*ناصر الريماوي
العتمة والهواء الثقيل هما الأصل، أما غلالة الضوء الباهتة التي سقطت بين أقدامنا، فهي بقع شحيحة أفلتت عنوة من زوايا خفية لتبدد شيئاً يسيراً من حلكة المكان، تتضاءل وتخفت كلما انحدرنا على امتداد السلّم اللولبي نحو القاع.. الدهاليز السفلية فكرة ثقيلة ومتعبة تهبط فجأة، كحضور «لوتسيا» المباغت في الذهن، ملامحها الدقيقة تتحرك في رأسي منذ مئات السنين، ثم تتوارى الآن وتختلط في هذا المكان، ليغدو البحث عنها أمراً صعباً.
«لوتسيا» فتاة جميلة بملامح طفولية عذبة، جذّابة تفيض قسماتها بمرح استثنائي، تلاحقها العيون وتعترضها الأيدي، لكنها لا تذعن لتلك الغوايات، فقط تطلق ضحكتها الساخرة في تلك الوجوه وهي تتخطى عبث الأيادي نحو الطريق، تقضي النهارات بين ساحات وسط باريس المحاذية للنهر، وبعض الأزقة الخلفية المتربة، لا تهدأ أو تملّ، تطارد العربات التي تقلّ أثرياء المدينة في شطرها الغربي، تثب غير مبالية من أمام الأحصنة التي تجرّها لتلحق بعربات أخرى على الطرف المقابل، هكذا حتى تنفذ غلال «اللافندر» وأطواق إكليل الجبل من سلّة القش، وقبل أن تسلك طريق العودة نحو غابة «فانسين» مخلّفة وراءها غبار المدينة وصخب الحانات ليوم آخر، كان يستهويها أن تعرّج على خيام الغجر المتناثرة عند حافة النهر، ترقب رقصهم بتلك الأسمال الغريبة بفرح وحذر بالغين، تجذبها بضائعهم المعروضة على رؤوس رماح الحواجز المعدنية المغروسة على امتداد الأرصفة: أوانٍ فضية، أدوات نحاسية، أثواب نسائية طويلة بألوان زاهية مزركشة، كتلك التي ترتديها نساؤهم، معلّقة على حبال مشدودة بين أعمدة الفوانيس، يرافقها حصن «اللوفر» على مرمى البصر، حتى تتخطى آخر خيمة في انحدار نحو وسط المدينة حيث تتوارى قمة الحصن تماماً خلف سور المقبرة وأحياء الصفيح، تمتعض وتلسعها الوصايا بضرورة الابتعاد عن ذلك المكان، فالهواء قد يَفسد في أي لحظة هناك.
تمضي في طريق العودة، يستوقفها القصر الفسيح الذي أفلت من حدود الضاحية في «فرساي»، ليستقر بين آخر حيّ في المدينة وطرف الغابة المحاذي لها، أمام السور الحجري المنخفض، تتسمر صامتة وهي تطل من بين قضبانه الحديدية، ترسل بصرها في إثر المساحات الخضراء الشاسعة، تتحول إلى فتاة أخرى، أنثى مختلفة، هادئة، تتخلى عن ملامحها المتحفزة وتمردها الفطري وهي تمشط المكان، تتنهد حين يطل ذلك الفارس، في كل مرة يمر بها وهو يروض حصانه، ولا يتنبه لوجودها، تأملت ثوبها الرّث مهترئ الحواف للمرة الأولى، وعزت السبب إليه، وأضمرت شيئاً وهي تتأبط سلّة القش وتستأنف طريقها نحو الغابة.
قبيل الغروب، ككل يوم، وعلى جذع شجرة صغير تجلس أمام بوابة الكوخ، حتى يطلّ والدها من بعيد بقامته التي تحجب عنها آخر وهج يحتضر للشمس، وقميصه الذي تكلّس بفعل العرق وغبار مقلع الحجارة، تهرع إليه وتصرّ على معانقته قبل أن يسلمها رزمة الخبز ويدلف نحو الساقية الصغيرة على جانب الكوخ ليغتسل.
