*عدنان حسين أحمد
لم يكتف المبدع بصفة المُعاصرة، ولا يريد لعمله الإبداعي أن يكون حداثيا، بل هو يطمح إلى أن يكون منجزه الأدبي أو الفني مستقبليا. وهذا يعني أن الأديب أو الفنان لا يجد حرجا في الانفصال عن الماضي أو حتى إعلان القطيعة عن الحاضر بكل معطياته الراسخة التي تشكل نتوءا واقعيا للانطلاق إلى المستقبل القريب أو البعيد على حد سواء.
لا تقتصر المستقبلية على نوع أدبي أو فني محدّد فهي تمتد من الرسم والنحت والخزف، لتمرّ بالتصميم والمسرح والأزياء، وتنتهي بالأدب والموسيقى والعمارة. وكعادة المبدع دائما فإنه يحاول أن يتجاوز كل ما هو يومي ومألوف وعابر، ليلامس الأفكار الغريبة والصادمة التي تلبّي حاجة الإنسان الذي يتلهف لغزو المستقبل، وسبر أغواره العميقة، ومحاولة فك رموزه الغامضة.
ديناميكية مستقبلية
لا شك في أنّ أي جنس أدبي أو فني مستقبلي يحتاج إلى مقالات عديدة كي تفيه حقه، لكننا هنا سنتوقف عند بضعة أعمال فنية وأدبية ومعمارية قد تعطي فكرة موجزة ودقيقة للقارئ الكريم. فلوحة «المدينة تنهض» أو «تثور» هي من أبرز أعمال أومبيرتو بوتشيوني التي أنجزها عام (1910)، ويمكن للناظر أن يلحظ بسهولة ويسر بُعدها الواقعي، كما أن زاوية النظر الفاحصة قد تعيد المشهد إلى طبيعته الأولى، غير أن اللعبة الفنية لا تكمن في هذا الجانب من الرؤية الطبيعية، بل تتعداها إلى الرؤية الديناميكية التي ترتكز عليها معظم الأعمال الفنية المستقبلية.
ربّ سائل يسأل عن طبيعة الفحوى المستقبلية في هذه اللوحة طالما أنها لا تختلف كثيرا عن المعطيات الواقعية أو الطبيعية التي يمكن أن نلمسها في التكوينات أو الفيغرات البشرية والحيوانية؟ هل أن ديناميكية العمل، والإيحاء بدوام الحركة هما الميزتان الأساسيتان للعمل الفني المستقبلي؟ أم أنّ هناك شيئا آخر له علاقة جوهرية بمضمون العمل الذي يتعاشق مع التقنية التي خلقت جوا غريبا أخرجته من الفضاء الراكد وقذفته في أتون الحركة التي بعثت في اللوحة حياة أخرى جديدة ومستقبلية إلى حد ما.. هذه الديناميكية يمكن أن نجدها في غالبية العمارات والأبنية التي صمّمتها الفنانة والمعمارية المشهورة زها حديد التي تكاد تنسف الأشكال القديمة، وتستعيض عنها بنماذج بنائية يشهد الكثير من المعماريين وغالبية المتلقين بجدتها وديناميكيتها وإيحائها الحركي الذي يبهر الأنفاس.
نصوص عربية
إذا كان الشاعر والأديب الإيطالي فيليبو توماسو مارينيتي هو من أسس الحركة المستقبلية، ودعا علنا إلى نبذ الأفكار والرؤى التقليدية في كتابة النص الإبداعي، فإن هناك بعض الكُتاب والفنانين العرب، قد تبنوا هذا المنحى المستقبلي في عملية الخلق الإبداعية التي مارسها بعض الكُتاب والشعراء والروائيين العرب أمثال فاضل العزاوي في نصوصه الشعرية وإبراهيم أحمد في روايته «طفل السي أن أن»، والدكتورة خولة الرومي في روايتها الثالثة التي سوف تظهر قريبا جدا والتي أطلقت عليها اسم «آدم عبر الأزمان»، وعلى الرغم من أهمية ثيمتها، وخطورة الموضوعات الجانبية التي تناولتها بصدد الأديان الموحِدة، إلاّ أن البُعد المستقبلي هو الأكثر إثارة فيها، ذلك لأنه يربط بين الخيال العلمي من جهة، وبين الأدب المستقبلي من جهة أخرى.
فكاتبة النص تعتقد أن البشرية بدأت على وجه الأرض بعد أن حلّ قوم الأنوناكي في مدينة «شروباك» السومرية، وقد طوروا جينات «آدمو» لكنهم لم يخلّصوه من نفَسه العدواني تماما، الأمر الذي أثار فيه شهية الانتقام والقتل.. وحينما حلّ الطوفان غادر الأنوناكي عائدين إلى كوكبهم الأكثر تطورا من كوكبنا الأرضي، لكنهم تركوا إسطوانة حجرية سوداء تحتوي على معلومات كثيرة تفك مستقبلا أسرار أصل الإنسان الذي طوّرته المختبرات والجينات الأنوناكية القادمة من كوكب آخر.. وبغض النظر عن التفاصيل الأخرى التي تزخر بها الرواية إلاّ أن هذا البُعد المستقبلي فيها هو الأهم لأنّ الكاتبة خولة الرومي لا تريد لهذه الرواية أن تتوقف؛ لقد بدأتها بآدم «ع» منذ بدء الخليقة وأنهتها بموته في عمل إرهابي في «شروباك»، وهو ذات المعبد الذي انطلقت منه شرارة هذا النص الروائي اللافت للنظر..
إن خشية الرومي من الإعلان عن تفاصيل الأسرار المدونة في هذه الإسطوانة الحجرية هو الذي يجعل القارئ متشوقا لمعرفة هذه التفاصيل المحجوبة عمدا، وكأنها تريد أن تشحذ ذهن القارئ كي يعيش في المستقبل عبر مخيلته الفاعلة التي تتأجج كلما أوغل بالقراءة، وتعمّق في فضاء التأمل الذي تتيحه الكاتبة على مدار النص الروائي.
يعتقد الكثير من النقاد والدارسين والباحثين أن المبدع سواء كان فنانا تشكيليا أم نحاتا، أم معماريا، أم روائيا فهو يبحث عن هذه الأجواء الغريبة التي تنطوي على قدر كبير من الأسرار التي لا نستطيع أن نفكّها أو أن نفهم مغزاها؛ لكن عزاءنا الوحيد يكمن في الاجتهاد ومحاولة الدنوّ من هذه الموضوعات المعقدة، والقضايا الشائكة، والأسرار التي تتجاوز في كثير من الأحيان قدرة الكائن البشري على فهمها واستيعابها بشكل دقيق؛ ومع ذلك يظل التوق كبيرا للولوج إلى المستقبل حتى وإن كان عبر آلية الحلم أو توقّد المخيلة المتأججة التي تُداهم المبدع بين أوان وآخر.
________
*(العرب)