“أخونة” السينما


هوفيك حبشيان *



تشهد القاهرة حالياً تحركات من نوع جديد تتجسد على شكل اعتصامات مناهضة لوزير الثقافة في الحكومة “الإخوانية” علاء عبد العزيز، تطالبه بالاستقالة، اذ يرى فيه الفنانون المعتصمون شخصاً غير مؤهل لتسلم مثل هذا المنصب، في بلاد تضرب جذورها في حضارة عمرها سبعة آلاف عام.

منذ وصوله الى السلطة، مارس عبد العزيز سياسة اقصائية بدعاوى زائفة منها محاربة الفساد. هو متخرج من المعهد العالي للسينما، عمل فيه استاذاً وله مساهمات في المونتاج، المجال الذي لم يقدم فيه أي شيء مهم، كما يقول خصومه. أما المهام الموكلة اليه حالياً والمقتصرة على تطهير وزارته فليست سوى استجابة لعقيدة جماعة “الإخوان المسلمين”، وهي عقيدة أقل ما يمكن القول فيها انها معادية لحرية الخلق الفني، تساهم في تحجيم دور الثقافة في المجتمع المصري، لإعادته الى الخلف ومحاصرته بالممنوعات وإشباعه بالتأويلات الدينية. 
وكان الكيل قد طفح عندما تم فصل ايناس عبد الدايم من منصبها في دار الاوبرا، في قرار تعسفي، الأمر الذي أثار امتعاض أهل الثقافة في مصر. مرة اخرى، بدت الفنون كلها ضمن دائرة الخطر في عهد هذا المسؤول السياسي، الرابض على متن هذه الفنون. ولا يفاجأ أحد، في ظل هذه الخطوات القمعية المرسومة سلفاً، ان يتم الإعلان عن انجاز أول مسلسل من دون نساء سيخرجه وجدي العربي، على ان يُعرض في رمضان المقبل على شاشة “الحافظ”. 
بعض السينمائيين الشباب والمكرسين المناهضين لسياسة عبد العزيز كانوا اعلنوا عن رغبتهم في مواجهته خلال حفل افتتاح الدورة الأخيرة من مهرجان الاسماعيلية (4-9 حزيران)، فرُفعت لافتات ضده مطالبة اياه بالرحيل. بيد انه تغيب عن الحفل، بعدما تناهى الى مسامعه ما تشهده كواليس المهرجان من روح مقاومة. لكن سينمائياً من طراز مجدي أحمد علي صرح بأنه يجب مطاردته في كل مناسبة فنية، حتى اقالته. 
في بيان وقّعته مجموعة مثقفين، جاء الآتي: “(…) لقد حانت لحظة الصدام بين المثقف والسلطة المتمثلة في اليمين الديني المتطرف المعادي بفطرته المشوهة وتكوينه القطيعي لفكرة الثقافة والإبداع اللذين يفضحان ممارساته في احتكار السلطة باسم الدين”. ودعا الشاعر سامح محجوب “شرفاء مصر من المثقفين” للوقوف أمام توغل الكائن المتأسلم الموتور مندوب المرشد في وزارة الثقافة علاء عبد العزيز. 
في غضون ذلك، شوهد الوزير مشاركاً في مسيرة “نصرة القدس”، حيث صرّح بأن فلسطين هي “القضية المحورية” للمصريين والعرب. ولجأ الى خطيب مسجد رابعة العدوية الذي أيّد مواقفه جملة وتفصيلاً، ولم يتوانَ عن تحريض المصلّين ضد المعتصمين متمتماً جملة حاول بعضهم شرح معانيها المحتملة: “(…) بدءاً من اليوم، أصبح هناك استقلال ثقافي لمصر والأمة العربية والإسلامية”. في هذا السياق قال المتحدث بإسم “الإخوان” أحمد عارف انه “يمكن الوزير ممارسة عمله من مسجد عمر بن عبد العزيز (…)، لأن الثقافة تبدأ من المسجد”، متهماً النخب المثقفة ببعدها عن الإسلام. الشيء الذي اعتبره المعتصمون في بيان لهم “محاولة لتأجيج الفتنة بين الشعب المصري ومثقفيه”. 
ونقلت وسائل اعلام مصرية ان مجلس الشورى ناقش رقص الباليه (!) وقد تصدر فتاوى قريباً لتحريم بعض الفنون، منها الأدب والشعر والموسيقى والسينما، استكمالاً لسياسة تكفير الفنون التي بدأت مع اتهام عادل امام بازدراء الأديان في نيسان 2012. 
واعتبر ناشط حقوقي ان اختيار عبد العزيز وزيراً للثقافة هو في ذاته احتقار للثقافة وأخونتها وطمس الهوية الوطنية. أما المخرج احمد ماهر، صاحب فيلم “المسافر”، الذي كان من اوائل الذين دعوا الى الاعتصام، فهذا الوزير بالنسبة له “حلقة شديدة التفاهة في حلقة كبرى اسمها نظام إخواني فاشي”، مشيراً إلى أن السلطة أعصابها منهارة ومَن خلفها يشعرون بخطورة التمرد وإن لم يعترفوا بها، لأنها قياس رأي واضح وصريح على شعبية هذا الرجل”. 
من السينمائيين الذين شاركوا في الاعتصام خشية ان تصل سيوف “الاخوان” إلى رقابهم وتتسلط على أعمالهم: خالد يوسف وداود عبد السيد ومجدي احمد علي وآخرون. اتصلت “النهار” بالبعض منهم، وفي الآتي شهاداتهم:



محمد خان: مصيرنا 
ليس السينما الايرانية

المخرج محمد خان الذي لم ينل الى الآن الجنسية المصرية، على الرغم من انه اعطى السينما المصرية بعضاً من أهم أفلامها، يقول: “إلى جانب قلقي من “أخونة” السينما التي تهدد زيادة لائحة الممنوعات وتضيق أفق المطروح، فاختيار الشخص المناسب ثقافياً في مركز وزير ثقافة يُعد ذا أهمية قصوى. فأنا على يقين أن المثقف الحقيقي عملة نادرة. مشكلة الوزير المختار حديثاً والإعتراض عليه نابعان من تاريخه المحتار في أمره، من إدعائه الشيوعية إلى ظهوره “إخوانجيا”… أضف الى ذلك عدم كفاءته كمدرس مونتاج في معهد السينما، اذ لم يمنتج فيلماً واحداً في حياته، اذا استثنينا بعض الإعلانات على ما أعتقد. ثم هناك قراراته المستفزة التي جاءت فور تعيينه، ما يؤكد اضطراباته كإداري ولجوءه الى تصفية كادرات في الوزارة من أجل تعيين آخرين من صفوف “الإخوان”. وهذا يدل على ظهور خلية “إخوانية” تتشعب في مجالات الفنّ والثقافة. ومع احترامي للسينما الإيرانية وإنجازاتها التي يعتقد البعض أن مصير السينما المصرية ربما يكون مشابهاً لها، فهي لا تزال سينما تعمل في جوّ مخنوق ثقافياً ومسيسة فكرياً ودينياً”.


خالد يوسف: عودة الى عصور الظلام

“قمنا بالاعتصام لأننا استشعرنا خطراً يدهم هويتنا ويعبث بملامح الشخصية المصرية، من خلال فرض مشروع خاص بجماعة فاشية على مفاصل المؤسسة الثقافية في بلادنا. ونحن ندرك خطورة جماعة مثل “الاخوان المسلمين” على العقل المصري وعلى الثقافة المصرية التي تشكل وجدان الأجيال الجديدة، ذلك انهم يحملون مشروعاً متخلفاً يتضمن كل جاهلات الماضي ويعيدنا الى عصور الظلام.
ما إن تولى هذا الوزير مهام الثقافة في مصر وشرع في تصفية قيادات وزارة الثقافة غير المنتمية الى النظام السابق، واقصد تلك التي عُيّنت بعد الثورة مثل ايناس عبد الدايم، حتى أدركنا ان “الاخوان” بدأوا في تنفيذ خطتهم للاجهاز على هذه المؤسسات وتفريغها من محتواها وتعيين موظفين موالين لهم ينفّذون من خلالهم اوامر مكتب الارشاد، بهدف تجريف العقل المصري. فانتفضنا للدفاع عن المقومات الأساسية للثقافة المصرية والمحافظة على الهوية التي شكّلها الانسان المصري عبر 7000 سنة، وقررنا الاعتصام حتى اقالته او حتى 30 حزيران، تاريخ انضمامنا إلى جموع الشعب المصري المطالبة بإسقاط النظام”. 
ورداً على سؤال حول تأثير العقلية الحاكمة في السينما، قال يوسف الذي سبق ان عانى من غضب المحافظين عندما انجز “حين ميسرة” و”دكان شحاتة”: “مش حيبقى سينما أصلاً لو في وزير بالشكل ده. سيحولون قصور الثقافة الى كتاتيب تحفظ القرآن واعترض بقى عشان تبقى كافر! تخيلوا لو حوّلوا قصر ثقافة المنيا لكتاب لتحفيظ القرآن؟ مين يقدر يعترض؟ دي جماعة لا تؤمن بالثقافة. ليس لهم مشروع ثقافي بل مشروع لتدمير الثقافة. لماذا؟ لأن الثقافة ورموزها ستبقى القلعة الحصينة التي تقاوم مشروعهم الظلامي. حتى لو نجح الاحتلال “الاخواني” لمصر في اسكاتنا جميعاً ودامت لهم البلاد والعباد، ستبقى الثقافة حجر عثرة في طريقهم”.


داود عبد السيد: 
بولدوزر تحطم الثقافة

“أنا مختلف مع أهداف الاعتصام وهي اقالة الوزير، ولكنني مع الاعتصام لتوضيح أبعاد المأساة المقبلة على مصر وثقافتها. افضل الكلام عن سياسات الوزير، كوني لا اعرفه شخصياً. وما اتحدث عنه هو اتجاه “الاخوان” وعلاقتهم بالثقاقة والابداع. على سبيل المثال، انا أطالب بتغيير جذري في قوانين الرقابة، وإلغاء الرقابة على الفكر (الرقابة على السيناريوات)، وإلغاء أيّ رقابة تحذف من السيناريوات قبل التصوير او اثناءه او بعده. فهل هناك “إخواني” سيحقق ذلك في وزارة “إخوانية”؟ وهل هناك وزير غير “إخواني” سيحقق ذلك في ظلّ نظام “إخواني”؟ وهل سياسات أيّ وزير بعد إقالة الوزير الحالي ستقوم بإزالة العقبات امام السينما؟ لا فائدة من تغيير الوزير أو عشرة بعده إذا كان النظام كله إخوانياً”.
واعتبر صاحب “كيت كات” ان الوزير الموجود حالياً ليس إلا البولدوزر التي تحطم ما تبقى من الثقافة فى مصر. “مَن سيأتي من بعده هو مَن سيبني النظام الإخواني في وزارة الثقافة. من ضمن كلام هذا الوزير مثلاً: “مش عايز حد يجي يسيطر على اتجاه واحد في وزارة الثقافة، وهذا حق يراد به باطل. فالوزير يريد للتيار الديني ان يكون موجوداً في وزارته. ونحن لم نسمع عن تيار ديني يريد ثقافة أصلاً. القضية الحقيقية ليست شخص الوزير، ولكن سياساته. ولذلك لا أمل في وزارة الثقافة أو في غيرها مع وجود نظام الإخوان”.


حسام علوان: انقضاض 
على مفاصل الدولة

المنتج الشاب حسام علوان (“حاوي” لابرهيم البطوط)، اعتبر ان المشكلة الكبيرة مع مَن يسمّى وزير الثقافة هو أنه كباقي وزراء “الإخوان”، لا مؤهلات له سوى موالاته لجماعة “الإخوان” وتنفيذه لأجندة تتلخص في تعيين مسؤولين من أهل الثقة لا من أهل الخبرات، وتنفيذ خطة واضحة لتمكين الإخوان من مناصب عليا حتى وإن لم يكونوا أهلاً لها وهو ما بات بعرف إعلامياً بـ”أخونة” الدولة.
وقال: “لم يُعرف عن وزير الثقافة ممارسته لأيّ دور ثقافي فعال، ولم يظهر على السطح إلا عندما كتب مقالات تهاجم المثقفين في الجريدة الحزبية للإخوان، دفاعاً عن وجودهم في السلطة. وهذا المنصب الوزاري كان مكافأة له على هذا الانحطاط الذي مارسه لمصلحة الجماعة.
تحرك السينمائيين جاء لكون وجوده خطراً على السينما كما هو خطر على الثقاقة. أنه اشبه ما يكون بإنسان بسيكوباتي جاء للإنتقام، وباشر عهده بإطاحة مسؤولين بعضهم له شعبية بين المثقفين، وبعدهم ينتمي الى ما يعرف بمرحلة “حظيرة فاروق حسني”، كما انه اتخذ شعار “التطهير من الفساد” عنواناً لتحركه، وراح يعين اشخاصاً من جماعة الإخوان في هذه المناصب.
الخطر الحقيقي في هذه النزعة الديكتاتورية ــ البسيكوباتية المدسوسة خلف شعارات أخلاقية، هو أنه لم يخلق مساحة تواصل مع المثقفين أو السينمائيين، اذا ليس هناك العمق الكافي لتطوير المؤسسات الثقافية، الا اذا كان هذا التطوير يعني الغاء الباليه والرقص الحديث وفرض مساحة أكبر من الرقابة من المنظور “الإخواني” على الابداع السينمائي وغيره. 
السؤال عن مستقبل الثقافة في مصر، تلزمه أولاً معرفة بعض الملامح عن مستقبل مصر. فالجماعة الآن في مرحلة ما يُعرف في أدبياتها بـ”التمكين الإخواني” وهو الانقضاض والسيطرة على مفاصل الدولة الرئيسية، بحيث لا يمكن الخلاص منهم، وبحيث يعلنوا دولتهم الإخوانية التي يحكمها مرشد ديني أعلى هو مرشد جماعة “الإخوان” – الحاكم الفعلي لمصر الآن ــ وتالياً سيكون النموذج الإيراني هو الأقرب لدولتهم تلك. لذا، السؤال الآن حول مستقبل السينما سابقٌ لأوانه، ذلك أنه متعلق بما اذا كانت ستنجح خطة التمكين. البديل الطوباوي لكل ما يحدث ــ في الثقافة وفي السينما كما في باقي المجالات ــ هو في احداث تطوير فعلي لمؤسسات الدولة لتلاقي متطلبات العصر وروحه، بحيث تعود هذه الدولة الأممية لمكانتها بين الأم”.

– النهار البيروتية

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *