قصائد الشعراء الموتى


د. حاتم الصكر


جرت العادة في تاريخ الأدب العالمي أن يتحقق النقاد ومؤرخو النصوص الأدبية من عائدية النصوص لأصحابها الذين نُسبت إليهم مقايسة بأساليبهم وطرقهم الكتابية. هذا هو لبّ ما يجري حول مسرحيات شكسبير وقصائده. لكن من غريب عاداتنا الثقافية حصول العكس، أي انتشار أو نشر نصوص تنسب للشعراء الموتى بعد رحيلهم، وكثير منها تم شطبه بأقلامهم أو إهماله وعدم اكتماله. فماذا وراء ذلك من دلالة ثقافية؟

كنتُ قد شبهت جمع نصوص بعض الشعراء المعرضين عن النشر مثل محمود البريكان وجان دمو بأنه أشبه بولادة قيصرية يقوم فيها الناقد أو جامع القصائد بدور القابلة، بإشرافه على ولادة النصوص وإظهارها للعلن. لكن ضرر ذلك لا يرقى إلى خطر نشر ما لم ينشره الشعراء الموتى خلال حياتهم. فثمة من يعدون العثور على أي قصاصة مهملة إرثا يفتخرون بنشره بعد موت كاتبه.

نصوص ضعيفة، وأخرى لم تصحح أو تنتهي، وثالثة أعرض عنها الشاعر وأهملها: نماذج من بعض ما ألحقه المشيعون بالشعراء الموتى فزادوا من مأساوية غيابهم. لنأخذ السياب مثلا. فلقد شطب عدداً من قصائده بعلامات خطّية واضحة الدلالة برفض نشرها، وعدم الاقتناع بمستواها. لكن أيدي الناشرين امتدت إليها بتواطؤات غير معروفة تماما، وبتساهل يجرح ميراث الشاعر، فأودعوها دواوين أسموها بما رغبوا هم؛ فكانت غاية في الهزال والسطحية والضعف، كقصيدته “القن والمجرة” وحديثه الشخصي المباشر عن زوجته مما لم يشأ نشره في حياته. ويصر أحد قراء النص صوتيا على اليوتيوب أن يسميها “الفن والمجرة!”.

ومؤخرا نشر للشاعر عبدالله البردوني ما وصف بأنه نصان جديدان “قتيلان هما القاتل” و”تواجدية المكاشفة الثانية” أشك كثيرا في أن الشاعر أضاعهما، وعثر عليهما المحققون كما يُروى، بل هما مما لا يرقى إلى طبيعة أسلوبه.

ولكن ما حصل مع أشعار محمود درويش أكثر دلالة. لكأنه كان يحدس ما سيصيب قصائد ديوانه الذي نشر بعد رحيله فعنونه بعنوان دال هو “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي” فظلت أصداء القصائد مدوية في سجال محتدم بين الناشر وفرقاء من أصدقاء درويش ونقاده والمشرفين على نشر مخطوطة الديوان.. فوصلت فوضى المناقضات والردود حد اتهام درويش بالخطأ العروضي والكتابي.

حدث هذا بصدد ديوان مكتمل ومهيَّئ للنشر وعليه لمسات الشاعر الراحل، فماذا سيكون مصير قصائد أهملها شعراؤها ولم يفكروا بنشرها؟ وماذا تضيف نصوص فقيرة المستوى إلى ما تركه شعراء كالذين مثلنا لما نشر لهم بعد رحيلهم؟

يؤشر هذا الجانب من الحراك الثقافي أزمة فكرية تعكس تخليدنا للماضي وتقديسه باستثمار أجواء الغياب التي يعيشها الشعراء جسديا، فتكون إيماءاتهم وتلميحاتهم ونصوصهم بعد رحيلهم ذات قيمة مضافة متوهمة. لندع الشعراء الموتى إذن ينعمون بسلام افتقدوه خلال حياتهم، ولندع أوراقهم بلا تطفل لتنعم هي أيضا بالراحة الأبدية!


( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *