موزارت.. وقداس الموتى


أحمد حميدة


عرف موزارت في قدّاسه كيف يتحدّث لغة اللاّمرئيّ وأن ينشدها بجنون، على الأقلّ بالنّسبة إلى المقاطع الثّمانية الأولى من «لكريموزا» آخر روائعه، لذلك بقي القدّاس عصيّاً على الفهم. فسواء نظرنا إليه من الزّاوية الرّومنطيقيّة كنشيد بجعة، واعٍ بالحضور الإلهي، أو تأليف موزارت لموسيقى موته، أو رصدناه باعتباره طلباً تجاريّاً أنجز على عجل ودونما إتقان، فإنّه من النّادر أن يكون عمل موسيقيّ قد أثار مثل ذلك الفيض من الكتابات – الكاذبة أحياناً – التي ساهمت ولوقت طويل، في تشويش رؤيتنا له. إنّ كتابات روبينس لندون وآخرين، مكّنت من فضح الكثير من الأكاذيب «المقدّسة»، ليبقى هذا العمل محاطاً بهالة من الوقار المهيب، يحمل في تموّجاته عبء الزّمن، وثقل القبر والموت البائس لشابّ في سنّ الخامسة والثلاثين وعشرة أشهر.

إنّه لمن الصّعب الإنصات لهذه الموسيقى لذاتها، ولا يمكن حسب رأيي الإمساك بمدارات الأحاسيس فيها، ما لم نضع في حسباننا ما سبق وأن أوضحه ريلكه عن لغة الغياب أو لغة اللاّمرئيّ، ودون وقوع في رؤية مُقْنِطة ومثيرة للشّفقة، أرى من الضّروري الحديث عن الظّروف التي حفّت بميلاد تلك الرّائعة.
بئر الألم
لقد كانت سنة 1790 سنة حزينة في حياة موزارت، أضحى خلالها فولفانج سجين بؤسه وأسير فيينّا، يعاني من عبء ديونه المتثاقلة، وكان عليه في تلك الظّروف، مواجهة الجفاء القاسي لجمهور فيينّا، وخاصّة منهم من كانوا إلى عهد قريب من مؤيّديه ومشجّعيه، لقد انهارت شعبيّته، وصديقه هايدن غدا بعيداً عنه في إنجلترا، أمّا تلاميذه فقد هجروه، وباتت المحاكمات تلاحقه وتقضّ مضجعه، فيما انفضّ حاموه من حوله. وكان على فولفجانج أن يقاوم حتّى يجعل أسرته تطفو، ولا تغرق في العذابات اليوميّة فتضطرّ إلى الاستجداء والتسوّل.
ورغم شرارة الأمل المربكة التي التمعت بولادة فرانز في يوليو 1791، فإنّ تلك الولادة لم تغلق نهائيّا بئر الألم الذي تردّى فيه بيتهوفن بفقدانه أربعة من أبنائه، ولم يعد لموزارت سوى هاجس واحد: أن يمرّ ذلك الشّتاء اللّعين الذي حلّ ببرودته اللاّذعة والقاسية، وأن يضمن لعائلته بعض الدّفء ودعماً من أرستقراطيّة فيينا، التي أصبحت تلفظه كدمية بالية. لذلك بات موزارت يسترزق من تآليف لبعض الفرق المسرحيّة، إلى أن عرف سعادته الأخيرة «المزمار المسحور»، الذي ألّفه لفرقة مسرحيّة شعبيّة بضواحي فيينّا، عمل موسيقيّ سيحمله لحين ويمكّنه من الاستمرار.
كلّ الأعمال الأخرى «رحمة تيتوس»، «كونشيرتو الكلارينات» وحتّى «القدّاس»، لم يعد فولفانج ليعوّل عليها كثيراً أمام ذلك الفيض من السّعادة التي كان يشعر بها وهو يسكب من ذاته تلك الموسيقى المنعشة والعميقة في آن، والتي جعلته من جديد صائداً للعصافير.
وفي سبيل هذا العمل سيبذل موزارت نفسه، وسيستنزف من أجله آخر مدّخراته من الطّاقة الإبداعيّة، وباتت تلك القصّة الخياليّة أو الأنشودة الدّينيّة تملك عليه حسّه أكثر من ذلك الطّلب الغريب، القدّاس، الذي عرض عليه في يوليو 1791 بواسطة شخص غامض كان يتردّد عليه بلباس الموتى.
تحت وطأة الخصاصة
لقد كان قدّاس الموتى في الحقيقة تأليفاً موسيقيّاً طلبه من موزارت، الكونت فرانز فون فلساج، الذي فقد زوجته آنّا في 14 يناير 1791. وكان من عادة هذا الكونت أن يتملّك أعمال الآخرين وينسبها إلى نفسه، وكان هذه المرّة يريد قيادة «عمله» بنفسه بمناسبة ذكرى وفاة زوجته، وكان حريصاً على أن تحاط تلك الصفقة بالسريّة المطلقة.
