منذ قرأت مقالة ‘اديث هاملتون’ عن الحضارة الاغريقية، لم يفارقني السؤال حول مدى نفوذ الموتى، فالكاتبة متخصصة في الاغريق حضارة وفلسفة وأدبا، وترى ان معظم انجازاتهم تبدو كما لو انها قادمة من المستقبل او ان هناك ماضيا دائم الحضور.
وتستشهد في اطروحتها ليس فقط بالفكر بل بشبكة الريّ وطرق التعلم، وأدبيات الحرب عندما تكون مقاومة، وما خطر ببالي فور قراءة المقالة التي نشرت لاول مرة في ‘ساتردي ايفننغ بوست’ هو ان من ماتوا قبل الاف السنين وتحولوا الى رميم قد يكونون اكثر حياة وحيوية من جيراننا والصخب الذي يتسرب من نوافذ بيوتهم، وذلك يقتضي منا اعادة تعريف كل من الحياة والموت، فثمة موتى احياء مقابل أحياء موتى لكن بلا قبور وقد لا يتوقف هذا الاحساس عند التجربة الاغريقية رغم تفرّدها وريادتها، بل يشمل حضارات ومنجزات انسانية رحل من قدموها منذ زمن طويل، لكنهم مكثوا في مكان ما ليواصلوا السّهر والاشعاع منه، قد يكون قبرا مؤثثا بما لا تحلم به حتى البيوت الباذخة، وقد يكون كتابا او ذاكرة، هذا بالرغم من ان الذين تحقق لهم الخلود لم يحلموا به، فشكسبير مثلا لم تخطر بباله ولو لمرة واحدة هواجس الخلود، اما الاغريق فقد ذهبوا الى ما هو أبعد، فقد فضلوا التماثيل الخشبية خصوصا لأبطالهم على الحجر، لأنها قابلة للتسوس وبالتالي للتلاشي والتذرّرً كي تذكًّر الناس بأنهم فانون، وان اقامة بطل في تمثال من الحجر او البرونز لا تَعني خلوده، وقد شاهدنا في عصرنا كيف انتهت تماثيل من هذا الطراز بكل من يقيمون فيها ويحملون ملامحها الى برادة حديد، وقد يكون من العسير اقناع انسان عادي في هذه الألفية بأن ارسطو او هيراقليطس حيّ اكثر منه، رغم غيابه الجسدي، انها ثنائية الحضور والغياب التي ترتدي في كل عصر ما يليق بالثقافة السائدة التي أفرزتها، فالغياب احيانا حضور ساطع، كما ان الحضور في بعده العضوي غياب موغل في العدم، لكن هل هناك علاقة ما بين نفوذ الموتى ومحاولة قتلهم المتكررة ؟ سواء تجسّد ذلك في ما يسميه فرويد جريمة قتل الأب او في الرّغبة المبررة لبلوغ سن الرّشد ؟’
المقابر هي الوجه الآخر لكل ما تعج به هذه الحياة، فيها ابطال وخونة، ومبدعون وخاملون، لكنها تمتاز بكون ساكنيها قد اصبحوا محايدين تماماً فلا يدافعون عن انفسهم، اللهم الا في الحالات التي تتولى فيها نصوصهم هذا الدفاع، لهذا ثمة من البشر من يموتون تماما، مقابل آخرين يموتون الى حدٍّ ما، أما الفئة الثالثة فهي التي نجحت في تدجين الموت وتحويله الى قط اليف يتمطى تحت اقدامها.
نفوذ الموتى يكتمل لحظة الصّمت، حيث ما من شيء دنيوي يشاغب على المنجز الذي يبقى عاريا في الكتاب او الذاكرة او في نقش على حجر، لهذا كانت محاولات قتلهم مرة اخرى بمثابة الدفاع عن حق الورثة في الإضافة لان من يقرأ ما كتبته هاملتون مثلا عن الماضي المستمر للإغريق يجد ان من حقه اجتراح كوّة في الافق المسدود، ورغم ان الفارق الجوهري والحاسم هو ان كتب هؤلاء كانت بلا هوامش او مراجع لأنها بحد ذاتها مرجعيات ، وباكورة البكارات كلها كما وصفها كارل ماركس الذي دأب على قراءة اسخيلوس وارسطوفانيس وكان مأخوذا بمسرحية الضفادع.
قتل الموتى يحدث باسلوبين متعاكسين احدهما القتل حبّا من خلال الاجترار والإلحاح والغلوّ في الاحتكام اليهم بوصفهم مطلق الصواب والحق، والآخر قتل ثأري يسعى الى تجريدهم من بعض النفوذ والحضور وهذا ما عبّر عنه بدقة بالغة دانتوس بقوله : سحقا لكل الموتى فقد قالوا اقوالنا كلّها.
رغم ان الموتى حتى العباقرة منهم لم يفعلوا ذلك، لأن في الحياة التي اعقبت موتهم متّسعا للاضافة، ليس بمعنى ابتكار الموضوعات او الثيمات ، فهي محدودة وسبق لبعض الكتّاب والفلاسفة ان أحصوها ومنهم الشاعر جيته، لكن الموت او الحب مثلا ليس هو التجدد عبر العصور بل الاحساس به واسلوب التعامل معه من خلال منسوب الوعي والخبرة، لهذا يكون كل موت هو الموت المبكر والأول وكذلك الحب، رغم ان انفراد الموت بهذه البكارات المتعاقبة يأتي من كونه التجربة الكاملة الوحيدة، أي بلا مسودات او اسكتشات او دوزنة تسبق العزف.
*************
حين تجرًّع سقراط كأس السم بعد ان حكم عليه بالموت، فعل ذلك طواعية، وكأن لديه متسعا من الوقت كي يعتذر لأحد جيرانه عن عدم سداده لثمن ديك اشتراه منه، هذه الواقعة هي ما يلخص الحرية وفق تعريف آخر مضاد للكلبية والعدميّة وحتى ما عرف بالباكونينية – نسبة الى باكونين – انها اطاعة القوانين عن رغبة وليس بفعل الخوف، وقد تكون هذه ‘الخاصية اليونانية اضافة الى ما تسميه هاملتون عدم الخجل من اعلان الفقر من مكونات السايكولوجيا المعافاة، التي لا تشكو من ازدواجيات او صراع مع الذات.
بعد الاغريق بأكثر من خمسة وعشرين قرنا يكتب فرانسيس فوكوما عن القانون في دساتير عصرنا، قائلا انها ارقى مقايضة بلغها الانسان، ويضرب مثالا في سائق سيارة يرتطم بسيارة على الرصيف ولا يراه احد، لكنه يضع اسمه وعنوانه على السيارة المتضررة، وهو لا يفعل ذلك تفضّلا بل لكي يعامل بالمثل، ونفوذ الموتى من الاغريق استمر ألفيات بعد غروبهم كما يحدث لبعض الكواكب التي تنقرض وتتلاشى لكن ضوءها يبقى مسافرا نحو الأرض.
**************
ان ما كتب عنه فرويد حول جريمة قتل الأب أصبح الآن مذبحة للسلالة كلًّها لهذا يقتل الكثير من الموتى بلا محاكمات وتهمتهم هي الاستمرار رغما عن التاريخ وليس بفضله، وهذا النفوذ بحدّ ذاته يشكل لدى بعض المعاصرين عقبة وعقابا معا، خصوصا اذا كانوا ممن عزفوا عن قراءة التاريخ، بحيث اصبح عليهم تكرار اخطائه كلها.’
أليست مفارقة ان يثير الموتى احيانا حسد الأحياء ؟
عندما ينتهي الاشتباك بين حضور هش يوشك ان يكون غيابا وبين غياب ساطع وذي نفوذ ؟
انها معادلة الأحياء الموتى الذين تسعى بهم احشاؤهم كالثعابين في عالم الضرورة والموتى الأحياء الذين تحرروا من الشرط البشري في عالم الحرية!
– القدس العربي