*آمال الديب
خاص ( ثقافات )
كنت بالمرحلة الابتدائية حين وقعت في يدي قصيدة بعنوان “كن جميلاً”:
أيهذا الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟!
إن شر الجناة في الأرض نفس تتوخى قبل الرحيل الرحيلا…
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
أسرتني كلماتها ورحت أفتش عن كاتبها فوجدته الشاعر العبقري إيليا أبو ماضي
ولد أبو ماضي حوالي 1890م، في إحدى القرى بلبنان، وحين اشتد به الفقر رحل مع عمه إلى مصر بهدف التجارة، وهناك التقى أنطون الجميل الذي كان قد أنشأ مع أمين تقي الدين مجلة “الزهور” فاُعجب بذكائه وعصاميته إعجاباً شديداً ودعاه إلى الكتابة بالمجلة، فنشر أولى قصائده بالمجلة، وتوالى نشر أعماله، إلى أن جمع بواكير شعره في ديوان أطلق عليه عنوان “تذكار الماضي”، وقد صدر في عام 1911م عن المطبعة المصرية، وكان أبو ماضي إذ ذاك يبلغ من العمر 22 عاماً.
من أبدع ما قاله في التفاؤل من قصيدة “كم تشتكي”:
كم تشتكي وتقول إنّك معدم والأرض ملكك والسما والأنجم؟
ولك الحقول وزهرها وأريجها ونسيمها والبلبل المترنّم
والماء حولك فضّة رقراقة والشمس فوقك عسجد يتضرّم
والنور يبني في السّفوح وفي الذّرى دوراً مزخرفة وحيناً يهدم
فكأنّه الفنّان يعرض عابثاً آياته قدّام من يتعلّم
وكأنّه لصفائه وسنائه بحر تعوم به الطّيور الحوّم
هشّت لك الدّنيا فما لك واجماً؟ وتبسّمت فعلام لا تتبسّم؟!
اتجه أبو ماضي إلى نظم الشعر في الموضوعات الوطنية والسياسية، فلم يسلم من مطاردة السلطات، فاضطر للهجرة إلى الولايات المتحدة عام 1912 حيث استقر أولاً في سينسيناتي بولاية أوهايو حيث أقام فيها مدة أربع سنوات عمل فيها بالتجارة مع أخيه البكر مراد، ثم رحل إلى نيويورك، وفي بروكلين شارك في تأسيس الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأمريكية مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.
ومن أجمل ما كتب كدروس وعبر في الحياة الإنسانية بعيداً عن السياسة والموضوعات التي كانت سبباً في هجرته قصيدة بعنوان “التينة الحمقاء” يختتمها بقوله:
عاد الربيع إلى الدنيا بموكبه فازّينت واكتست بالسندس الشجر
وظلّت التينة الحمقاء عارية كأنّها وتد في الأرض أو حجر
ولم يطق صاحب البستان رؤيتها، فاجتثّها، فهوت في النار تستعر
من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنّه أحمق بالحرص ينتحر
وبعد استقراره بالمهجر أصدر مجلة ” السمير” عام 1929م، التي تعد مصدراً أولياً لأدب إيليا أبي ماضي، كما تعد مصدراً أساسياً من مصادر الأدب المهجري، حيث نشر فيها معظم أدباء المهجر، وبخاصة أدباء المهجر الشمالي كثيراً من إنتاجهم الأدبي شعراً ونثراً.
ومن أروع ما كتب:
قال: الليالي جرعتني علقمَا قلت: ابتسم ولئن جرعت العلقما!
فلعل غيرك إن رآك مرنَّمَا طرح الكآبة جانباً وترنَّمَا
أتراك تغنم بالتبرم درهمَا أم أنت تخسر بالبشاشة مغنمَا؟!
يا صاحِ لا خطراً على شفتيك أن تتثلَّما والوجه أن يتحطَّمَا
فاضحك فإن الشهب تضحك والدجى متلاطم ولذا نحب الأنجمَا”
يعتبر إيليا من الشعراء المهجريين الذين تفرغوا للأدب والصحافة، ويلاحظ غلبة الاتجاه الإنساني على سائر أشعاره، ولاسيما الشعر الذي قاله في ظل الرابطة القلمية وتأثر فيه بمدرسة جبران. وهذا ما أضفى على كتابته تميزاً وخلوداً جعلاه من أبرز أسماء شعراء المهجر بقاءً بعد أكثر من نصف قرن على رحيله.
ما زال لإيليا أبو ماضي رونق مميز ولقصائده القدرة على بث الطاقة الإيجابية في النفوس مهما بلغ قدر التشاؤم داخل نفس القارئ، حين يستغرق في قراءة أبي ماضي فإنه يشعر بتغيير حقيقي في مزاجه، ويشعر كما لو أنه قد ابتلع حبوباً للتفاؤل والهمة والنشاط..
وعلى هذا لم تسلم بعض قصائده من فلسفة متعمقة، وأوجاع ممتدة:
إنّ التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة