جرعة موسيقية… بالشفاء!


نصير شما


في العلوم نعتمد على الكهرباء من خلال صنع دائرة كهرومغناطيسية تولد لنا مجالات متعددة من الضوء إلى احتياجات أخرى.

الموسيقى في رأيي تعمل العمل نفسه، توّلد دائرة موسيقية مغناطيسية تصبح جاذبة لما حولها وتشكّل طاقة فعالة تستطيع مخاطبة الأعصاب الحساسة في الجسم الإنساني أو حتى الحيواني والنباتي.
الطاقة التي تولدها الموسيقى تَخلق قدرات متنوعة بمجملها جاذبة وقوية، وقد جرت في هذا المضمار أبحاث عدة طالت التأثير الموسيقي أو الصوتي على النباتات بصفة عامة، ولوحظ أن الذبذبات الصوتية تستطيع التعجيل بنمو النبات، كما أنها بوسعها أيضا التأثير على جودة الثمار التي تقدمها.
من ملاحظات شخصية، انتبهت منذ طفولتي إلى أن السيدات اللواتي كن يقمن بترنيمات موسيقية يمكن أن توصف بأنها رقيقة أو حنونة للنباتات وهن يقمن بعملية سقيها بالماء، تمنح هذه النباتات حالة من الفرح، لا أستطيع توصيف الحالة بشكل دقيق ولكنني كنت أشعر عميقا أن النبات كأنما يرقص تعبيرا عن إمتنانه وسعادته.
تستطيع الموسيقى أن تبث طاقة إيجابية خلاقة، بوسعها أن تغمر محيطها بمشاعر إيجابية، أو تقوم باستخراج مشاعر عميقة داخلية قد تكون مدفونة بفعل الزمن.
لا نستطيع أن نقول أن الموسيقى عمل وجداني يلامس السطح، بل هي تركيب عميق يوائم ما بين الوجداني الروحي والجسدي العصبي، هي حالة توافق بين قطبين قد يكونان متنافرين أحيانا، لكن الموسيقى بوسعها أن تشكل تلك الدائرة. الموسيقى – مغناطيس التي تجذب المتنافر مشكلة تحفيزا عميقا لعمل مشترك بين الجسدي المادي والروحي الميتافيزيقي أحيانا.
تؤثر الموسيقى أو الصوت في كل ما حولها، وأعتقد أن المجال الصوتي يعمل تماما عمل المجال الضوئي، وبينما يستطيع الضوء غمر العالم كله في لحظة بنور عال وقوي يكشف كل شيء، أو على العكس من هذا يختفي فيخفي معه كل شيء، فإن الموسيقى تقوم بالعمل نفسه. وجودها يصبح كالضوء كاشفا وغامرا وغيابها تماما كغياب النور يحيل كل شيء إلى ظلام.
في علم النفس الحديث اعتمد عدد كبير من الأطباء النفسانيين على العلاج بالموسيقى، وقد لاحظت أن أكثر من طبيب نفسي كتب لي أنه يستخدم موسيقى «إشراق» وهي احدى مقطوعاتي الموسيقية المبكرة في علاج حالات نفسية مختلفة، من مقام الكرد، وظلّ السؤال يلاحقني، ما الذي في هذه المقطوعة تحديدا الذي يجعلها قادرة أكثر على التأثير النفسي؟
هل هو السلم الموسيقي؟ المقام؟ هل هناك مقامات معينة أو سلالم بوسعها التأثير على الباطني العميق؟ 
ليست الموسيقى بمجملها قادرة على الأداء نفسه، وكما قلت سابقا فلكل مقام مقال. ولكل إنسان سّره في ما يؤثر عليه من ألوان وأنغام وأصوات وغيره من السلوكيات. 
ذات يوم وقبل ان أخضع لعمل جراحي لعلاج آلام الظهر بسنوات، كنت على موعد مع فرقة موسيقية من جنسيات عالمية مختلفة يلقبون أنفسهم بـ”موسيقى الشفاء” وكانوا قد طلبوا مني أن أكون ضيف شرف على فرقتهم في حفل موسيقي في القاهرة لأنهم رأوْا أن الموسيقى التي أؤلفها تعمل عمل الشفاء، قبل أيام قليلة من موعد الحفل داهمتني آلام شديدة في ظهري ورأى الطبيب أن التدخل الجراحي على الأقل في حقنة في الظهر أمر أصبح لازما، وطلب مني الطبيب عدم مغادرة السرير إلا لأمر ضروري، وعندما وصل أعضاء موسيقى الشفاء إلى القاهرة اعتذرت منهم لعدم قدرتي على الجلوس أو القيام بأي حركة، فطلبوا أن يزوروا منزلي لعلاجي، وقالوا لي أسمح لنا بمساعدتك فهذا تخصصنا، الفكرة نفسها كانت غريبة إلى حد ما، ومع هذا استقبلت فرقة من 13 موسيقيا ومن جنسيات غربية مختلفة، جلسوا حولي بشكل دائري وسألتني إحدى عضوات الفرقة وهي أمريكية عن إتجاه القبلة، ثم أجلستني باتجاهها، وبدأ العزف بآلات وأجراس وأوان كريستالية وبذبذبات صوتية عالية بعضها مزعج، لكن النتيجة كانت أنني شعرت بتحسن فعلي، وقدمت معهم لاحقا الحفل على المسرح.
إذن بوسع الموسيقى فعليا أن تقوم بعمل علاجي للأعصاب، للروح، وللقلب، بل عمل شافٍ لكل الجسد فيما لو استمر العلاج بشكل ممنهج كما العلاج بالدواء، مع أن الفرقة ذاتها قد طورت مهاراتهم الروحية أيضاً وقدراتهم تحولت إلى طاقة حقيقية شافية، لم يكن وهماً ولم أكن أتخيل بل كانت الحرارة تلف مكان الألم بشكل واضح وهم يعملون ويلعبون على آلاتهم المصوتة بذاتها. 
الموسيقى ليست حالة روحانية فقط، بل هي حالة تعمل عمل المادي المحسوس بالرغم من أنها ليست مادية ولا تُلتقط بالأصابع ولا تحمل بالكف. هي حالة ليست مادية ولكنها قادرة على أن تكون كالمادة في فعلها. منذُ سنين كانت أشجار نيويورك المدينة تموت بشكل لافت ربما نتيجة الأسمنت والحديد والبلاستيك والزجاج الذي يحيط بكل الحياة جربوا كل الطرق المبتكرة في الزراعة وتغيير التربة وتغليف الأشجار وغيرها من الطرق التقليدية ولم ينفع شيئاً، أقترح أحد المختصين بالموسيقى علاجاً للأشجار من خلال تجربته الشخصية، وفعلاً تم توزيع أجهزة الصوت لتصل الموسيقى لكل الأشجار المريضة وبدأت الموسيقى الكلاسيكية تصدح. لم يتغير الحال، استخدموا معظم أنواع الموسيقى البوب، الجاز، المعاصرة، ولم تتحسن صحة الأشجار، ثم تم ترشيح الراكا الهندية والباكستانية وهي تشبه في تقاليدها صرامة المقام العراقي وكلاسيكيته وعمرها كشكل موسيقي يتجاوز عمر أمريكا بكثير، ما هي إلا أيام قليلة حتى بدأت الأشجار بالتعافي والنمو وعادت لها ألوانها وهذهِ الحادثة كُتب عنها الكثير حينها، لقد أختارت الأشجار أعلى شكل موسيقي أصيل وعاشت أكثر من ألف سنة لتتذوقه وتتناوله لتصحْ.
الصوت سّر لم نعرفه بعد.
القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *