السينما الجميلة
مريم الساعدي
خرجت من صالة السينما وكاد عصب عيني أن ينفجر من شدة تلاحق المشاهد على الشاشة الكبيرة، وفي مخي ترتج أصوات صارخة وزعيق ونعيق وضجة ارتطام وانفجار وصعقات وموسيقى تشويقية تلعب على الادرينالين دون أن تحتفي بالفن. ماذا أذنبت؟ أردت فقط مشاهدة فيلم. كانت نفسي تهفو على السينما، لم أذهب منذ أيام المهرجان السينمائي الأخير. اشتقت لتلك الصالة التي أجلس فيها فأخرج من تجربتي الخاصة لأشاهد تجربة انسان آخر تجعلني أكثر ثراءً وأعمق رؤية وأبعد نظرا وأصفى ذهنا وأشهى روحا. لكن لم أجد سوى أفلام الأكشن والخيال العلمي والأفلام الكوميدية التافهه. أين أذهب؟ كل صالات السينما هذا ما تعرضه. قالت صديقتي أدخلي فيلم اكشن، غيري مزاجك، ستحبين التجربة، ستبهرك الأضواء والحركة. دخلت، وتيبست على المقعد حتى انتهى الفيلم، أردت فقط رؤية طريقي إلى خارج تلك الصالة المعتمة الضاجة. أردت الخروج إلى الهواء الطبيعي وسماء ربي ورؤية وجوه بشر عادية لا ترتدي أقنعة معدنية ولا تهبط من الفضاء ولا تتحول في لحظة إلى كائن خرافي ولا تخرج منها ديدان تتحول لوحوش تلتهمني.
فمن قال إن هذا فقط ما يريده الجمهور كما يدّعي أصحاب الصالات؟!
“الجمهور عاوز كده” مقوله أسقطت الفن العربي إلى حضيض مستنقع آسن لا زال يجاهد كي يخرج منه. الحقيقة أن الجمهور “مش عاوز كده” ليس كل الجمهور على الأقل. البعض يريد السينما الجميلة، ذلك الفن الانساني الراقي، تلك الأفلام التي تخلد اللحظات التاريخية والذكريات الانسانية، تلك التي تتغنى بهفهفة ورقة على غصن شجرة في مساء خريفي قبل أن تسقط في إشارة لحياة إنسان يتمسك بأهداب الأمل في خريف العمر، تلك الأفلام التي تتابع كفاح انسان وانبعاثه من الرماد، تلك الأفلام التي ترفعك من كرسيك وتجعلك روحا ترقص من الجمال، أين تلك الافلام التي تقول لك أنك انسان وأنك جميل وأن الله يحبك. أين تلك الأفلام التي تردد صرخة انسان قال كلمة حق، والتي تخلد وقفة انسان رغم الموت والمرض، والتي تقول لك أن الحياة تستحق أن تعاش وأنك يمكن أن تنجز أشياء عظيمة في حياتك، وأن لديك مخارج كثيرة نحو الأمل مهما استحكمت عليك أسباب اليأس. أين تلك السينما الجميلة؟ أين أفلام الفكرة والتفكر والبهجة والتأمل ؟! أين أفلام المهرجانات؟
الجمهور عاوز كده”؟ كيف تفسرون إذا تلك الطوابير الطويلة في انتظار دخول فيلم في مهرجان أبوظبي السينمائي؟ ألا يستحق هذا الجمهور إلتفاته من أصحاب صالات السينما؟ أم هل يعتقدونه جمهور وهمي؟ وأن الجمهور الحقيقي هو فقط جمهور الأولاد المراهقين الباحثين عن لحظة تشويق يمكن أن يحصلوا عليها في مدينة للملاهي او سباق سيارات.
وحتى لو افترضنا أن الجمهور، كل الجمهور “عاوز كده”، أليس من المفترض بالفن أن يرتقي بذائقة المجتمع؟ ماذا لو أراد الجمهور الإباحة والقباحة ومص الدماء، ماذا لو أراد الجمهور أكلك وأنت حيا. هل سيظل على حق أيضا؟ من قال إن حكم الجمهور دوما هو الصائب؟
يا أصحاب صالات السينما، جمهور المهرجانات السينمائية لا يموت بالضرورة بعد انتهاء أيام المهرجان. بإمكانكم مخاطبته أحيانا.