حين أكلتني دودة الأرض!


فراس الهكار*

خاص ( ثقافات ) 
هآنذا ما زلت كما أنا، نصف بدوي وربع حضري، أما ربعي الأخير فأكلته دودة الأرض حين دفنته جدتي مع سرتي قرب سور المدرسة الجنوبي، تؤمن أمي بخرافات القبيلة، ورثت تلك الخرافات عن جدتي، وورثت أنا عنها الإيمان بالخرافة التي تقول: “عندما يقطعون حبلك السري عن المشيمة يجب أن يدفنوه في أماكن ذات قيمة اجتماعية كي تضمن لك حياة هانئة”.

زوجة الإمام أخبرت جدتي أنها رمت سرة بكرها في أساسات المسجد أثناء عمليات البناء، إلا أن ابنها لم يكن يفارق خيم الغجر حيث تزوج إحدى بناتهم وهرب معها!!
أسرّت لها جدتي أن شرط النجاح يكمن في دفن السرة بالتراب، الإسمنت والحديد يفسدان الأمر، إن لم يأكلها الدود لن يتحقق المراد. 

لم أبكِ في يومي المدرسي الأول كبقية الأطفال، كنت فرحاً بسندويشة الزعتر وباللباس الجديد وربطة العنق وصورتي الأولى، والليرة التي سأصرفها لوحدي وأشتري بها ما أريد من ندوة المدرسة، يبدو أن الدودة ابتلعتني، بل اعتقد أنها ابتلعت الطعم وما تيسر لها مني.

فرحت جدتي كثيراً وأعطتني ليرة أخرى بعد المدرسة، بقيت مؤمنة بالخرافة إلى أن بدأت أسرق بقايا الطباشير بعد كل حصة مدرسية، وأرسم بها صندوقاً هندسياً نرمي فيه حجرة ونقفز على قدم واحدة من مربع إلى آخر، لعبة (الكرنجي) للفتيات لكننا نتطفل عليهن بسطوتنا القبلية الذكورية، فلا لعب في الحي لمن بدأ نهدها يشق طريقه للحياة. 

أخذوني في عطلة الصيف إلى الكتّاب، زوجة الشيخ محمد صديقة والدتي، أخبرتها أن عيناً أصابتني ولعل حضوري دروس المسجد يُعيد لي رشدي، وأوصت بي الشيخ خيراً.

أبجد هوز حطي كلمن ودودتي التي تهوى الأدب جعلتني كارهاً للرياضيات والفيزياء والكيمياء حتى يومنا هذا، رغم أني قضيت يومين في حويجة الذخيرة على ضفاف نهر الفرات حتى أمسكت بضفدعة، وضعتها في طاقيتي وعدت بها أحلم بخمس درجات في دفتر الأستاذ جورج مدرس مادة العلوم، بعد أن خدرها وسلخ جلدها وأخرج أعصابها وجهازها التناسلي، وحدثنا عن طعمها اللذيذ، بقيت حتى هذه اللحظة أخاف من لعنتها التي يمكن أن تصيبني..

أخبر أحد الطلاب الشيخ محمد بما فعلته، وأقام الدنيا ولم يقعدها، كيف تفعل ذلك؟
الضفدع حيوان مبارك، كان يحمل الماء في جوفه ليطفئ النار التي أشعلها الكفار لرمي النبي إبراهيم الخليل، بينما ينفخ (البريصي) أو الوزغ في النار كي يؤججها..
اعتقد أن الثألولة التي ظهرت في أصبعي لاحقاً بسبب لعنة تلك الضفدعة المسكينة، تباً لكتاب العلوم، تباً للأستاذ جورج، عاش الشيخ محمد.

مضت السنون بعجالة، وأصبح الشيخ محمد قاضياً باسم السماء، ولم ينسَ حكاية الضفدعة المسكينة، والتي لم تقتصر لعنتها على ثألولة نمت في أصبعي، بل حلت على المدينة كلها، سطوا على كل شيء، سرقوا حتى الهواء، وعلقوا الأستاذ جورج على سور القلعة القديمة، وسلخوا جلده كما فعل بالضفدعة لكنهم لم يخدروه، نزعوا جلده حياً، وصلبوه على جرس الكنيسة سبع ليالٍ، وأوقدوا ناراً رموه فيها ووزغاتهم تنفخ فيها حتى تستعر ويفنى جسده.

بحثوا عني في شوارع المدينة، قرب ضفاف النهر، نبشوا قبر سرتي، لم يجدوا سوى حروفي تلاحقهم، أطلقوا عليها الرصاص فأدموها حبراً جديداً يكتب فصلاً من فصول الحياة. 

* صحافي سوري

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *