إيتاليو كالفينو/ ترجمة: محمد عيد إبراهيم
للجزيرة الصغيرة شاطئ صخريّ عال. تنمو عليه شجيرات كثّة خفيضة، من نوع النباتات الموجودة جنب البحر. النوارس تحلّق بالسماء. هي جزيرة مهجورة جوار الساحل غير مزروعة؛ بنصف ساعة يمكنك الدوران حولها في زورق، أو قارب مطّاط شبيه بما يملكه هذان القادمان، رجل يجذّف هادئاً، وامرأة ممدّدة تتشمّس. اقترب الرجل منصتاً مهتماً.
سألته “ماذا تسمع؟”
قال “الصمت، للجزر صمت يمكنك أن تسمعيه”.
يتكوّن كلّ صمت، في الحقيقة، من شبكة أصوات دقيقة تطويه؛ ويتميّز صمت هذه الجزيرة عن محيط البحر الهادئ بما يتخلّله من حفيف نباتات وصيحات طير أو طنين أجنحة مفاجئ.
أسفل الصخر ماء، لكنه هذه الأيام دون خرير، ماء أزرق شفّاف نشط، تثقبه إلى الأعماق أشعّة الشمس. أعلى المنحدر الصخريّ أفواه الكهوف مفتوحة. في قارب مطّاط، يمضي الزوجان كسولَين لاستكشاف هذه الكهوف.
لا يزال جنوبيّ الساحل جذّاباً للسياحة، وقد جاء السابحان من مكان آخر. آسنلي، شاعر مشهور نوعاً، وداليا، امرأة فائقة الجمال.
داليا عاشقة للجنوب، عاطفية وعصبية قليلاً، ترقد بالقارب وتثرثر منتشية عن كلّ ما تراه، قد تُلمح نظرة عداء نحو آسنلي، فهو مُستجدّ على هذه الأماكن، وعلى ما يبدو لا يشاركها الحماسة كما ينبغي.
قال آسنلي “انتظري، انتظري”.
ردّت “أنتظر ماذا؟ هل يوجد أكثر جمالاً من هذا؟”
إنه مرتاب (بالسليقة، عبر خبرته الأدبية) من انفعالات الآخرين وكلماتهم، يألف كشف الجماليات الخفيّة المتبدّلة أكثر من الواضحة السرمدية، وهو عصبيّ متوتّر. السعادة، عند آسنلي، شرط متوقّع يقبض أنفاسكَ حين تعيشه. ومن بداية حبه داليا، كان يرى علاقته الحذرة الهزيلة مع العالم في خطر، فتمنّى ألاّ يتخلّى عن شيء، لا عن نفسه ولا السعادة التي انفتحت أمامه. يتأهّب، ككلّ درجة كمال أنجزتها الطبيعة حوله ـ صفاء الماء المزرقّ، أخضر الساحل الواهن إلى نحو الرماديّ، لمعة زعنفة سمكة في بقعة ينداح بها البحر رخياً ـ بما ينبئ عن درجة أعلى، حتى نقطة انفراج خطّ الأفق غير المرئيّ، كمحارة توحي فجأة بكوكب مختلف أو كلمة جديدة.
يدخلان كهفاً. بدأ مرحباً، كبحيرة داخلية بأخضر شاحب، تحت قنطرة عريضة من الصخر. ثم ضاق غوره إلى ممرّ معتم. دار الرجل بمجذافه على القارب ليتمتّع بما حوله من آثار الضوء المنوّعة. عبر المنفذ الناتئ، ضوء الخارج مبهر بألوان جعلته أكثر إشراقاً من نقيضه. والماء هناك وامض، ترتدّ رماح الضوء لأعلى في صراع مع الظلال الناعمة المنتشرة من الخلفية. يتّصل الانعكاس والومض بحوائط الصخر وقنطرة الماء الواهية.
قالت المرأة “هنا ندرك الآلهة”.
رد آسنلي “صه”. وهو عصبيّ، يترجم باله الأحاسيس إلى كلمات، لكنه يعجز الآن عن تشكيل كلمة واحدة.
يمضيان أبعد. يعبر القارب ماء ضحلاً؛ حدبة صخريّة في مستوى الماء، يطفو عندها القارب بين ومض نادر يظهر ويختفي عند كلّ ضربة مجذاف، والباقي ظلّ كثيف، فيخبط المجذاف بين حين وآخر في حائط. ترى داليا، في تطلّعها للوراء، فلك الأزرق في سماء مفتوحة وهو يغيّر حدوده بثبات.
صاحت وهي تنهض “سرطان بحريّ، ضخم، هناك”.
ردّ الصدى “… طان… هناااا”.
قالت مسرورة “الصدى”، وبدأت تصرخ بكلمات تحت القناطر الكالحة: ابتهالات، أبيات شعر.
خاطبت آسنلي “وأنت، اصرخ، تمنّ شيئاً”.
صرخ آسنلي “هووو… يااااا… صدى ى ى ى”.
يصرّ القارب بين فينة وأخرى. ثم تزيد العتمة دكنة.
“أنا خائفة. يعلم الله أن الحيوانات…”.
“نستطيع التقدّم أكثر”.
أدرك آسنلي أنه يتّجه إلى العتمة مثل سمك الأعماق الذي يتفادى الماء المشمس.
ألحّت “أنا خائفة، هيا نرجع”.
طعم الرعب عنده غريب. فجذّف راجعاً. ولدى رجوعهما، حيث ينفتح الكهف، يخضرّ أزرق البحر.
سألته داليا “يوجد هنا أخطبوط؟”
“كنتِ رأيته. فالمياه صافية جداً”.
“سأسبح إذن”.
انسلّت من جنب القارب، انسابت، سبحت أسفل البحيرة، وبدا جسمها أبيض أحياناً (كأن الضوء جرّده من أيّ لون يخصّه) وأزرق أحيانا كصفحة الماء.
كفّ آسنلي عن تجذيفه لاهث الأنفاس. في حبه داليا كان دائماً هكذا، كمرآة هذا الكهف؛ عالم ما وراء الكلمات. لهذا لم يكتب، في قصائده جميعاً، بيتاً عن الحبّ.
قالت داليا “اقترب”. وهي تسبح، خلعت فضلة الثوب التي تغطّي صدرها، ألقت بها للقارب. “دقيقة واحدة”، ثم حلّت الفضلة الأخرى التي تقيّد ردفيها فسلّمتها آسنلي.
هي الآن عارية. بارزٌ لحم صدرها وردفاها أشدّ بياضاً، تشعّ كلّها بلمعة أزرق واهن، كقنديل بحر. تسبح على جانب واحد، بحركة متراخية، خارج الماء رأسها (رأس تمثال، بتعبير صارم متهكّم)، يبدو منها أحياناً حنية كتف أو خطّ ذراع ناعم ممدود؛ بينما تغطّي ثم تكشف الذراع الآخر بضربات هدهدة، فتبدو قمّتا الصدر عاليتين مشدودتين. تخبط قدماها العاريتان الماء لتقوية البطن الملساء، تميزها سرّة كأثر واهن من الرمل، أو نجمة حيوان رخويّ. تنعكس أشعّة الشمس تحت الماء، فتمسّها رفيقاً، تغلّفها بنوع من لُباس، أو تجرّدها كلّياً من جديد. تحولت سباحتها إلى حركات رقص معلّقة بالماء، تبتسم نحوه، ثم تمدّ ذراعيها في سلاسة تكوّر الكتفين والرسغين، أو تقوم بدفع الركبة التي تجلب إلى السطح قدماً محنية كسمكة صغيرة.
آسنلي في القارب، كلّه عيون. أدرك أن ما منحته الحياة له الآن شيئاً، لا شخصاً ينظر إليه مفتوح العينين، كأنه في قلب شمس باهر. وفي قلب هذه الشمس صمت. لا يمكن ترجمة شيء في هذه الآونة إلى شيء آخر، ولا حتى في خياله.
تسبح الآن داليا على ظهرها، إزاء الشمس عند فم الكهف، فتنشأ حركة طفيفة من ذراعيها للخلاء، تحتها يبدل الماء ظلّه الأزرق إلى لون أشدّ شحوباً فيلمع أكثر.
“حذار، البسي شيئاً، هنالك زورق يقترب”.
فدخلت داليا بين الصخور، تحت السماء. انسلّت تحت الماء فمدّت ذراعها. ناولها آسنلي فضلتَي لباس البحر فربطتهما عليها، ثم سبحت لترتقي ثانية القارب.
اقترب زورق صيادين. تعرّف آسنلي عليهم؛ جماعة فقراء يقضون موسم الصيد على الشطّ وينامون بين الصخور. ذهب صوبهم. على المجذاف شابّ متجهّم من ألمٍ بأسنانه، يميل كاب بحريّ على عينيه الضيقتين، يجذّف مرتجفاً كأن كلّ جهد يبذله سيخفّف ألمه؛ أب لخمسة أولاد، حالة ميؤوس منها. بمؤخّرة الزورق عجوز، بقبّعة قشّ مكسيكية تتوّج صورته الهزيلة بهالة متهدّبة، وتتّسع عيناه المدوّرتان بإباء متغطرس على الأرجح، فهو سكّير جلف، فمه مفتوح تحت شارب متدلّ لا يزال مسودّاً، مع سكّين ينظف بها سمكة بوري صاداها.
صاحت داليا “صيد وفير؟”
ردّا “لا، شحيح، فهو عام نحس”.
تحبّ داليا الكلام مع الأهالي. عكس آسنلي. (قال “معهم، لا أملك وعيهم البسيط”. ثم رُدّ إلى نفسه، وترك الأمر برمته).
القارب الآن مقابل الزورق، حيث الدهان الباهت مخطّط بشدوخ ملفوفة بفصوص صغيرة، وقد رُبط المجذاف بحبل طويل إلى محبسه فكان يصرّ عند كلّ دورة من تهتّك الخشب بالجنبين، أما هلب المَرسَى فصدئ قليلاً بأربعة خطاطيف مشتبكة تحت لوح المقعد الضيّق بمصايد السِلال المجدولة، وسط لحية من طحلب أحمر يعلم الله منذ متى قد نشف؛ وفوق كومة الشِباك المصبوغة بحمض التنّيك المنقّطة عند حوافها بشرائح فلّين مدوّرة، سمك لامع يلهث برداء حراشفه الحادّة، أخضر كامد أو أزرق باهت، وتخرّ الخياشيم المبذولة تحتها بمثلث دم أحمر.
ظلّ آسنلي صامتاً، فكرب العالم البشريّ يتناقض وجمال الطبيعة الذي تواصل معه منذ قليل؛ هنالك خاب الكلام، وهنا يزدحم على باله فيض الكلام؛ كلام لوصف أيّ ثؤلول وكلّ شَعرة بوجه الصياد العجوز وهو نحيل حليق بشكل بدائيّ، وكلّ قشرة مفضّضة بسمك البوري.
على الشطّ رُبط زورق آخر، كان مقلوباً، يسنده لأعلى حصان نشر الخشب، تحته تبرز من الظلّ بواطن أقدام عارية لرجال نائمين، كانوا يصطادون ليلاً، بجانبهم امرأة في لباس أسود ضافٍ بلا ملامح، تجهّز على النار آنية طحالب، يخرج منها ذيل طويل من الدخان. أحجار ساحل الخليج رمادية، أما بقع الألوان المنقوشة الشاحبة فهي ظلال أولاد يلعبون، أصغرهم ترعاه أخواته الحزانى، ويلبس الأولاد أكبرهم وأنشطهم سراويل قصيرة قُصّت من سراويل قديمة كانت لناس أكبر، وهم يركضون ذهاباً إياباً بين الصخور والماء. يبدو امتداد الشطّ الرمليّ من بعيد أبيض مهجوراً، يختفي من جانب بحقول متّصلة عليها حصّادة قصب شاردة. هناك شاب بملابس الأحد السوداء حتى قبعته، عصاه على كتفه بصُرّة تتعلّق منها، يسير على طول شطّ البحر، وتُخلف مسامير حذائه قشوراً هشّة بالرمال؛ فلاح طبعاً أو راعٍ من قرى الداخل جاء للساحل يتسوّق أو لغرض آخر ثم اتّخذ دربه جنب البحر لشمّ النسيم العليل. تُبدي سكّة الحديد أسلاكها وضفّتها وقضبانها وسورها، ثم تتلاشى بالنفق لتبدو من جديد أبعد، لتختفي ثانية. ثم تنبعث كغُرز حياكة غير كاملة. فوق العلامات البيض والسود بالطريق السريعة، تبرز أجمة أشجار زيتون جاثمة، بينما الجبال جرداء في الأعالي، أرض محصودة أو محض شجيرات أو مجرّد صخر. تقع القرية في صِدع بين تلك الارتفاعات الممتدّة، بيت برأس الآخر، يفصل بينها شوارع مدرّجة ممهّدة بالحصباء، أوسطها مقعّر لمسير أيّ بغل حرون على المجرَى، تجلس نسوة في عتبات البيوت بلا حصر، عجائز وشابات، بينما يجلس فوق الأفاريز رجال بلا حصر أيضاً، كباراً وصغاراً، في صفوف، كلّهم بقمصان بيض، ويلعب الصغار على الأرض وسط الشوارع أو بمداخل البيوت. يرقد شابّ أكبر على الممرّ، ينام وخدّه فوق الدرَج، فالجوّ هناك رطباً أقلّ من البيوت وأخفّ كُرهاً برائحته؛ بأيّ مكان مضيء سُحب ذباب، وعلى كلّ جدار زينة من أوراق الجرائد، وحول المواقد رشَاش كثيف من وَسَخ الذباب. هلّ كلام على بال آسنلي، كلام وافر منسوج بعضه بالآخر، دون مسافة بين السطور، فلا تعود تميّز بين سطر وآخر إلا قليلاً، شَرَك تتلاشى فيه أصغر مسافة بيضاء فلا يبقى غير سواد، ثم سواد شامل غير قابل للنفاد، يائس كصرخة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
عاش إيتالو كالفينو (1923 ـ 1985) حياة حافلة، حيث ولد في كوبا ثم عاد لوطنه الأم، إيطاليا، حتى الحرب العالمية الثانية ففرّ من النازية والفاشية، واستقرّ فترةً في باريس ثم سافر لأمريكا فألقى محاضرات وسجّل تراث بلاده الشعبيّ، وكتب عدّة معالجات تليفزيونية وسينمائية. وفي نهاية حياته أُصيب بما أطلق عليه “الاكتئاب الفكريّ” ويصفه كالتالي “كنتُ صغيراً فترة طويلة، ثم بدأتُ عمري الطاعن على أمل أن أطيله لو بدأته مبكراً”.
زار اليابان وفرنسا والمكسيك، وكتب قصصاً غرامية نشرها في “بلاي بوي”، ونال أكثر من تكريم فخريّ وجوائز إبداعية من مختلف البلدان، وتنوّعت أساليبه من حامل لهواء الذكرى كمن يكتب حكايات خرافية إلى النمط الواقعيّ بشكله المشهديّ (كما في كتابه “غراميات بائسة”)، وبعضها في شكل ما بعد الحداثة بتأثيرها على الأدب وفعل القراءة، وبعضها قد يحمل سمة “الواقعية السحرية” التي انتشرت بأدب أمريكا اللاتينية.
يقول كالفينو “من خطّتي أن أتخلص من وطأة الثُقل في أدبي، فتخلّصت من ناس ثقلاء، من مدن ثقيلة، علاوة على أني حاولتُ التخلّص من ثُقل تركيبية القصص وخاصة ثُقل اللغة”.
ونترجم هنا قصته “مغامرة شاعر”، وهي عن الإلهام وارتباطه بجماليات وروحانيات المرأة:
* مجلة الحضارات.