الدهليز الذي أفضى إليه السلّم اللولبي ضيّقٌ ورطب، بقع الضوء الخافتة تتوزع بانتظام على جانبيه، لتكشف عن تجاويف غائرة، هي كل ما تبقى من مقالع الحجارة القديمة، وسط السكون الموحش شهقتُ، وأنا ألمح اللافتة التي تشير إلى فسحة دائرية بين دهليز المقالع وبوابة السرداب، «حوض أقدام القلّاعين»، لم يكن بتلك الأهمية في البحث عن رُفات بالية بين ستة ملايين جمجمة سوف تتشابه، إلا أن ظهوره أعاد ترتيب الوقائع المختلطة لدي..
عند حافة التلّ في «مونمارتر» وأمام أكوام الزهور التي يجمعها فقراء غابة «فانسين» مقابل أجر زهيد، لتقتات عليها طاحونة العطر الوحيدة، وقف «أندريه» منتشياً إلى جانب ابنته التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، بعد أن أفرغ حمولته -هو الآخر- من أزهار «اللافندر». أشار إلى أطراف المدينة الصغيرة، ثم قال: «باريس ما زالت تمعن في زحفها، إن ظلّت على هذه الوتيرة في التوسع جنوباً، فسوف تتخطى مقالع الحجارة قريباً». هكذا اعتادا أن يقضيا ظهيرة الآحاد، قبل أن يفترقا في النهارات لأسبوع بأكمله، وهو يؤكد لها في كل صباح من أمام ساحة «الكاتدرائية»، أنه لن يتجاوز «حوض أقدام القلّاعين» في البقاء فور انتهاء العمل فيه، وإلا فقد عقله هناك تحت وطأة التعب… لكنّ وقتاً طويلاً عبر المدينة وتخطّاه، قبل أن يفعل.
الأصوات عميقة وموحشة تتلاشى أصداؤها على الفور، «قف… أنتَ أمام امبراطورية الموت» نقش على صخرة مثبتة فوق بوابة السرداب، توقفنا قبل أن ينشق الفراغ عن وجه «لوتسيا» بعينيها الخضراوتين وشعرها المموج المنسدل حتى أسفل الظهر، ليبتلع الكثير من مخاوفنا.. ثم عبَرنا.
غادرت كوخ والدها -المعدم، الملتحف بأغصان أشجار الصنوبر العملاقة- وحيدة للمرة الأولى، حين بدأت تميّز بين أثرياء المدينة من نبلاء وتجّار بتلك القبّعات السوداء العالية والأردية الطويلة، وبين أغلبية الناس من فقراء ومعدمين وصغار الكسبة.. وحفظت عنه كل وصاياه. حذرها من عواقب عبث الأثرياء، وقدرتهم على التنصل من تلك العواقب، ومن نزوات الغرباء على الضفة اليمنى لنهر السين، حيث تقذف بهم ظهور المراكب إلى جانب شهواتهم نحو المرافئ. «الغرباء ترافقهم شياطين الرغبة المحرّمة»، قال لها بحزم.
نما لديها إحساس ثقيل بالذنب تلك الليلة، فأفضت لوالدها بكل ما أخفته عنه في الأشهر الماضية، حدثته عن خيام الغجر، وعن ذلك الفارس، وعن رغبتها بشراء ثوب جديد، لائق، مزركش بألوان زاهية من هناك. لم يغضب، ولكنه أدرك بفرح مشوب ببعض القلق أنها قد كبرت، ولم تعد بعد الآن تلك الصغيرة، وبأن فتنة المرأة التي يراها أمامه قد تغلّبت على جمال الطفلة التي رعاها لزمن طويل.
تيارات هواء باردة سرت بيننا ونحن نجتاز بوابة السرداب، سكون عميق يلف المكان تفوّق برهبته على وحشة الدهاليز التي مررنا بها في المقالع. تحت أضواء شحيحة، برزت لنا جدران سميكة على الجانبين شُيّدت من عظام بشرية تكدست عبر مئات السنين، وجماجم تتشابه بتلك المحاجر الفارغة، المتوحدة بنظراتها الباردة، الموحية بالفناء، رغم تباين الحكايا واختلافها وما تضمنته من مشاعر وأمنيات لأصحابها ذات يوم، كما يصعب معها الوقوف على حقيقة أصحابها، إن كانوا رجالاً أم نساء. «لوتسيا» تشبه إبرة مفقودة وسط كومة قش في هذا المكان، ولن يشفع لنا ثقب صغير على جبهتها كي نستدل به على رفاتها..
