وفاء السويدي
«أحب أن أجرب في كل نص، نقطة جديدة». تلك هي سمة الكينونة والمدرسة الإبداعية لدى فتحية النمر، كما تصف. ويبدو أنها رست في النقاط المستحدثة، في عملها الأخير «كولاج»، على تجريب مجدد في التقنية. إذ انها لم تختر أن يكون السرد بضمير الغائب، مثلاً، أو المخاطب، بل عبر تعدد الأصوات.
جملة أفكار ورؤى في جعبة فتحية النمر، تتحدث عنها وتصفها في حوارها مع (بيان الكتب)، مؤكدة أنها تؤمن بالوظيفة الاجتماعية والنفسية للأدب. وتوضح أنها وبينما كانت تكتب «كولاج»، تمنت وحلمت أن تراها مجسدة في عمل درامي، إلا أنها لن تستجدي أو ترجو، لأجل ذاك، أحداً من المتخصصين في المجال.
تؤكدين، دوماً، أنك تنتهجين التجديد وطرح الجديد في أعمالك الروائية. فما ملمح هذا وطبيعته في «كولاج»؟
غصت في دواخل فئات المجتمع واستخرجت، قدر إمكاني، ما يتردد فيها من أفكار وهموم ومشكلات ومخاوف، حاولت أن أنفذ إلى أعماقها، كي أقدم صورة واضحة نوعا ما عما يعتورها من قلق، خاصة وأن القلق أصبح في زماننا هذا وفي عالمنا المتخبط والمتهاوي سمة أساسية قلما نجا منها مخلوق. في هذه الرواية..
أحببت أن أرسم صورة لمجتمع دولة الإمارات الحالي بما له وما عليه، هذه الصورة التي أصبح التنوع أهم ملامحها، فنحن في دولة الإمارات مجتمع يتعايش أفراده، الممثلون لأكثر من 200 جنسية وهوية، بشكل متميز ومتفرد عن كل بلاد العالم، لكن ذلك لا يعني عدم وجود مشكلات أو مخاطر.
أود التأكيد هنا، أني أهتم باللون الاجتماعي والنفسي في الأدب، وغالبية نصوصي تركز على الناحية الاجتماعية وعلى سلوك البشر ومدى تأثرهم بقيم الحضارة والتغير الذي نفذ إلى كيان المجتمع بما فيه ومن فيه. ولذا فإن أكثر ما يهمني هو ابراز آثار ذلك التغير، إن كانت إيجابية أو سلبية.
ترقيع
* ما مغزى ودلالة العنوان: «كولاج»، بالنسبة لحبكة روايتك ورؤاها؟
تلك كلمة أجنبية، تعني القص واللزق أو الترقيع. وأنا أخذت المفهوم في تجسيده بروايتي بمعنى الترقيع، فإن كان فعلياً موضوعياً أو كان رمزياً، هناك ترقيع واضح في المجتمع..ألوان وأشكال متعددة، تماما مثل الفنان التشكيلي الذي يرسم لوحة من مواد خام متنوعة، يشكل منها كياناً يأمل أن يكون واحداً.
هل أن أشخاص الرواية وأحداثها مستمدة من واقع المجتمع الإماراتي ?
بعض الشخصيات فيها هي من واقع المجتمع الإماراتي بشكل كامل، مثل: جمعة شاهين الإماراتي الأب والأم والمولد والحياة، وهناك النموذج الخليط بين الإماراتي والأجنبي.. مثل سلطانة. فأبوها إماراتي وأمها باكستانية. وهناك براء المصرية وزاهد السوري. لكن أيا كان فالنماذج كلها موجودة في مجتمع دولة الإمارات، وتشكل نسيجه وقوامه، كما أنها تتفاعل وتؤثر وتتأثر ببعضها البعض.
حقيقية
جمعة شاهين، سلطانة، براء، زاهد، غدير. ما الشخصية الأقرب إلى الواقع من بين جميع تلك الشخصيات في عملك؟
كلها شخصيات من عمق الواقع، كلها واقعية، وكلها موجودة. نحن نعايشها، نراها، نتعامل معها، نتفاعل، نؤثر فيها وتؤثر فينا، كلها حقيقية. لكنني لا أعرف أياً منها بشكل خاص. هي نماذج ابتكرتها من واقع حياتي وتجاربي وعلاقاتي.
لكن، إن كنت تقصدين أياً منها أقرب إلي أنا شخصياً، فأنا أحببت سلطانة كثيراً، لأن فيها بعضاً من أفكاري وأحلامي. فيها بعض طباعي، فأنا أحب الإنسان الصريح الواضح الذي لا يتخفى خلف الأقنعة.
ولا يتظاهر بما ليس فيه، ولا يخفي ما فيه. أحببت سلطانة كثيراً، لأنني وجدت فيها بعض ملامح الطفولة التي أعتز بها، خاصة وأنني سمعت وأنا صغيرة عن امرأة باكستانية متزوجة من مواطن عاشت بيننا في الحي، وكانت تكافح من أجل أن تثبت للجميع بأنها لم تتزوج المواطن طمعاً.
أنا لم أرها كثيراً، ربما مرة واحدة. وكانت ملامحها الخارجية غير ملامح سلطانة التي اخترت أن تكون مليئة بالجمال والعنفوان، حتى وهي في الأربعين والخمسين من العمر وعندها ابنة متزوجة، لكنني سمعت بها وبنيت على معلوماتي عنها: حياة شخصية روايتي سلطانة.
تشابه واقع
كيف تفسرين التنوع الكبير في الأحاسيس والمشاعر التي تنطوي عليها الرواية:.. من ألم وحزن وخيانة؟
من الطبيعي أن تتنوع الأحاسيس، وكذا اللغة والأفكار والرؤى والطباع والأفعال. وهذا في رأيي شهادة على نجاح العمل، وإلا فكيف تكون رواية تعكس تعدد الأصوات. وكل صوت يخص شخصية مختلفة عن الأخرى وفي النهاية تتشابه المشاعر والعواطف؟.
هل تتطلعين إلى تحويل الرواية إلى عمل درامي؟
نعم بالطبع، وأنا أحب أن أشير إلى أن هذه الرواية تحديدا كتبتها وأنا أحلم بتحويلها إلى دراما. والحقيقة كل شيء فيها يستحق أن يتحول دراما، شخصيات عديدة متنوعة وغنية، ويمكن تحويلها إلى حكاية درامية شائقة عن بشر حقيقيين..أمكنة عديدة وأزمنة متنوعة. ففيها حوارات رائعة وباللهجات التي تنتمي إليها الشخصيات.
فيها صورة جلية للمجتمع الإماراتي المفتوح، فيها كم كبير من الأحداث التي تكفي لعدد من الحلقات لا تقل عن ثلاثين حلقة. لكن أنا بطبيعتي لن أضيع وقتي الذي أكرسه للقراءة والكتابة وأسرقه من كل شيء، لأجري وراء المسؤولين في الدراما وأعرض عليهم نصي.
حكايا مجتمع متجانس وملامح متنوعة
تحكي رواية «كولاج» عن مجتمع متعدد الملامح والرؤى والهواجس، وجميع الأحداث والوقائع فيها مسبوكة في صورة يدرك معها القارئ أنه يختبر نموذجاً لمجتمع تتباين فيه الشخصيات، ولكنها تجتمع وتتفق في قالب تعايش اجتماعي مشغول من التجانس والتناغم.
رفض وشروط
تتحدث الكاتبة فتحية النمر في العمل، عن شخص يدعى جمعة، المحتار بين والدته وزوجته التي بدورها لا تتعامل معها بطريقة مهذبة، وذلك بالرغم من حنان وطيبة الأم معها، ويقول جمعة:
بيتنا في الأصل فيلا بثلاثة طوابق، شيده والدي الحاج شاهين في حياته، نتشارك السكنى فيه معهما وبتسليمه الأمانة، خطر ببالي أمراً ظننته طبيعياً، ترددت في التنفيذ، إلى أن حسمت خالتي كل شيء بصوت ملؤه التحدي (لن تترك أمك وحدها، عندك أو عندي). وأشارت إلى أن بيتها كبير، ولا يشغله معها غير منال، ابنتها الوحيدة، مع زوجها وأولادها.
وأصرت الأم على رفض البقاء، ثم أعلنت الموافقة بشرط أن تسكن في الملحق الخاص بالفيلا، مع الخادمة.
حالة
وفي حديث «جمعة» عن حياته وحياة صديقة «حميد».. نتبين أنه تجمعهما خيارات الأماكن السرية البعيدة عن الأعين، وفي إحدى زياراته مزرعة صديقة يقول:
«لن أخفي دهشتي وإعجابي بما رأيت، مساحة المزرعة تزيد كما قال عن 240000 قدم مربع، مسورة من جميع الأطراف بأشجار النخيل، بمصابيح صفراء على الجدران كلها، يتراقص نورها، فضلاً عن الهالة الغامضة التي أسقطتها في نفسي مجاورة المزرعة لمزارع أخرى على نفس المستوى الخارجي للفخامة».
وتقدم الرواية في عمقها، قصصاً متنوعة لأفراد آتين من خلفيات مختلفة. كل قصة قائمة بحد ذاتها، رغم وجود الناظم المشترك بينها، هذا الناظم تمثل في علاقات القرابة وعلاقات التعايش، فسلطانة مثلا أم زوجة جمعة، وغدير زوجة جمعة هي ابنتها، وبراء جارة لجمعة شاهين…
وهي من أجرت العملية الجراحية لغدير قبل أن تتزوج جمعة، أما زاهد السوري.. فهو محاسب عند جمعة شاهين ولسوء أحوال شاهين الإدراكية بسبب شربه الخمر وكثرة السهر، وجد الطريق أمامه سانحاً ليصول ويجول في بيت شاهين ويسطو على ما قدر عليه من المال وأشياء أخرى.
حكاية
بما أن كل واحدة من الشخصيات هي حكاية بذاتها، كان لابد من تقسيم الرواية تبعا لأسماء الشخصيات الخمس، والتي أخذت كل واحدة منها حيزاً بحسب دورها، كل منها تقريباً تساوى مع الآخر، إلا زاهد الذي كانت مساحته طاغية ومهيمنة ومكتسحة، لأنه الذي لعب الدور المحوري وحرك الأحداث.
بطاقة
فتحية النمر، كاتبة وروائية إماراتية، حاصلة على بكالوريوس الفلسفة والمنطق من جامعة الإمارات. خاضت تجربتها في العمل متنقلة بين التعليم والتوجيه التربوي، غير أنها اختارت التقاعد المبكر. ولم تبدأ الكتابة في سن مبكرة. لديها خمس روايات: السقوط إلى أعلى، للقمر جانب آخر، طائر الجمال، مكتوب، كولاج.
البيان