حسين السلمان*
يتردّد كثيراً في أدبيات النقد السينمائي الغربي بل والعربي أيضاً، تعبير “السينما الخالصة” Pure Cinema أو السينما الصافية، وفي سياق الكثير من المقالات النقدية كثيراً ما يصف النقاد أفلاماً معينة بأنها تنتمي الى “السينما الخالصة”، لكن الملاحظ أنه كلما زاد استعمال هذا التعبير أو المصطلح في الكتابات النقدية، كلما قلّ وضوحه أو مدى فهمنا له، فالتعبير يستعمل عادة في سياق النقد التطبيقي، أي في إطار الكتابة عن فيلم محدد ترتسم له في أذهاننا صورة محددة بتفصيلاتها، ولكن من دون أن نملك العودة الى تلك التفصيلات وتطبيقها على ما يذكره الناقد من مبررات لوصفه الفيلم بذلك الوصف المثير للإعجاب، فغالباً ما يأتي التعبير من دون شروح أو تنظيرات محددة، بل في سياق إبداء الإعجاب بالفيلم والرغبة في خلع صفة “السينما الخالصة” عليه.
ويعتقد كثيرون أن “السينما الخالصة” وصف يُطلق عادة على الأفلام التي تعلي كثيراً من شأن التعبير الدرامي عن طريق الصورة، أو ربما تعتمد على الصورة فحسب، وتقلل كثيراً من شأن الحوار أو تلغي وجوده تماماً، أي إن السينما الخالصة تعبير مرادف للسينما الصامتة (المصحوبة بالموسيقى فحسب). وهو اعتقاد خاطئ تماماً، فالحوار جزء أساسي من الفيلم ليس من الممكن الاستغناء عنه، وهو لا يلغي خاصية نقاء الفيلم أي تخلصه من المؤثرات الأخرى الآتية من المسرح والأدب وغير ذلك من الأجناس الفنية الأخرى.
كان ألفريد هيتشكوك، الذي يعدّه بعض النقاد والمؤرخين، أحد أساتذة “السينما الخالصة” في العالم يقول إن “الصور الفوتوغرافية لأناس يتكلمون لا علاقة لها بفن السينما” وكان يدعو إلى ضرورة “رواية القصة بطريقة بصرية وجعل الحوار جزءاً من الجو العام”.
البحث في البدايات
ولكن دعونا أولاً نبحث عن بدايات ظهور هذا المصطلح أو الصفة النقدية، من المسؤول عنها وإلى أي عمل سينمائي منحت أول ما منحت.
كان السينمائي الفرنسي هنري شوميت في العشرينيات من القرن العشرين، هو أول من استعمل تعبير “السينما الخالصة” لوصف فيلميه القصيرين التجريديين “انعكاسات الضوء والسرعة” كان شوميت يستعمل في الفيلمين الإيقاع والحركة والضوء والتكوين، ولكن ليس بغرض تجسيد قصة ما، بل بنحو تجريدي لتوصيل احساس ما بالتجربة الجمالية الخاصة التي يوظف تقانات السينما في تجسيدها. وربما يكون شوميت قد وضع الأساس العملي للسينما الخالصة لأنه لم يكن يؤمن مثلاً بأن الفيلم مجرّد وسيلة أخرى لرواية قصة تختلف عما يستعمل في المسرح والرواية، بل كان مؤمناً بأن السينما فن قائم بذاته، مستقل عن غيره من الفنون، أي لا يترمم على الفنون الأخرى ولا يقتبس منها، بل وسيلة لخلق فضاء سينمائي خاص يمكنه توصيل احساس خالص ممتع، وهو إحساس لا يشعر به المتفرج في حالة الموسيقى والرقص والمسرح والرواية والتصوير الفوتوغرافي.
وقد أسس شوميت حركة “السينما الخالصة” في باريس مع عدد من السينمائيين مثل مان راي ورينيه كلير وفرنان ليجيه والسينمائية الفرنسية جيرمين دولاك.
السينما الخالصة
والسينما القصصية
من الناحية النظرية يمكن القول إن نظرية “السينما الخالصة” مضادة لـ”السينما القصصية”.. أي للسينما ذات السياق القصصي التي تعتمد على تقديم شخصيات وأحداث في إطار زماني ومكاني محدد مهما اختلفت الأماكن وتداخلت الأزمنة وذلك بغرض توصيل “رسالة” ما عن طريق “القصة” أو “السياق القصصي”، في حين السينما الخالصة هي شيء أقرب الى الموسيقى بتجريديتها، فهي أولاً تتخلص من عقدة القالب القصصي لأن هدفها ليس رواية قصة داخل سياق، أي التعبير عن أفكار “أدبية” في الفيلم، بل تحرير الفيلم من سطوة الأدب والمسرح، والسعي لتوصيل أحاسيس ومشاعر وخلق حالة ذهنية واثارة الأفكار من الصورة، والفضاء، والتداخل بين الصور، والتناغم بين الألوان، والإيقاع، والحركة.. إلخ.
أما من الناحية العملية الأقل غلواً في التطرف، فالسينما الخالصة هي السينما التي تملك وسائل “سينمائية خالصة” للتعبير عن الموضوع أو بالأحرى عن “الرؤية” الخاصة للسينمائي، للمخرج المبدع (في مقابل المخرج الحرفي). هنا سنجد مثلاً أن أكثر الجوانب الفنية في العمل السينمائي سينمائية، هي حركة الكاميرا، والمونتاج أي الايقاع الذي ينتج عن توليف اللقطات، واستعمال الزمن السينمائي (وهو غير الزمن الواقعي بالطبع) والمونتاج عنصر أساسي أيضاً في خلق ذلك الزمن السينمائي. لكن السينما الخالصة تعتمد أيضاً على الاستعمال الفني للإضاءة والصوت والموسيقى والألوان والتكوين التشكيلي في اللقطات بوصفه جانباً بصرياً بالدرجة الأساسية وليس أحد جوانب الشرح، أو الحكي اللفظي كالحوار (الذي يعد سمة المسرح) مثلاً.
السينما الخالصة ليست إذاً، سينما “تجريدية” أو مجردة بالضرورة، بل يمكن أن تصوغ قصة ولكن عن طريق اللغة البصرية- السمعية والتلاعب بتلك الأدوات من أجل توصيل حالة ذهنية أو حالة شعورية لدى المتفرج، وهذا ما كان يحاوله بل ويعبر عنه، سيد دراما التشويق الفريد هيتشكوك.
هيتشكوك المؤلف المبدع
إن بناء اللقطة والمشهد في السينما الخالصة (كتكوين وحركة وضوء وصوت) أهم كثيراً من بناء الشخصيات والحبكة، لكن في حالة هيتشكوك تحديداً، نجد أنه نجح في تطويع الكثير من عناصر السينما الخالصة في أفلامه. كان هيتشكوك يؤكد في الكثير من حواراته أن اهتمامه في أفلامه بخلق تأثيراً شعورياً في المتفرج عن طريق المونتاج أهم من القصة، وأنه كان يقدم الاهتمام بالتقانة على المضمون.
وتأمل الكثير من أفلام هيتشكوك مثل “دوار” أو “سايكو” وغيرهما، يكشف لنا أن التأثير الأكبر فينا كمشاهدين كان مصدره في الحقيقة، اعتماد هيتشكوك أسلوب الصدمة الذي يقوم على الصورة والحركة والموسيقى والمونتاج أكثر مما يقوم على التجسيد التمثيلي وبناء الشخصيات والحبكة وتصميم المشهد. كان هيتشكوك يعتقد مثلاً أن الفيلم ليس رواية ولا لوحة ولا مقطوعة موسيقية، لكنه يحتوي على عناصر أدبية وتشكيلية وموسيقية. ولعل ما يميز الجمع بين كل هذه العناصر الثلاثة (الأدبية والتشكيلية والموسيقية) في السينما الخالصة هو المونتاج، أي القدرة على التلاعب بالصور، بتعاقب اللقطات، باعادة تركيب المشهد بحيث يعكس رؤية المخرج، ما يريد أن يحدثه من تأثير شعوري في المتفرج، في هذه اللقطة تحديداً أو في هذا السياق المركب من اللقطات لدفع الفيلم الى الأمام ولكن ليس بمنطق تطور الأحداث فقط بل بتدفق التداعيات التي تكمن داخل مشهد ما.
تجارب دزيجا فيرتوف
قبل هيتشكوك بزمان، كان هناك دزيجا فيرتوف الذي عد فيلمه الشهير “الرجل والكاميرا” (1929) أنموذجاً حقيقياً من “السينما الخالصة”.
في هذا الفيلم الذي عده بعضهم اعلاناً عن “الاكتشاف الأكثر إثارة للسينما كفن”، يلغي فيرتوف الجانب القصصي تماماً. إنه بالطبع يلغي الجانب الدرامي التمثيلي، ويستعمل صورة مطبوعة فوق صور أخرى لرجل يصور بكاميراه السينمائية، يصور كل شيء، يحاول أن يرصد الحياة في سيرورتها وحيويتها: امرأة تنهض من الفراش، ترتدي ملابسها، امرأة تتجه للعمل، رجال يعملون، امرأة تضع مولودها، المولدة تحمل الطفل المولود وتبتعد.. وغير ذلك.