تحت وطأة الخصاصة، وبالنّظر إلى البعد الدراميّ لهذه الصّيغة من التّآليف التي لم يجرّبها البتّة، قبل موزارت هذا الطّلب وتوقّع إنهاءه خلال 1792، وكان بإمكانه الاحتذاء بصديقه، العجوز السكّير هايدن، في صياغة هذا التأليف، ولكن موزارت كان يشعر بانجذاب غامض لتلك الموتة المتسربلة بالموسيقى، لذلك أقدم برغبة ملحاحة على العمل على هذا القدّاس في صائفة 1791، ودفعة واحدة، ألّف المقاطع الثلاثة الأولى. ولئن كان مفتوناً بما ألّفه، فقد شعر بقلق غامض، ولكنّه لم يعتقد البتّة بأنّه بصدد كتابة قدّاسه هو شخصيّاً، فقناعاته الدّينيّة الماسونيّة وإقباله الجامح على الحياة، كانت تجعله يخاطب الحياة بنديّة «فكما الموت تماماً، لو دقّقنا النّظر، لأدركنا بأنّها غاية الحياة، وقد ائتلفت بصديقة الإنسان تلك، إلى درجة أن صورتها أضحت بالنّسبة إليَّ مهدّئة ومواسية، فأنا لا أخلد إلى النّوم إلاّ ويساورني الإحساس بأنّني، أنا الذي لا أزال في مقتبل العمر، قد لا أكون على قيد الحياة غداً» (من رسالة إلى والده في 1787).
غير أنّ الهوّة السحيقة بين فلسفة الموت والرّعب البيولوجي للموت، وموزارت كأيّ واحد منّا سيهاب تلك الهوّة، خاصّة وأنّه كان يشعر بالموت، موته هو، يتقدّم نحوه كتمثال آمر من خلال الظّهور المتكرّر لذلك «الرّسول الأسود».. وكيل الكونت.
ولكنّ الفاصل المحموم لمسرحيّة «رحمة تيتوس» وفشلها المدوّي، وانفصاله عن زوجته، والتحضيرات لعروض «المزمار المسحور» التي حرص موزارت على متابعتها بنفسه، جعلته ينشغل تماماً عن «قدّاس الموتى»، ولكن ليس عن الموت الذي بات يدبّ في كيانه ويسلك طريقه إليه، عبر طاقة العمل التي باتت تستنزفه تماماً. وكانت تآليفه الأخيرة، الكونشيرتوهات والكنتات تأخذ منه أيضاً الكثير من الجهد، ولكن بدرجة أقلّ من «مزماره» الذي كانت موسيقاه تتردّد في رأسه باللّيل وبالنّهار.
وفجأة يستدرجه القدّاس من جديد حين شعر بالإنهاك، وتملّكته الخشية من أن لا يسعفه الزّمن لإتمامه، ثمّ لأنّه بات يشعر حقيقة أنّ إتمام ذلك القدّاس لن يكون سوى إعداد لقدّاسه هو شخصيّاً. وفي خريف 1791 بدا وكأنّ الموت قد صعقه، ومذعوراً، غيّر موقفه من القدّاس الذي أضحى يثير فيه إحساساً بالذّعر والخوف، ويدفعه إلى الشّعور بأنّه على حافّة الهاوية بفعل انكساراته، أمام موقد يطلق الدّخان وينفث دفئاً لاذعاً، فعاد من جديد وبقوّة إلى القدّاس. وفي رأسه كانت ترتسم المسودّات ويتشكّل التخطيط الهيكلي للعمل، لأنّ من عادة موزارت كتابة تآليفه ذهنيّاً دونما حاجة إلى الورق أو إلى آلة، طالما لم تكتمل الرّؤية، فتصبح تلك الوسائط جاهزة لاستقبال الدّفق الكامل للعمل، وفيما عدا «لكريموزا»، لن يلمس البتّة ورقة التّرقيم الموسيقي، وهو الذي أصبحت تشلّ حركته، الهموم اليوميّة والألم والمرض.
قداس شخصي
كانت آخر أعماله «كنتات الصّداقة»، ومنذ يوم 20 نوفمبر أدرك أنّه بصدد الاحتضار، ووفقاً للتقليد السّاري، والذي يتيح لتلاميذ الموسيقيين العمل داخل وِرش، من المحتمل أن يكون موزارت قد أوكل أمر صياغة بعض الأجزاء إلى تلاميذه وخاصّة منهم سوسماير.
يوم 5 ديسمبر 1791، وعلى السّاعة الواحدة ليلاً، توفّي موزارت، ولجأت زوجته كونستانس إلى الخدعة لحمل الجميع على الاعتقاد بأنّ موزارت استوفى كتابة القدّاس، مع أنّ هذا العمل بقي مليئاً بالفراغات. وقد بحثت كونستانس بطريقة مثيرة للشّفقة موسيقيين لتزكية ادّعاءها الكاذب، وخاصّة سوسماير الذي رافق موزارت في أيّامه الأخيرة، وكان هذا الذي سمّاه موزارت «بالحمار» قادراً بطريقة مدهشة على محاكاة كتابة موزارت، وإضفاء قدر من الصّدق على ذلك الادّعاء. والحقيقة المحزنة أنّ موزارت ذهب ولم يترك وراءه، لا أثراً لرفاته الذي ضاع في قبر جماعيّ، ولا قدّاسه الذي «أكملته» أيادٍ مجهولة.
والقدّاس هو من تلك الأعمال المثقلة بتأثيرها العاطفي، إلى حدّ قد يجعلها تحجب حقيقتها. لقد أثار موزارت السّؤال الأوحد والأهمّ، وإن بقيت موسيقاه إلى غاية اليوم غامضة. لقد ظلّ القدّاس غير مكتمل، ولكنّه ضمّ ثلاثة عشر مقطعاً، أجمع كلّ المحقّقون على أنّها من تأليف موزارت. إبلر ماييس وخاصّة سوسماير الذين كانت كتابتهما الموسيقيّة والخطيّة تماثل إلى حدّ كبير كتابة وخطّ معلّمهم، ساهما في تزكية أكذوبة كونستانس، ولكن أكذوبة أخرى أيضاً ولكنّها أقلّ وثوقاً، أكذوبة عرّاب هذا العمل، الكونت فالسيج. و«لكريموزا» التي تشكّل ذروة هذا العمل، بات من المؤكّد أنّها من تصميم وتأليف موزارت، وإن تابع سوسماير كتابتها بدءاً من المقطع الثامن.
و بعيدا عن الاختلافات حول أبوّة هذا التّأليف، ينبغي أن ننتبه إلى إرادة البعض خلق أسطورة زائفة عن موزارت، موزارت الذي مات مرعوباً من الموت، ومتشبّثاً بإيمانه الطّفوليّ في المسيحيّة. إنّ تلك «الميتة الورعة» التي تمّ التّرويج لها، تحجب في الحقيقة النّهاية القاسيّة لفولفانج، المثقل بديونه ومرضه واللاّئذ بمثله الماسونيّة، ولم يخطئ رجال الكنيسة في تقدير ذلك، إذ مات موزارت ولم يحظ لا بتطهير الكنيسة ولا بمرافقة قسّيس، مات وهو يغنّي المزمار المسحور.
ربما لا ينبغي لنا أن لا نقلّل من تأثّر موزارت الواهن والمحتضر، بالظّهور المتكرّر لذلك المبعوث الرّمادي للكونت فالسيج، وحينما كان يرجو بإصرار الكتابة النّهائيّة لقدّاسه، بدا وكأنّه يخادع موته هو، لأنّه بات مدركاً بأنّ هذا القدّاس هو قدّاسه. أمّا التلوّن الهادئ والمطمئن والكتابة الأوركستراليّة المهيبة فهي شاهد على ارتباط هذا القدّاس بالفكر الماسوني، أكثر من ارتباطه بنواميس الكنيسة. وبصرف النّظر عن هذا الجدل، يظلّ موزارت أمام شعيرة الموت، كما أمام عجلة الحياة، رقيقاً.. رصيناً، متململاً أحياناً ومهتاجاً في إقباله على الحياة.
إنّ فهم القدّاس هو فهم لموقف دون جوان أمام صاحب الأمر، أمام الجحيم: متأثّر، مذهول من الخوف، ولكن غير متبرّئ البتّة من حجمه الإنسانيّ، وتائقاً إلى الأقصى، أن يكون أخاً للإنسان حيثما كان.
أيّ موقف كان لموزارت إزاء الكتاب المقدّس الرّسمي للكنيسة؟ بشيء من التّواضع والقلق كانت لا تهزّه مشاعر الخوف والإثباتات العمياء للإيمان، وقدّاسه كان لا يثير الجموع، ولكنّه فتح نافذة ينساب منها نور مهدّئ ومطمئن، لقد كان قصيدة غنائيّة تحتفي بالصّداقة وبالأخوّة الإنسانيّة أكثر منها إحساساً بالرّعب إزاء الموت، لذلك لن يقتل القدّاس موزارت ليودعه في أحضان القداسة، بقدر ما عرّج به إلى رحاب الأبديّة.
يبقى قدّاس موزارت عملاً غامضاً ومذهلاً ينبذ في ذات الوقت أمل ومواساة الكنيسة من ناحية، ورعب الهاوية من ناحية أخرى، لذلك لا ينبغي التماس دلالاته في الجانب الدّيني، لأنّ موزارت غادرنا كصائد للزّمن ولا كموسيقيّ للكنيسة، غادرنا وهو ينشد بجنون الغياب واللاّمرئيّ في غمرة شفافيّة موسيقيّة مواسية. قد يكون ذلك هو ما سعى إليه موزارت في قدّاسه الجنائزي.. موزارت الإنسان.. موزارت الممعن في إنسانيّته..
كتابات روبينس لندون وآخرين فضحت الكثير من الأكاذيب «المقدّسة» ليبقى هذا العمل محاطاً بهالة من الوقار المهيب.
الاتحاد

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *