*حوار: علي عبيدات
خاص ( ثقافات )
بين مؤلفات ونقديات وأرشفَة الناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم، يسعى الباحث عن السينما وأحوالها أن يجد كيّاناً نقدياً مستقلاً لا يختلف عن حفرياته النقدية في باب الدارسات الأدبية والإصدارت القصصية والشعرية التي خطها السينمائي عبر ديناميّته الأدبية، وكذلك الحال في باب أرشفَة الفن السابع الفلسطيني نجد العديد من الكتب، منها: «السينما الفلسطينية في القرن العشرين» (سلسلة الفن السابع – وزارة الثقافة، دمشق، 2001)، و«ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة (ميشيل خليفي، رشيد مشهراوي، إيليا سليمان)» (دار المدى للثقافة، دمشق، 2004) و«فلسطين في السينما العربية» (سلسلة الفن السابع – وزارة الثقافة، دمشق، 2005).
وعلى صعيد السينما السورية كتب بشار ابراهيم «سينما القطّاع الخاص في سورية» (سلسلة الفن السابع – وزارة الثقافة، دمشق، 2006) مهمّ جداً. وله أيضاً: «رؤى ومواقف في السينما السورية» (دار علاء الدين، دمشق، 1997) و«ألوان السينما السورية (قراءة سوسيولوجية)» (سلسلة الفن السابع – وزارة الثقافة، دمشق، 2003) وهذه الأيام يعمل بشار ابراهيم محكماً للعديد من الأعمال السينمائية في عالمنا العربي، ويكتب المقالات النقدية في هذا الباب في العديد من الصحف العربية.
التقت ثقافات بالناقد السينمائي بشار ابراهيم وأجرت معه الحوار الآتي:
بعد اتسّاع الفجوة بين القيم الإنسانية والقوى الظلاميّة التي تفتك بآدمية الشرق والعرب تحديداً، زاد الحديث عن التنوير والاصلاح الديني والنقد الثقافي والتصدي للفكر الظلامي باستخدام الآداب والفنون وكل ما يربط الانسان بالعالم. أين السينما من هذا كله؟
لا تختلف السينما عن سائر وسائط وأدوات التعبير والتواصل الإبداعي، من ناحية دورها وضرورتها في سياق الكفاح الإنساني لأجل عالم أفضل، بل لعل السينما بما تمتلكه من إمكانات سمعية بصرية، مسموعة مرئية، وقدرة على الانتشار والوصول، وتجاوز حواجز اللغة، واستلهام الآداب وتمثّل الفنون جميعها، بدت الأقدر على ممارسة حاسمة في هذا المجال، خصوصاً في هذا الوقت، الذي من أبرز سماته أنه عصر «ثقافة الصورة»، عزّز من ذلك أن السينما، وهي الفن الأكثر اتصالاً بالثورة التقنية، هي أيضاً الأكثر تفاعلاً مع العصر والتحديث والتمدين، والتطلّع إلى المستقبل.
لكن، في الوقت نفسه، ينبغي علينا الانتباه إلى أنه من المؤسف أن تاريخ السينما العالمية الرسمي، والمتعارف عليه، لم يرتبط دائماً بمهمات التنوير الفكري، ولا الإصلاح الديني، بل ربما بمهمات ظلامية، من طراز ما يمكن استشفافه من فيلم «محاكمة درايفوس» لجورج ميليه، مبكراً في العام 1899، وهيمنة السينما الإمبريالية، والعنصرية («مولد أمة» و«التعصب»، لغريفيث في العامين 1915 – 1916)، وانتباه الحركة الصهيونية، قبل أن تنتبه القوى الصاعدة تاريخياً لأهمية السينما، ودورها، والمساهمة الفاعلة في صناعتها («المدرعة بوتمكين» لإيزنشتين 1925، و«الأم» لبودفكين 1926)، وقبل أن تصل السينما إلى بقاع قصيّة في العالم، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بعيداً عن المركزية الأوروبية والأمريكية الشمالية، حيث كان على السينما أن تكون أداة ثورية، وأن تقوم بدورها التحريضي الدعائي التثويري (التنويري)، وإن بقليل من المعايير الفنية والتقنية.
