استحضار الموتى


*أبو بكر العيادي

يشهد عالم النشر في البلدان الغربية منذ أعوام نزوعا نحو جعل الكتاب بضاعة خالصة، لا يهم الأسلوب الذي يُصاغ به ولا المعاني التي يحملها. فريق منهم يرى أن الأولوية للحكاية، والشرط أن تكون مثيرة، مشوقة، مليئة بالتقلبات، فيها من الدراما قدر ما فيها من مواقف هزلية ساخرة تخفف من حدّة الصراع والتوتر، وتقرب الشخوص من القراء، وتحببهم إليهم. لذلك يضع ثقله المالي والإعلامي لتمرير روايات يكتب على أغلفتها “الأكثر مبيعا”، حال التوصل إلى توزيع مئة ألف نسخة وحتى دون ذلك، ويفرض صاحبَها كعلامة مميزة، ينتظره القراء كما ينتظرون الشمس في سمائهم الغائمة على الدوام.

فريق ثانٍ يشجع على نشر كتب الفضائح بأنواعها، خصوصا تلك التي تنشر غسيل رجال الفن والسياسة. فريق ثالث اختار نبش القبور وإيقاظ أعلام قضوا نحبهم من سنين، إما بنشر المخطوطات التي تركوها، ولو بمخالفة توصياتهم، كما فعل الناشر ماكس برود مع أعمال صديقه فرانز كافكا، حيث نشر له “القضية” عام 1925 ثم “القصر” عام 1926 بتصرف كبير، وكما يفعل جانب من الناشرين الفرنسيين الذين يصدرون مسودات أوصى أصحابها بعدم نشرها، بدعوى الاحتفال بذكرى مولد أو وفاة. وإما باستكمال عمل فاجأ الموت صاحبه قبل إنهائه، كما هو الشأن مع “الحديقة المعلقة” وهو نص روائي لم ينجز منه الأسترالي باتريك وايت الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1973 سوى الثلث، فلما غيبه الموت عُهد به لكاتب آخر كي يتمّه. وإما بتخير مؤلف مغمور يتولى مواصلة تأليف روايات باسم كاتب مشهور يعلم الجميع أنه غادر الدنيا بغير رجعة.
ولا عجب أن يتواصل صدور مؤلفات لسيمنون وجيمس هادلي تشيز ويان فليمنغ بعد رحيلهم. بل إن بعض الناشرين لا يجدون في ذلك ما يضير، لأن الصورة في رأيهم لا تقل قيمة عن الأصل. هذا مثلا ناشر روايات جيمس بوند كتب مرة على غلاف رواية “الشيطان يمكن أن يحذر” : “سيبستيان فولكس يكتب مثل يان فليمينع.” أكثر من ذلك. لقد تنافس الأميركان منذ أعوام لكتابة تتمة لرواية مارغريت ميتشل الشهيرة “ذهب مع الريح”، ووقع اختيار ورثتها على دونالد ماك كيغ ليؤلف رواية عن مصير ريت بوتلر، فيما اختار ناشر آخر ألكسندرا ريبلي لتأليف رواية عما آلت إليه سكارليت. ومن نافلة القول إن في ذلك استهانة بالكتابة، وليس من الحكمة أن يستحضر الأموات لتأليف نصوص جديدة أو مواصلة أثر أروع ما فيه أن نهايته مفتوحة على احتمالات عديدة.
________
كاتب تونسي مقيم في باريس/العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *