبة التي تعلمها في المدارس وقراءاته لمن سبقوه وأثروا في كتابته ومن انتقدوا أعماله واستفاد من نقدهم، وأيضا من قرؤوا أعماله من القراء العاديين وأدلوا برأي فيها سلبا أو إيجابا.
لكن هل بالضرورة تولد الذاكرة القوية مع كل مبدع مثل موهبته؟
لا أعتقد ذلك، فالموهبة ثبت أنها تولد مع المبدع مع أول نفس في الحياة وترسم له الطريق بعد ذلك. هناك من يولد شاعرا ومن يولد رساما ومن يولد كاتبا، وما عليه سوى اتباع المسار الذي رسم له وتقوية خطواته بعد ذلك باكتساب المعارف التي تخص ذلك الطريق، بعكس الذاكرة التي قد تكون شحيحة بعض الشيء، ولكن بكثير من التدريب يمكن تقوية حبالها لانتشال ما هو بعيد في الماضي ويستحق عناء انتشاله.
“
في قراءة متأنية لما تصطاده الذاكرة الإنسانية عادة، وتحتفظ به لاستدعائه عند الضرورة، استوقفتني السير الموجعة أكثر من تلك المفرحة، بمعنى أن ما يبقى طويلا في الذاكرة هو ما آلم صاحبها أو أحدث صدمة بداخله
”
وقد ساهم عشق الشعر وحفظه وتداوله في الماضي لدى أجيال سابقة من المبدعين في تقوية ذاكراتهم بشدة، كذلك أولئك الذين عاصروا زمن الكتاتيب، أو “الخلاوي” بلغة أهل السودان، حيث يدرس القرآن ويحفظ بواسطة الشيوخ. هؤلاء اكتسبوا ذاكرة مدربة سترتهم كثيرا في ما بعد وسدت فقرات النسيان التي ربما كانت تحوم في ذاكراتهم.
وأعتقد أن كتابا مثل الأيام لطه حسين من تلك النماذج التي كتبت بذاكرة خصبة للغاية، لم تنس أي تفاصيل كان من شأنها أن تثري الكتابة، وكذا أعمال أخرى لأبناء جيله.
وقد شاهدتُ الروائي الراحل خيري شلبي قبل وفاته بعدة أشهر يقرأ شعرا جميلا حفظه من ستينيات القرن الماضي بذاكرة صافية، ولم أستغرب من ذلك، وأعرف كل ما كتبه ذلك الحكاء العظيم معتمدا فيه على ذاكرته.
في قراءة متأنية لما تصطاده الذاكرة الإنسانية عادة وتحتفظ به لاستدعائه عند الضرورة استوقفتني السير الموجعة أكثر من تلك المفرحة، بمعنى أن ما يبقى طويلا في الذاكرة هو ما آلم صاحبها أو أحدث صدمة بداخله، مثل معاصرته لحرب أهلية أو مجاعة أو كارثة ما، أو تعرضه شخصيا لحادث طارئ.
في الطب النفسي يوجد ما يسمى أعراض ما بعد الحادث، تلك التي تستعيدها الذاكرة مرارا ولا تمل من استعادتها وغالبا في شكل كوابيس ليلية، لذلك تجد مادة خصبة عند الكتاب والشعراء الذين عاصروا الحروب العالمية وتشردوا أو فقدوا أحباءهم بسببها، ومن عاشوا حروب أفريقيا الأهلية، والذين عاصروا نكبة فلسطين في بدايتها وحرب العراق الحديثة.
وكل ذلك أنتج أدبا رفيع المستوى، ليس في فنياته بالضرورة وإنما في غنى الذاكرة التي دلقته بعد ذلك. وكلنا يعرف ما كتبه شعراء مثل معين بسيسو وكتّاب مثل إميل حبيبي عن الأزمة الفلسطينية.
من العوامل الأخرى في تدريب الذاكرة مسألة الاغتراب، أي أن يفارق المبدع وطنه لفترة طويلة، هنا تأتي مسألة الحنين القوي للوطن، مما يوقد الذاكرة بشدة ويجعلها تستدعي كل لحظة عاشها المبدع في الوطن حتى لو كانت بلا معنى، مثل أن يتذكر طفولته في الحواري والأزقة وسط أصدقاء يستدعي ملامحهم أيضا، يتذكر حبه الأول لفتاة الجيران ويتذكر أي سلوى عابرة يمكن أن تطفئ الحنين.
هنا يعمل الكاتب بلا وعي منه في تدريب ذاكرته باستمرار، وبالتالي يحتفظ بمفتاحه السحري جديدا ولامعا وجيدا لاستخدامه في أي كتابة يكتبها.
لقد تعرض غابرييل غارسيا ماركيز لمسألة الحنين هذه في روايته “الحب في زمن الكوليرا” ووصفها بأنها تملك حيّلا شرسة ومتنوعة لجر المغترب إلى وطنه، وأضيف لوصف ماركيز أنها تملك أيضا مزيلا للصدأ عن الذاكرة.
“
العزلة بمعناها الجسدي والنفسي أيضا من وسائل التعليم الكبرى التي تدرب ذاكرة المبدعين. وتعتبر السجون من الأماكن التي تتيح العزلة بجدارة
وتشحذ فيها الذاكرة
”
ورواية مثل “موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح التي كتبها أثناء اغترابه الطويل في لندن الذي استمر حتى وفاته، أعتقد جازما أن الحنين أثر فيها بشكل أو بآخر وأوقد ذاكرة مبدعها، لتخرج رواية خالدة. وروايته “عرس الزين” أيضا كانت عن شخصية عاصرها صغيرا وكتب تفاصيلها كلها في مغتربه البعيد.
في رواية لي اسمها “العطر الفرنسي” كتبت عن مسألة تدريب الذاكرة لدى بطل الرواية “علي جرجار” الذي كان يقاوم الشيخوخة بذلك التدريب اليومي. كتبت أحداثا تذكرها أثناء انهماكه في تدريب ذاكرته مثل زجاجة عطر “الريفدور” التي سقطت من رف في بيت أسرته وانكسرت، ومثل شاي سقطت عليه ذبابة ذات مساء. وقد كنت بلا وعي مني أكتب بعض الأحداث التي أتذكرها من طفولتي شخصيا.
والذين قرؤوا رواية “قصة عن الحب والظلام”، تلك القصة المدهشة للإسرائيلي عاموس عوز، لا بد يستغربون من تلك الأصداء المتلاحقة من زمن بعيد لطفل جاء إلى “أرض الميعاد” بصحبة أهله وعاش طفولة غريبة في وطن أقنعوه بأنه وطنه، وهو يرى أهل الوطن الحقيقيين منفيين في وطنهم.
أعتقد أن ذلك كان وليد ذاكرة دربها عاموس على أن تشع بتلك العنصرية، وتلتقط كل ما كان من شأنه أن ينتج أدبا مواليا تماما للمشروع الإسرائيلي الكبير.
العزلة أيضا من وسائل التعليم الكبرى التي تدرب ذاكرة المبدعين. العزلة بمعناها الجسدي والنفسي، أن ينعزل المبدع عن الخارج المحيط به ويبدأ في تشييد عالم داخلي خاص به، وليس ثمة صلة وصل بينه وبين الخارج سوى الذاكرة التي تحصل على تدريب جيد بلا شك، والسجون تعد من الأماكن التي تتيح العزلة بجدارة وتشحذ فيه الذاكرة.
ومن قرأ أدب السجون يقرأ بجانب معاناة السجين اليومية حصاد ذاكرته، التي كانت تحلق في الماضي باستمرار، وتلتقط أنفاسا من الحرية عاشها المبدع ذات يوم. وأظن أن صنع الله إبراهيم من الذين كتبوا عزلة السجون بذاكرة مضيئة، وكذلك أدباء آخرون من تونس والمغرب وسوريا.
( الجزيرة نت )