وبعبورها للمنعطفات الحادة التي مرّت بها خلال القرن العشرين، خاصة ما قبل الحربين العالميتين، وبينهما، وبعدهما، وما تلاها من الحرب الباردة والتقاطب الكوني، وصعود حركات التحرر والاستقلال الوطني، والثورات، لعبت السينما صوتاً وصورة وصدى إبداعياً على قدر من الأهمية، إلى درجة أنها تمثل الذاكرة البصرية التي لا تنطفئ لهذا الحراك، والأرشيف النفسي والوجداني والفكري للقضايا الكبرى، الوطنية والقومية والإنسانية، ريثما يتم الانتقال، مع العقد الأخير من القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين، من زمن القضايا الكبرى إلى زمن التفاصيل الصغيرة، حيث تبدّى الإنسان وشؤونه وشجونه؛ آلامه وآماله، في مقدمة المشهد السينمائي، ساعياً إلى التغيير بوصفه جوهر القضايا؛ التغيير المرتبط بالتنوير الفكري، والإصلاح وتجديد الخطاب الديني، والتصدي للفكر الظلامي، والقهر والتعسف والإرهاب. التغيير المرتبط بممارسة النقد، وحرية الرأي والتعبير وكرامة الإنسان.
هل ترى النسخ الفوتوغرافي الآلي للظواهر في السينما المصرية نافعاً، وقد امتلأت الشاشة الكبيرة بالقاذورات والعوالم السفلية والقتل والجنس وصراعات البقاء، فكيف يمكن أن نستثمر الظواهر المؤلمة للتنوير؟
أرى أن في السؤال شيئاً من التعسف. إذ ليس من المهم أن تمتلئ الشاشة بـ«القاذورات» أم بـ«الورود»، كما أن الأمر ليس حكراً على السينما المصرية، من دون غيرها. ما يهمّ في الأمر هو: ماذا تعرض هذه السينما، وكيف تعرض؟ وبالاعتقاد إن التمييز بين نسقي السينما الجادة والسينما التجارية يقوم على هذا الفارق الجوهري، بل إن بعض أفلام السينما الجادة، ذات الدور التنويري، كانت صادمة، بما قدّمته على الشاشة من «القاذورات والعوالم السفلية والقتل والجنس وصراعات البقاء»، على ما ورد في السؤال، أكثر ما يمكن لفيلم سينمائي أبداً أن يفعل.
عانت السينما المصرية، كما نعرفها، في كثير من مراحل مسيرتها من هيمنة السينما التجارية على إنتاجاتها، فيما بقيت السينما الجادة (ذات الدور التنويري) تكافح لإيجاد موطئ قدم في سوق السينما المصرية، الذي بدا من جهته طارداً لهذه النماذج من السينما الجادة، أو السينما المستقلة، تماماً كما بقيت هذه السينما عاجزة، من جهتها، على المنافسة عبر شباك التذاكر، وصار من المُنتظر أن تكتفي بالاعتبار والتقدير في المهرجانات والعروض الثقافية، الأمر الذي لا يضخّ دم المال الكافي في شرايين دورتها الإنتاجية، فتتجه نحو الضمور والاضمحلال.
ربما يكون من المفارقة أن السينما التجارية المصرية انتقلت، في تقاطب شديد الغرابة، ما بين مراحل تزيين الواقع وتجميله (سينما التلفونات البيضاء)، التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين، إلى مراحل قاع الواقع وتمريغه (سينما العشوائيات والهلس)، وهي في الحالتين لم تلعب أي دور تقدمي أو تنويري، ليس من خصائصها، ولا من جوهرها، وبالتالي يبقى الرهان على السينما الجادة. السينما المستقلة. سينما النقد والمساءلة.
تُعْرَفُ بلدان المغرب العربي باختلاف الرؤى السينمائية والمشارب والمدارس التي ينتمي لها المخرجون هناك، وثمة أعمال سينمائية مهمة وتحصد الجوائز برؤى أصحابها وأساليبهم المتعددة، فهل سنكون أمام تنوير مجزأ -إن حدث- بنكهات مختلفة وفق المدارس هناك، فبعضهم محسوب على معاهد فرنسية، وآخرين ينتمون بثقافتهم السينمائية إلى أوروبا الشرقية؟
يبحر المغرب العربي في عالم السينما كما لو أنه قارة بذاتها. ثمة عالم سينمائي مغربي يمتدّ على تنوعه واختلافه، في تألق، من تونس فالجزائر إلى المغرب، تتمازج فيه ثقافات عربية وأفريقية ومتوسطية وأوروبية، وتترك ظلالها عليها، ذاك ما يمكن ملاحظته من خلال مقاربة الإنتاج السينمائي المغاربي، عبر أجياله، خاصة في العقود الأخيرة، حيث أمكن لبعض الأفلام أن تقوم بعملية مراجعة ونقد وتحليل، بما فيها المآزق السياسية والوطنية التي مرّ بها بلدان المغرب العربي، عزّز من ذلك توفّر الإرادة السياسية الساعية للخروج من المأزق التاريخي، وإمكان حركة السينمائيين المغاربة، داخل بلدانهم وخارجها، وانفتاح آفاق العمل السينمائي من النواحي التقنية والإنتاجية.
صحيح أن اللغة الفرنسية حاضرة، بل سائدة وربما مهيمنة، إلى درجة أنها تزاحم اللغة العربية ذاتها، لكن هذا لا يمنع من أهمية رؤية الخصوصة المغاربة (تونسية، جزائرية، مغربية) الحاضرة في كثير من الأفلام. ربما تطغى ثورة التحرر الجزائرية على الأفلام الجزائرية، لكن رؤية المشهد بعين أكثر اتساعاً سوف تنبهنا إلى نبرات سينمائية ذات منحى تنويري، تثير أسئلة الهوية، والوطن والمنفى، والمدينة والريف، والأصالة والحداثة، والمرأة والطفل، والماضي والحاضر والمستقبل، والهيمنة والاستبداد السياسي والفكري، والظلامية، والجهل والتخلف… ذاك في أفلام أتت بتوقيعات أسماء كبيرة في عالم السينما المغاربية والسينما العربية، وليس من المبالغة القول إن هذه السينما أمكن لها الحضور عالمياً في شكل متميز.
السينما الفلسطينية التي أفرّد لها بشار إبراهيم سنوات طويلة من حياته بين الأرشفة والتدوين والنقد وإحياء بعض الأعمال التي نال منها الزمن بتسليط الضوء عليها من جديد، أين هذه السينما العظيمة من التنوير وكيف سيكون السيناريو التنويري في سينما بلد يناضل ويرصد الآم الاحتلال ويتوجب عليه أن يكون شريكاً في التنوير؟
تبدو السينما الفلسطينية وكأنها محكومة قدرياً بأن تكون سينما الثورة، وبالتالي سينما التحرير والتنوير والتغيير… ولم يكن للسينما الفلسطينية أن تخيّب الظنّ في هذا الصدد، حتى لو كان ثمة من النقاد من كان يرى أن التحريضية والدعائية، التي اتسمت بها السينما الفلسطينية في سنواتها الأولى، تتنافى مع مهمات التنوير، التي من المفترض أنها تتعامل مع العقل لا مع العواطف، ومع الفكر لا مع المشاعر. السينما التي تثير الأسئلة ولا تقدم الأجوبة.
وفضلاً عن الجدل النقدي الفكري والفني المُصاحب لها، بقيت السينما الفلسطينية وفية للتصوّر الأولي الذي ربط كافة فعاليات الشعب الفلسطيني الإبداعية والتعبيرية بمقتضيات القضية الفلسطينية، أولاً وتالياً، مما جعلها في خندق المواجهة ضد الصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية، وما يرتبط بهذه المواجهة من انحياز لقيم الديمقراطية والحرية والعدالة، وتزاوج أهداف الثورة الوطنية والثورة الديمقراطية، ليس فقط من أجل كنس الاحتلال وتحرير الأراضي المغتصبة واستعادة الحقوق، بل إدراكاً أن هذا لن يتحقق إلا بتحقق ذاك.
السينما الفلسطينية التي رصدت أولى أفلامها لمواكبة الكفاح المسلح والعمليات الفدائية، وفضح الاعتداءات الصهيونية الهمجية، والمجازر الدامية التي ترتكبها عصابات الاحتلال، انتقلت شيئاً فشيئاً إلى مساحات موازية، منها الدور الاجتماعي الذي ينبغي أن يواكب الحراك الثوري ويسانده، ويعضده، لنجد خلال سنوات قليلة من ولادة السينما الفلسطينية أفلاماً تتحدث عن دور المرأة والطفل والشاب، فتربط الاجتماعي بالسياسي، والوطني بالديمقراطي، والوطني بالقومي، في إطار قوى اليسار العالمي، وتحالف العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، معبراً عنها بالثورات الكبرى التي شهدها القرن العشرين، ومستلهماً النماذج الثورية الكبرى في التاريخ الإنساني.
ومع التيار الجديد في السينما الفلسطينية، والذي كان أبرز ما فيه الاهتمام بالإنسان بوصفه قضية وموضوعاً، والبحث في شؤون علاقته بنفسه وبمحيطه، برزت الاتجاهات النقدية التي ناقشت حال الفلسطيني في وجوده ومصيره، في حاضره ومستقبله، ليس وفق شروط المعطيات السياسية (الوطنية أو الحزبية أو الفصائلية) فقط، بل مع ذلك وبالتشابك معها شروط المعطى الاجتماعي والاقتصادي والفكري والثقافي، وفي هذا النقاش برز السؤال والجدل والنقد… ولم تعد السينما الفلسطينية سينما ثورة فقط، بل إضافة إلى ذلك سينما إنسان يبحث عن مكان تحت الشمس، يريد الحياة بعيداً عن الاحتلال واللجوء والمنفى والقهر والغربة.
تقدم دول الخليج العربي، وتحديداً الإمارات، اهتماماً كبيراً بالسينما العربية كما تقدم للأدب والفنون، وأنت تشغل منصب رئيس تحرير النشرة اليومية التي تصدر خلال «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، ولك اطلاع كبير على دور الامارات وباقي الدول في دعم السينما، ماذا ينقصنا بين هذا الدعم وتلك الاهتمامات ليكون الفن السابع تنويرياً؟
لو تأملنا قائمة بأسماء الأفلام السينمائية التي جرى دعمها من خلال برنامج «إنجاز» المُخصّص لدعم الأفلام العربية من «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، وكذلك الأفلام التي جرى دعمها من قبل صندوق «سند»، في أبوظبي، لوجدنا أن السمة الأعمّ لهذه الأفلام أنها تنتمي إلى تيار السينما الجديدة، تلك التي يتولاها غالباً مجموعة من السينمائيين الشباب الذين يحملون هموم مجتمعاتهم وأوطانهم في ثنايا أفلامهم السينمائية، فيثيرون الأسئلة الملحة ذات العلاقة بالوجود والهوية والذاكرة الجمعية والمصير والمستقبل، والتحديات والإمكانات..
.
وليس من المبالغة القول إن أفضل ما أنتجته السينما العربية خلال العقد الأخير من السنوات، هي تلك الأفلام التي لقيت دعماً وتمويلاً من دبي، وأبوظبي، والدوحة. فعلى مستوى المضامين اتسمت بالجرأة والشجاعة والصدق، وعلى مستوى الأشكال طرقت جوانب من التجريب والتجديد، وأمكن لبعض منها أن يسجّل حضوراً جيداً في المهرجانات العالمية الكبرى، والوصول إلى القائمة القصيرة في ترشيحات الأوسكار، ناهيك عن الجوائز المرموقة في أنحاء العالم. ومنها أفلام وصلت إلى صالات العرض الجماهيري، خارج الوطن العربي، ونالت نصيباً من النجاح.
بالموازاة مع ذلك، وبالاحتكاك به، يمكن رصد نبرات من التطوّر الحاصل في السينما الإماراتية، والخليجية، متمثلاً بعدد من الأفلام الروائية الطويلة، والوثائقية، والقصيرة، مما بتنا نشاهده خلال العقد الأخير من السنوات، موقعاً بأسماء خليجية، لسينمائيين وسينمائيات، يرسمون المشهد السينمائي الإماراتي والخليجي، الذي لم يعد من اللائق التعامل معه باعتباره طفلاً صغيراً يحبو على طريق السينما.
_______
*شاعر ومترجم من الأردن.