تَقلّب «أندريه» خارج الكوخ تلك الليلة حتى الصباح، لم ينم ولكنه راح يستعيد ذكرى زوجته التي أحالها ذلك المرض الغامض إلى كومة رماد بين أحياء الصفيح المعدمة المحاذية لسور «مقبرة القديسين الأبرياء» وسط باريس، وكيف أنها فقدت نضارتها في غضون أيام، كان المرض قد تفشى لسنوات قبل أن يصيبها، وما زال حتى يومه هذا؛ ينحسر لأشهر طويلة، ثم يعود ليحصد المئات في أيام. في ليلتها الأخيرة، حذّرته بصوت واهن، ثم توسلت إليه أن يرحل بالطفلة إلى الغابة وهي تهمس: «الحياة تَفسد شيئاً فشيئاً هنا، المقبرة أفسدت مياه السواقي، ولاحقاً ستأتي على كل شيء»!
أثناء مراسم الدفن التي خلت من كل شيء، إلا من تابوت رخيص وبعض التراتيل، أدرك «أندريه» أن تفسخ المئات من الجثث المدفونة بلا نعوش وتراكمها العشوائي قريباً من السطح، هو ما جعل ازدحام المقبرة أمراً مفزعاً.. لم يُفسد الماء وحده، بل أفسدَ الهواء أرضاً.
بعد يومين، استيقظا قبيل الصبح وغادرا الكوخ، كانت «لوتسيا» بثوبها الجديد المزركش تحلّق كفراشة، تغنّي مع الطيور، وتحكي للكائنات الصباحية بفرح عن سعادة قادمة ستقلب حياتها المألوفة إلى جنة. تقطف الأزهار، وتجمعها في سلّة القش، ثم ترشّها برذاذ ماء الساقية لتظل على نضارتها لأطول وقت ممكن. واصلا سيرهما نحو المدينة، أمام ساحة «كاتدرائية نوتردام» –وعلى غير عادته- تأملها بحنان ثم ضمّها إليه طويلاً قبل أن يفترقا..
عاد مع الغروب، ولم يجدها بانتظاره، جذع الشجرة الصغير على جانب الكوخ فارغ، وبوابته ما تزال موصدة بذلك القفل الذي تدلى ثقيلاً على صدره تلك اللحظة.. كل شيء على حاله مثلما كان في الصباح، ولا أثر لها هناك، اعتراه هاجس أسود بلغ به حد التشاؤم، وبأن هذا الغياب هو ما حدّثه به قلبه هذا الصباح. هبطت عتمة الليل، فلسعه جمر الانتظار، ولم يقدر على البقاء أكثر، اخترق الغابة وراح يجوب الشوارع والساحات، وأزقة الأحياء المظلمة على الجانب الأيمن لنهر «السين»، تفقّد الحانات وعلب الليل، قصد أحياء الصفيح وأماكن تواجد الغجر، اعترته الدهشة حين لم يجد أثراً لخيامهم، أوضح له بعضهم أن «الشرطة المحليّة» قد اقتلعتها عصر هذا اليوم، واقتادت معظمهم إلى الزنازين بتهم شتى.
عند منتصف الليل كان يطرق أبواب البيوت الفسيحة التي استقرت على الطريق بين المدينة وغابة «فانسين»، لكنه لم يعثر لها على أثر، قال له أحدهم إنه لم يرَ صبية باريسية، لكنه لمح اليوم فتاة غجرية، تحدّق من خلال السور، وحين اقترب منها، جفلت وأخذت تجري صوب الضواحي، ولم تسلك طريق الغابة.. تجاهلهُ «أندريه» وهو يردد بصوت منخفض: «لم تكن غجرية، ولكنها أحبّت رجلاً هو أسوأ منهم!».
لم تعد «لوتسيا» بعد ذلك اليوم، وهجر «أندريه» عمله في المقالع، ليقتصر يومه على حمل الزهور إلى تلّة «مونمارتر» وبيعها لطاحونة العطر، ثم العودة والانتظار أمام الكوخ والتسكع لساعات طويلة في البحث عنها بين دروب المدينة، إلى أن ينتصف الليل.. وحتى ذلك اليوم، حيث تناهى إليه وهو يفرغ أكياس الزهور في «مونمارتر»، بأن انهيارات أرضية حدثت قبل قليل وسط المدينة، تهدمت على إثرها بعض المنازل القديمة، وأن سور «مقبرة القديسين الأبرياء» كان من بينها، ليقذف بمئات الجثث نحو الطريق، خطر ببال «أندريه» رفات زوجته على الفور..
هرع إلى هناك، ليجد بانتظاره ما هو أسوأ، حشود بشرية هائلة أحاطت بالمكان، بين الجثث التي تفسخت واختلطت بكتل الطين اللزجة والرمل وسط الطريق العامة، كانت جثة لفتاة بثوب مزركش طويل، لم تتفسخ بعد، بذل بعضهم جهداً مضاعفاً في تخليصها من بين يديه، وهو لا يصدّق بأن ثقباً صغيراً في الجبهة من شأنه أن يفرّق بينهما للأبد.
أخذ يستعطف الوجوه التي تكالبت عليه ويقول: «لم تكن غجرية، ولكنها أحبت أن ترتدي ثوباً من ثيابهم… هذا كل شيء!».
قضى «أندريه» ما تبقى من حياته عاملاً، يطحن الزهور في تلة «مونمارتر»، ولم يطأ أرض الغابة أو كوخه المعدم بعد ذلك اليوم. بعد شهور قليلة، أصدرت السلطات المحلية أمراً يقضي بوقف العمل نهائياً في مقالع الحوض الباريسي، وتدعيم الدهاليز تحت سطح المدينة.. بعد ذلك وبوقت قصير، صدر مرسوم ملكي يقضي بإغلاق مقبرة الأبرياء، ويحث السلطات على ضرورة نقل الجثث، إلى شبكة سراديب المقالع.
لسنتين متتاليتين، ما إن يهبط الليل حتى تتحرك عربات سوداء في موكب جنائزي مهيب، تنطلق من أمام بوابة المقبرة، محملة برفات ملايين الجثث التي تراكمت عبر مئات السنين ، نحو مثواها الأخير وسط السراديب.
الأصوات في تلك السراديب عميقة وكأنها تأتي من مكان بعيد، أدركتُ هذا حين تحدّثتْ صديقتي للمرة الأولى منذ هبطنا إلى هنا، قالت لي: «لا.. لستُ مستعدة لموت كهذا!». راعني ثوبها التراثي المزركش وأنا أحوّل بصري عن ملايين العظام البشرية وأنظر نحوها، خلته سيسقط عنها ليكشف عن هيكل عظمي يشبهها، نظرتْ إليّ بمحجرين فارغين ثم راحت تجري بفزع، حتى اختفت تماماً. ثمة جماجم كثيرة برزت وأخذت تتدحرج نحوي حين وصلتُ إلى السطح، باريس بأكملها تحولت إلى هياكل عظمية تتسكع في الطرقات ثم تفرّ من أمامي، بعضها يقود سيارات مكشوفة ويرمقني بارتياب من خلال نظارات شمسية تخفي وراءها تلك المحاجر الفارغة، بعضها الآخر يجلس إلى طاولات المقاهي ويثرثر بهواتف نقالة أو يحتسي شرابه بملل وصمت، وكلما لمحني أحدهم غادر بارتباك.
بحثتُ عن صديقتي بين الجميع، ولم أجدها، هيكل عظمي وحيد كان مسربلاً بملابس رجال الشرطة المحلية، يحمل بيده هراوة، ويقف إلى جانب مدخل فندق «إيبيس باريس».. هرعتُ نحوه، وصفتُ له صديقتي، هز جمجمته، مشى أمامي بثقة قائلاً: «اتبعني، أمام خيمة سيرك ضخمة، محاطة بعربات يقطنها الغرباء.. كانت هناك ساهمة تحدق نحوهم بفرح، ناديت: لوتسيا.. التفتت نحونا، أفزعها وجود الرجل بتلك الهراوة، فرّت هاربة نحو الرصيف المحاذي وأخذت تجري، تعثرتْ بثوبها المزركش الفضفاض، ترنحت ثم ارتطمت بأعمدة السياج المدببة، اخترق أحدُها جبهتَها وسقطتْ، كانت ما تزال تردد: «لست غجرية، ولكنني أحببت هذه المدينة في عيون الغرباء».
_____
*ملحق الرأي الثقافي
_____
*ملحق الرأي الثقافي