قام فيرتوف بتصوير كل لقطات فيلمه بمعزل بعضها عن بعض. لم يكن في ذهنه أصلاً أن يصنع فيلما له سياق قصصي، يروي قصة ما حتى على الصعيد التسجيلي، بل كان يصور وكأنه يكتشف شذرات من الحياة اليومية للبشر، يسجلها ويقوم بتخزينها لكي تأتي المونتيرة العظيمة اليزابيثا سفيلوفا بعد ذلك لتتأمل في كل ما حصل عليه من مواد مصورة، وتعيد ترتيبها في سياق ما لتمنح الفيلم تلك الشاعرية.
ان فيرتوف يرغب أساساً في كسر فكرة الفيلم القصصي المحكم الذي يروي قصة واضحة المعالم والشخصيات والأحداث، ويتحرر تماماً من قالب الفيلم الروائي. وكان يرغب مع مصوره (وهو شقيقه) ميخائيل كوفمان، في الحصول على اللقطات الحية من دون أن يلحظ الناس وجود تلك الكاميرا الضخمة التي كانت في ذلك الوقت ليس فقط ملحوظة شكلاً، بل كانت أيضاً تصدر أصواتاً مزعجة تلفت الأنظار. ولذلك قاما بحرف الأنظار عن الكاميرا باستعمال آلة تصدر صوتا يطغى على صوت الكاميرا وتجذب الأنظار اليها بعيداً عن الكاميرا.
استخدم فيرتوف الكثير من الحيل السينمائية مثل الصور المزدوجة والحركة السريعة والحركة البطيئة وتثبيت الصورة واللقطة القريبة جداً واللقطات التي تتعاقب من دون مراعاة للانسيابية والشاشة المقسمة الى صورتين أو أكثر، واللقطات المتحركة للكاميرا وعرض مجموعة من اللقطات بعد اعادة ترتيبها عكسياً، والهدف من كل هذه الطرق السينمائية، كسر فكرة السياق السردي المنطقي التي كانت (وما تزال) سائدة في الفيلم الروائي. كان فيرتوف متأثراً كثيراً بالشكلانيين الروس، وقد أراد أن يحرر الفيلم من الأدب والمسرح، ويجعله فناً خالصاً مستقلاً قائماً بذاته، يعتمد على الصور وتعاقبها وعلى الحركة الداخلية (عن طريق حركة الكاميرا) أو الخارجية عن طريق المونتاج. وكان طموحه أيضاً أن يجعل الفيلم مثل الموسيقى، أي فناً له إيقاعه الخاص ولذا فقد اطلق على فيلمه هذا “سيمفونية بصرية”، وكان هذا تحديداً السبب في ما تعرض له من هجوم من جانب أنصار المنهج الاجتماعي في الفن، في تعارض مع ما عدوه اغراقا في الشكلانية.
كان إيزنشتاين في نظريته الخاصة المعروفة بـ”مونتاج الجاذبية” يرى أن اللقطة لا معنى لها إلا في علاقتها بغيرها من اللقطات، وهي لا تولد المعنى إلا عن طريق التأثير العاطفي في المشاهد، وأن الفيلم لا يوجد كفن إلا إذا أصبح “حزماً” من الجاذبيات، تماما مثل النغمات الموسيقية التي يمكن أن تشكل إيقاعاً معيناً من نسيج ثري من التجارب الكاملة. ولم يكن يرى أن تسجيل الحياة من وظيفة الفيلم السينمائي، ولكنه كان على قناعة بضرورة تدخل السينمائي في الصورة لإحداث تأثيرات جمالية من عنده. “مونتاج الصدمة” أو الجاذبية عند إيزنشتاين، كان مغزاه ببساطة أنه يعلي من شأن الصور واللقطات والعلاقة في ما بينها، على بناء القصة والسياق الروائي والحالة السيكولوجية للشخصيات وما تفصح به عن تاريخها عن طريق الحوار. وكانت تجربته في فيلم “أكتوبر” تحديداً من أبرز تجارب السينما الخالصة.
لقد أصبحت السينما الخالصة أخيراً.. دليلاً حياً على تحرر السينما وعلى ديمقراطيتها كفن أيضاً.
________
*(الصباح)الجديد